12 عاماً بعد أحداث «الربيع العاصف»

حملت انتفاضة الخامس والعشرين من يناير لمصر فرصاً قليلة ومخاطر كثيرة. المحصلة بعد اثني عشر عاماً هي أن مصر نجحت في تجنب أسوأ مخاطر الربيع المزعوم، فيما فشلت في اقتناص الفرص التي بشّر بها، وانتهى بها الحال إلى موقع لا يبعد كثيراً عن الموقع الذي كانت تقف عنده قبل عواصف الربيع.
أتاحت الانتفاضة فرصة لإصلاح الدولة الوطنية، عبر إنهاء الجمود السياسي، وإدخال نخب ولاعبين جدد للمجال العام، وإعادة صياغة علاقات القوة فيما بين المؤسسات، وأيضاً بين القوى الاجتماعية والسياسية. ضاعت هذه الفرصة؛ لأنها كانت مجرد احتمال نظري، فيما كانت الوقائع وموازين القوى تشير إلى هشاشة قوى التغيير، وإلى أن الزخم الذي أجبر الرئيس مبارك على الاستقالة غير مستدام، وأن قوى الأمر الواقع أفضل تنظيماً وأكثر خبرةً، فاستعادت زمام المبادرة. ربما كان ممكناً الاستفادة من الفرصة التي لاحت لو أن النشطاء كانوا إصلاحيين أكثر وثوريين أقل، وكانوا سياسيين أكثر وحقوقيين أقل، وكان الإخوان مصريين أكثر وإسلاميين أقل، وكانوا أقل أنانية وأبعد أُفقاً وأقل هوساً بالسلطة؛ لكن هذه كلها شروط رغبوية غير واقعية، لذا تم إهدار الفرصة.
تُبين الأوضاع الراهنة في أغلب دول العرب التي ضربتها أعاصير الربيع أن مخاطر الحرب الأهلية، وانهيار الدولة، وتشريد المواطنين، والتدخل الأجنبي هي مخاطر حقيقية وليست مبالغات يطلقها خصوم الثورة. لقد نجحت مصر في تجنب كل هذه المخاطر، فكانت من الناجين، مع ملاحظة أن النجاة تختلف عن الفوز.
نجت مصر من خطر الوقوع في قبضة الإسلام السياسي، وهو من المخاطر التي أتت بها رياح الربيع. ينطوي خطر الإسلام السياسي على إشكاليات وألغام. فالإسلاميون يُمثّلون تياراً سياسياً يحظى بتأييد قطاعات غير قليلة من المواطنين. لمشروع الإسلاميين منطلقات متعارضة مع مشروع الدولة الوطنية، الذي قامت عليه نهضة مصر الحديثة منذ القرن التاسع عشر. آيديولوجيا الإسلاميين ترفض الدولة الوطنية عقدياً، وتدينها أخلاقياً. كل ما يعتبره عموم المصريين فضائل وإنجازات الدولة الوطنية ومصدر فخرها، يراه الإسلاميون ردة واجبة التصحيح. الإسلاميون راديكاليون رجعيون يريدون دفع التاريخ إلى الوراء، وتسلمهم مقاليد الحكم يحوّل فرصة الإصلاح التي لاحت في يناير إلى انتكاسة تُقوّض الدولة الوطنية. يصعب دمج الإسلاميين في نظام سياسي مفتوح لكل المواطنين، فيما يتعذر على نظام سياسي يستبعدهم أن يزعم الشمول السياسي، وهذه معضلة تاريخية مزمنة تعوق التطور السياسي لبلادنا.
بعد اثني عشر عاماً ما زالت مصر في حالة انتقال، فهي تسعى لتحقيق انطلاقة سريعة إلى الأمام، بينما تجاهد لتجنب تكرار أخطاء الماضي، أما المحصلة فتختلط فيها النجاحات والإخفاقات. تعد القراءة الحذرة لخبرة نظام مبارك، والحرص على تجنب تكرار أخطائه منطقاً حاكماً للأداء السياسي في هذه المرحلة. في مصر الراهنة نموذج لدولة مركزية تنموية، تعتمد على سلطة الدولة لتعبئة الموارد لتحقيق نمو اقتصادي سريع، فيما يمكن اعتباره نموذجاً نقيضاً للنيوليبرالية التي تم اتباعها في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس مبارك، والتي فيها توسّع القطاع الخاص، وزادت ثرواته، وتراجع دور الدولة، وزاد معدل النمو، وتعمّق التفاوت الاجتماعي. في نموذج المركزية التنموية الراهن تقلّص دور القطاع الخاص، وتضخّم دور الدولة، وزاد معدل النمو، وتعمّق التفاوت الاجتماعي، وزاد اختلال الميزان الخارجي، وزادت الديون، وتدهورت العُملة المحلية.
سمح نظام مبارك بهامش لحرية التعبير والنشر والأنشطة المعارضة. لم يكن هذا الهامش متسعاً بقدر كافٍ لجعل مصر دولة ديمقراطية، تحل تناقضاتها سلمياً عبر المؤسسات والانتخابات، ولم يكن ضيقاً فيمنع القوى الثورية من استغلال هامش الحرية المتاح للتنظيم والتحريض والتعبئة من أجل إسقاط النظام. القراءة السائدة لخبرة نظام مبارك ترى المشكلة في هذا الهامش، فأخضعته لضوابط أكثر إحكاماً، حرمت المنشقين من ثغرة يمكن العبور منها، وبالغت في الحذر أحياناً، فحرمت مؤيدين من دعم النظام بطريقة يختارونها؛ خوفاً من ثوريين وإخوان متربصين، يجيدون القفز على أنشطة بريئة فيحرفونها عن أغراضها.
استكملت مصر مرحلة كاملة من تحولات ما بعد الربيع، وظهر ما للصيغة الراهنة وما عليها، وشرعت البلاد في تنظيم حوار وطني يهدف إلى بناء توافق وطني حول صيغة جديدة أكثر فاعلية، تعكس المزاج السائد بين المصريين، والمتطلع إلى ما هو أكثر من النجاة وتجنب الأسوأ.
* باحث مصري