ليلة «طلالية» بامتياز، سطع فيها نجم الأغنية العربية طلال مداح مجدداً بعد غياب طويل امتد لعقدين ونيّف، منذ أن وافته المنية على مسرح «المفتاحة» الذي بات يحمل اسمه في مدينة أبها جنوب السعودية، ليغيب منذ تلك اللحظة جسداً عن محبيه، ويبقى صوته العذب يتردد ويصدح في قلوبهم، ويلامس أرواحهم ويضيء طريق العاشقين بغنائه الرقيق.
حفل بهيج احتضنته مدينة الرياض، كان عنوانه لدى محبيه «وقت اللقاء قرّب وحان»، ولزملائه الفنانين كان «الوفاء»، حيث اجتمعت أشهر الأصوات العربية، لتكريم الراحل وإحياء سيرته الفنية الزاخرة.
الدويتو الأخير بين محمد عبده ويظهر طلال مداح بتقنية الهولوغرام (تصوير: صالح الغنام)
استبق زميله حسين النجار الحفل وحضر في ردهات إذاعة جدة، مستعرضاً مقتطفات من مسيرة الراحل، مثمناً المبادرة التي سجلت نجاحاً استثنائياً، مؤكداً أن الوفاء سمة النبلاء، وأن طلال مداح أيقونة سعودية وخليجية وعربية يطرب لها محبوها في كل مكان. مستحضراً طيفاً من الماضي، في بدايات طلال عندما كان يسجل أجمل أغانيه في تلك الغرف العتيقة، التي كانت سبباً في انطلاقته وزملائه من جيله، إلى جميع أنحاء العالم العربي، وصناعة مجد جديد للأغنية السعودية.
سيرة إنسانية ومسيرة فنية استثنائية
سجل الراحل سيرة فنية استثنائية، حكى عنها جيله من الشعراء والفنانين، ممن شاركوه في بناء تجربته الغنائية، ومشواره الفني، وعلى خشبة المسرح، بُثّ حديث مصور ومليء بالمواقف والحكايات، التي جمعت قائمة من الشعراء والفنانين، مع «صوت الأرض».
عبد المجيد عبد الله وماجد المهندس يشدوان بأغنية لطلال مداح (تصوير: صالح الغنام)
وقال الأمير بدر بن عبد المحسن، إن طلال مداح كان مدرسة إنسانية، وإن أغنية «زمان الصمت» واحدة من روائع الفن السعودي، لم تكن لتكون لولا جرأة جيل طلال، نظير ما تتمتع به من حداثة تتجاوز التجربة الفنية المتواضعة في ذلك الوقت، لكن جرأة طلال ساعدت في ظهور الأغنية الخالدة.
من جهته أوضح الأمير تركي العبد الله الفيصل، أن طلال واحد من أعظم عازفي العود، وممن تطرب لعزفه، وهو أول من قاد التجديد في الأغنية السعودية، وكان سبّاقاً في نشر الفن السعودي إلى العالم، وتحديث الفن السعودي الأصيل، وتعريف العالم به، ووصف علاقته مع الموسيقار محمد عبد الوهاب، عندما لحّن له إحدى أغنياته، بأنه اعتراف مبكر من موسيقار كبير بعظمة موهبة طلال. وأضاف: «شارك طلال مع الأمير محمد العبد الله الفيصل وسراج عمر، في تكوين تجربة فنية أنتجت أغاني خالدة، من بينها أغنية (مقادير) الفارقة في تاريخ الفن السعودي، وكانت من أولى الأغنيات المصورة بطريقة الفيديو كليب، وجمعت عناصر نجاح كل أغنية، وهي اللحن والكلمات والأداء».
شبيه الفنان طلال مداح على المسرح مع نجوم الكرة السعودية (تصوير: صالح الغنام)
بدوره، رأى الأمير سعود بن محمد العبد الله الفيصل أن أغنية «مقادير» كانت نقطة تحول مهمة، وبلورة لتوأمة بين الشاعر الأمير محمد الفيصل والفنان طلال مداح، ورغم مرور عقدين على وفاته، يُكرم الفن اليوم من خلاله، بعد أن فقدت الساحة الفنية واحداً من أعمدتها.
فيما قال الأمير نواف بن فيصل إن الراحل طلال كان يتمتع بحس فكاهي وطرافة عفوية، وكان يجمع التواضع والبساطة والوفاء، وأضاف: «غمرتني السعادة عندما بدأ تعاوني مع الفنان طلال، عبر أغنية (عضّة إبهام)».
الفنانة الإماراتية أحلام شاركت في ليلة التكريم (تصوير: صالح الغنام)
الأمير الشاعر عبد الرحمن بن مساعد رأى أن طلال وجيله طوّروا في الأغنية السعودية فنقلوها من شكلها التقليدي إلى مرحلة جديدة ومختلفة. وتابع واصفاً مداح بالشخصية الفذّة بكل المقاييس، وهو فنان السهل الممتنع، بفضل صوته العذب، الذي مكّنه من أداء أغانٍ بالغة الصعوبة بسلاسة مطلقة، وكلما استمعت إلى واحدة منها، ستلمس جانباً جديداً فيها.
ووصف الأمير الشاعر سعود بن عبد الله، الراحل طلال، بخفيف الظل، وبأنه مريح لجلسائه، ودائم الابتسامة، ولم يرحل من قلوب الناس وأذهانهم، بفضل أعماله الخالدة، وتاريخه المشرّف. واستعاد رفقاء درب طلال طرفاً من سيرته وذكرياته، التي جمعتهم به خلال مشواره الفني العريض، فقال جميل محمود الملحن والموسيقي السعودي، إن طلال موهوب بصوت بارع وحنجرة ذهبية، وأسهمت أغنيته «وردك يا زارع الورد» في التعريف بموهبته للعالم العربي، وتابع: «كنت أردّدها قبل أن أتعرف على صاحبها»، وأضاف أنه «يُعد أستاذ الجيل، وكان كريماً فتح بيوتاً من خلال مساعدته للفقراء والمساكين، وعندما رحل لم يترك ثروة أكثر من سمعته الطيبة وأخلاقه الحسنة والفن العظيم، الذي أبقاه حياً في قلوب الناس حتى اليوم، ومن يُرد أن يتعلم الغناء من الشباب بطريقة سليمة، فعليه أن يتتلمذ على أغاني طلال».
أصيل أبو بكر (تصوير: صالح الغنام)
وكشف خالد أبو منذر، وكيل أعمال الفنان طلال، عن بدايات تعلقه بالفن، عندما فتحت الأسطوانات، التي كان يصطحبها خاله علي مداح إلى البيت، عينَي وأذنَي طلال على الفن، وتعرف من خلالها مبكراً على نجوم الغناء في الوطن العربي، مثل محمد عبد الوهاب، والسنباطي، والقصبجي، وفريد الأطرش، وأصبح شغوفاً بهذه المدارس الموسيقية، كما أنه كان يعشق آلة العود، وكان يقضي 8 ساعات يومياً في التمرن عليها، وكانت هذه الآلة ترافقه في حلّه وترحاله، ووصف طلال بأنه أهم من أسهم في تغيير خريطة الغناء في السعودية.
وكان لعائلته نصيب من التكريم، فقد كرّمها رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه تركي آل الشيخ، على مسرح «محمد عبده أرينا» في العاصمة الرياض، وأمام حضور كبير من الأمراء والشعراء والموسيقيين والإعلاميين السعوديين والخليجيين والعرب.
الفنانة نوال الكويتية (تصوير: صالح الغنام)
ومن جانبه، كرّم أحمد فاروق السفير المصري لدى المملكة، طلال وعائلته في «ليلة صوت الأرض»، بالإضافة إلى إطلاق اسم «صوت الأرض» على «استوديو SSL»، أحد استوديوهات «مرواس»، تكريماً لـ«قيثارة الشرق» وعطاءاته الفنية.
أغاني زرياب بكل الأصوات
هذا الجمع الغفير من الفنانين، خلق مزيجاً من الأصوات الجميلة، التي غنّت أجمل ما شدا به «صوت الأرض»، لتصنع ليلة من الخيال، حظيت بتعاون بين أكبر المطربين وفاءً وعرفاناً لطلال مداح، وعلى المسرح اجتمع فؤاد عبد الواحد، وفهد الكبيسي في أغنية «مرت»، وقدم الفنان علي عبد الكريم رفقة زميله عبد الله رشاد، الأغنية الخالدة «مقادير».
وبكل شجن ولحن عذب، غنّى هرما الأغنية العربية وليد توفيق وهاني شاكر «وردك يا زارع الورد»، كما صدح صوت طلال سلامة في أرجاء المسرح، تسابقه دموعه وهو يغني «زمان الصمت» رفقة الفنان راشد الفارس في وصلة لامست المشاعر والأحاسيس، ليعقبهم صابر الرباعي رفقة الفنانة نجوى كرم بأغنية «ما دام معايا القمر»، والتي غازلا من خلالها الحضور وداعبا مسامعهم بأداء رقيق وبديع. كما اجتمع سبعة من الفنانين العرب، هم: عبود خواجة، وعمر العبد اللات، ووليد الشامي، وعايض ومساعد البلوشي، وعبد الرحمن الحسن، وجابر الكاسر، في غناء مقاطع متنوعة من أشهر أغاني الراحل، في لوحة فنية شاركوا في رسمها وعرضها للجمهور على أكمل وجه.
واستمرت الليلة بعدد من الوصلات التي جمعت أشهر الفنانين، الذين جاءوا من كل أرجاء العالم العربي للغناء لطلال، وإمتاع محبيه وإعادة بعضٍ من ذكرياته.
عبادي الجوهر يكرم رفيقه مجدداً
كانت للفنان السعودي عبادي الجوهر لحظة آسرة في ثنايا الحفل، فمنذ بزوغ نجم عبادي الجوهر وبدايات ظهوره، ارتبط اسمه باسم مكتشفه وداعمه الأول طلال مداح، وكان ذكْرُ ذلك يجري على لسانه في كل وقت وفي كل المحافل منذ وفاته.
وفي بادرة وفاء من أخطبوط العود، سرد على المسرح ما يعني له «صوت الأرض»، وذكّر الجميع بما قدمه طلال للفن وله شخصياً، وطرفاً من صفات الراحل الحسنة التي عُرف بها، وذكّر بأن ليلة «صوت الأرض» هي بمثابة الفرصة لتكريمه مجدداً والعرفان بجميله، في هذا المحفل العملاق.
وقد وقف عبادي على المسرح، محتفظاً بآلة العود التي أهداها إليه طلال قبل وفاته بعام، واختار أن تكون ليلة تكريمه فرصة لرد الجميل، واستخدام عود طلال، وغناء رائعته «ماذا أقول»، التي رسم من خلالها الجوهر صورة من الوفاء لصديقة ومعلّمه وصاحب الفضل عليه، كما يقول دائماً.
الدويتو الأخير
كان طلال مداح ومحمد عبده قطبي التنافس في بواكير تدشين شكل الأغنية السعودية الحديثة، وكانت الساحة الفنية منذ سبعينات القرن الماضي حتى بداية الألفية، لا تخلو من المشاكسات الحميدة بين الطرفين، الأمر الذي أسهم في بناء مرحلة فنية ثرية وغنية، وأخرج أفضل وأجود ما لديهما، لغناء أجمل الأغاني، والمساهمة في نهوض الأغاني السعودية ونشرها للعالم العربي أجمع.
ورغم المنافسة فإن الوطن كان جامعاً لهما دائماً، فغنّيا الكثير من الأوبريتات الوطنية التي أضحت من أهم الأغاني المسموعة في جميع المحافل السعودية حتى اليوم، وأشهرها «مولد أمّة»، الذي اختُتم به حفل البارحة، بدويتو أخير بين محمد عبده وطلال مداح، وقد اجتمعا معاً في ليلة «صوت الأرض» عبر تقنية الهولوغرام التي حاكت وجود المداح، وأعادته إلى المسرح ليغني للوطن مجدداً.
طلال مداح... أربعون عاماً من الإبداع
وجاء تكريم طلال مداح تثميناً لعطاءاته الفنية ومسيرته الغنائية الاستثنائية، ولتميزه في لحنه وغنائه وحضوره البارز، إضافةً إلى تجاربه التي خاضها مع مغنين عرب وسعوديين أبرزهم عبادي الجوهر، وعبد الكريم عبد القادر، وعتاب، وفايزة أحمد، وسميرة توفيق، وذكرى، وسميرة سعيد، ونجاح سلام وسواهم، إضافةً إلى الأعمال التي جمعته بموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، ومحمد الموجي.
ويعد طلال مداح أحد أكثر الفنانين العرب تنقلاً بين البلدان، إذ شملت رحلته الفنية عدّة محطات عربية وعالمية، اشترك خلالها مع نجوم اللحن والفن والشعر، مما ساعد على وصول صوته لأشهر المسارح العربية أسوةً بنجوم الغناء العربي، من أمثال عبد الحليم حافظ، وأم كلثوم، وفريد الأطرش، كما حظيت أعماله بشهرة كبيرة، ووصل بصوته وبالأغنية السعودية إلى جميع أنحاء الوطن العربي.
ولشهرة طلال مداح وانتشار فنه في بلدان متعددة، مُنح خلال مسيرته الفنية الكبيرة، عدداً من الألقاب التي عكست ريادته الفنية ومكانته على الساحة الغنائية السعودية والخليجية والعربية، فهو الملقب بـ«صوت الأرض»، و«قيثارة الشرق»، و«الحنجرة الذهبية»، و«فارس الأغنية السعودية»، إضافةً إلى لقب «زرياب» الذي أطلقه عليه الفنان محمد عبد الوهاب.