مرت 5 سنوات على انطلاق العملية العسكرية المسماة «غصن الزيتون» التي نفّذتها القوات التركية بالتعاون مع فصائل ما كان يعرف بـ«الجيش السوري الحر» التي انضوت في العام 2017 ضمن ما يعرف بـ«الجيش الوطني السوري» الموالي لأنقرة والتي استهدفت منها تركيا منع إقامة ما تسميه «الحزام الإرهابي» على حدودها الجنوبية.
وأحيت وزارة الدفاع التركية (الجمعة)، الذكرى السنوية الخامسة للعملية التي استمرت لمدة 64 يوماً بعد انطلاقها في 20 يناير (كانون الثاني) 2018، وتم خلالها السيطرة على مساحة ألفي كيلومتر مربع في منطقة عفرين بمحافظة حلب شمال غربي سوريا التي كانت خاضعة لمدة 6 سنوات لسيطرة «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تشكل قوام «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)». وقُتل خلال العملية 7 آلاف و314 من عناصر القوات الكردية، حسب أرقام وزارة الدفاع التركية.
وقالت الوزارة، في تغريدة على حسابها الرسمي في «تويتر»: «في الذكرى السنوية الخامسة لعملية غصن الزيتون، التي دمّرت الممر الإرهابي الذي كان يراد إنشاؤه جنوب البلاد وضمنت أمن حدودنا وسكان المنطقة الأبرياء، نحيّي قواتنا المسلحة التركية وعناصرها الأبطال الذين نفّذوا العملية بنجاح».
وعملية «غصن الزيتون» كانت هي العملية العسكرية التركية الثانية التي دشّنت مرحلة التدخل التركي المباشر على الأرض في شمال سوريا بعد عملية «درع الفرات» التي سيطرت فيها تركيا والفصائل السورية الموالية لها على مناطق واسعة في حلب من جرابلس إلى الباب وأعزاز. كما كانت «غصن الزيتون» الحلقة الوسطى في سلسلة العمليات التركية، إذ أعقبتها عملية «نبع السلام» التي نفّذتها تركيا ضد مواقع «قسد» بالتعاون مع فصائل «الجيش الوطني» في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، لكنها لم تستمر طويلاً إذ انطلقت في التاسع من ذلك الشهر وتوقفت في الثاني والعشرين منه بعد تدخل الولايات المتحدة وروسيا، اللتين وقّعتا مع تركيا مذكرتَي تفاهم حملتا تعهدات بانسحاب «قسد» إلى مسافة 30 كيلومتراً جنوب الحدود التركية، وهو ما لم يتحقق حتى الآن ويتسبب في اتهامات من جانب أنقرة لكلتا الدولتين بعدم الوفاء بالتزاماتهما. وسيطرت القوات التركية والفصائل السورية عبر هذه العملية على مدينتي رأس العين وتل أبيض.
تقع عفرين على بُعد نحو 60 كيلومتراً عن مركز مدينة حلب في الجهة الشمالية الغربية، وهي أحد التجمعات الثلاثة للأكراد في شمال سوريا بالإضافة إلى الجزيرة التي تقع بمحافظة الحسكة وعين العرب (كوباني)، وهي منطقة حدودية محاذية لولاية هطاي في جنوب تركيا. لكنّ عفرين، على عكس منطقتي كوباني والجزيرة، تقع في نقطة بعيدة نسبياً عن المناطق الكردية الأخرى بشمال سوريا، وتحاذيها مدن ومناطق عربية ولا تجاورها في الجهة التركية مدن ولا قرى كردية. وتبلغ مساحتها 2 في المائة من مساحة سوريا.
- كيف جرت العملية؟
لم يكن بإمكان تركيا الشروع في عملية «غصن الزيتون» دون التفاهم مع روسيا، التي قامت قبل انطلاقها بساعات بسحب شرطتها العسكرية من عفرين، إلى جانب السماح لتركيا باستخدام سلاحها الجوي في العملية. وبدا أيضاً أن إيران والنظام السوري قَبِلا بالعملية التركية، ربما بفعل ضغوط روسيا التي كانت قد دخلت حقبة من التقارب مع تركيا عقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها الأخيرة في منتصف يوليو (تموز) 2016، على الرغم من استمرار الإعلام الإيراني والسوري الرسمي بوصف العملية بـ«غير الشرعية» وبـ«الاحتلال». كما وافق النظام على التفاوض مع قيادة حزب «الاتحاد الديمقراطي» الكردي السوري حول مصير المنطقة، تماشياً مع رغبة الحزب في استخدام شرعية الدولة السورية لمواجهة التدخل التركي.
ومما يعزز فكرة التفاهم التركي - الروسي ضمن مسار آستانة، أن تركيا لم تفرض نموذج حكم ذاتي في عفرين، في دلالةٍ على التنسيق الأمني مع الجانب الروسي، لكنَّ الإدارة الذاتية الكردية تتهم تركيا بإحداث تغيير ديمغرافي في المنطقة، وإحداث تغييرات في التمثيل السكاني ظهر عند تشكيل المجالس المحلية في عفرين، عن طريق فرض تمثيل غير عادل بمنح حصص أكبر للعرب والتأسيس للتركمان بصفتهم إحدى القوميات في عفرين، وإيجاد نخبة سياسية كردية جديدة من الموالين لها، وإقصاء الأكراد من العمل في المجالس المحلية.
وعمدت تركيا، كما يقول ناشطون وسكان محليون، إلى ملء الفراغ الذي نجم عن نزوح أكراد عفرين أو تهجيرهم، بنقل آلاف من عائلات مقاتلي فصائل «الجيش الوطني» وأقربائهم من العرب والتركمان إلى بيوت الأكراد.
ومنذ سيطرة الفصائل الموالية لأنقرة على عفرين تراجع الوضع الاقتصادي المرتكز على الزراعة، وتم إطلاق خطط استثمار استفاد منها التجار الأتراك الذين بدأوا ينشطون في عفرين، حيث وجدوا لهم سوقاً جديدة، بينما اتجه قادة بعض الفصائل في «الجيش الوطني» إلى تشغيل أموالهم مع تجار سوريين من أبناء الغوطة وحمص المهجرين قسرياً.
- انفلات أمني
وبالنسبة إلى الوضع الأمني، درَّبت أنقرة مئات العناصر من الشرطة المحلية بهدف توفير الأمن والحماية المدنية في مدارس تابعة لأكاديمية الشرطة التركية في أضنة ومرسين. وقُسمت عفرين وفقاً للتوزيع الجغرافي إلى 3 قطاعات أمنية، قُسمت بدورها إلى نواحٍ، تضم هذه القطاعات مركز شرطة عفرين، ومركز شرطة جنديرس، ومركز شرطة راجو. ويتبع هذا التقسيم السيطرة الأمنية والعسكرية التركية التي أعطت الأولوية لتأمين الحدود في راجو وجنديرس، وإلحاق المناطق الداخلية بمنطقة عفرين.
وأسست تركيا فرقة المهام السورية التابعة للقوات الخاصة التركية في مديرية الأمن العام التركية، وهي القوة الأمنية التركية الضاربة في عفرين، وتُعرف محلياً بـ«الكوماندوز التركي»، وتتألف من 12 وحدة موزعة على مناطق عفرين الإدارية، أما عناصرها فهي تابعة للإدارات الأمنية في أنقرة وهطاي وغازي عنتاب وكيليس وأضنة ومرسين.
وثبّتت تركيا مراكز أمنية وعسكرية تابعة لها من أجل فرض سيطرة كاملة على عفرين، مع توسيع هيكلة الفصائل السورية الموالية لها وضمها تحت مظلّة «الجيش الوطني»، من منطقة «درع الفرات» إلى عفرين، امتداداً إلى مناطق السيطرة ضمن عملية «نبع السلام» في شرق الفرات.
وعلى الرغم من ذلك، بقي الوضع الأمني في عفرين هشاً بسبب الاقتتال بين الفصائل، التي تمارس عمليات نهب للممتلكات وانتهاكات واسعة بحق السكان الأصليين.
وفي أكتوبر الماضي، اجتاحت «هيئة تحرير الشام» منطقة عفرين وبلدة كفرجنة على خلفية الاقتتال بين فصائل «الجيش الوطني» الموالي لتركيا، بعد اشتباكات مع «الفيلق الثالث» التابع لـ«الجيش الوطني»، عقب اعتقاله خلية اغتيال الناشط محمد عبد اللطيف أبو غنوم، التي اتضح أنها تتبع لفرقة «الحمزة» التي بادرت مع فصيل «السلطان سليمان شاه» (العمشات) للتحالف مع «هيئة تحرير الشام» وتسهيل دخولها إلى منطقة عفرين.
وأصابت «هيئة تحرير الشام» بقذائف الهاون القاعدة التركية في محيط كفرجنة، وعلى أثرها ردّت القوات التركية بشكل مباشر على مصادر النيران. واتخذت القوات التركية إجراءات لإخراج الهيئة من المنطقة، بعد حالة الغضب الشعبي والمظاهرات الرافضة لوجودها، وبروز مواقف دولية، وبخاصة أميركية وروسية، انتقدت التطورات.
وقرأت روسيا تلك الأحداث على أنها خطة معدة سلفاً لصَهر «تحرير الشام» في الفصائل الموالية لأنقرة. وحذرت من هذ الخطوة على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، الذي أكد «ضرورة عزل الإرهابيين وفي مقدمهم هيئة تحرير الشام».
وشن الطيران الروسي غارات جوية على ريف حلب، عدها مراقبون رسالة شديدة اللهجة من موسكو، مفادها رفض توسع نفوذ «هيئة تحرير الشام» باتجاه ريف حلب، وضرورة وفاء تركيا بتعهداتها السابقة بتفكيك «الهيئة» وعزلها عن الفصائل التي توصف بـ«المعتدلة».
- تغيير ديمغرافي
حسب تقرير لـ«المرصد السوري لحقوق الإنسان»، تسببت عملية «غصن الزيتون» في نزوح ثلث سكان المنطقة الأصليين، باتجاه مخيمات ومنازل شبه مدمرة في ريف حلب وغيرها من المناطق السورية. ولم تقتصر الانتهاكات على ذلك فحسب، وإنما بدأت عملية تغيير ديمغرافي في المنطقة، عبر توطين عائلات الفصائل في القرى السكنية النموذجية التي أنشأتها المؤسسات المدعومة من تركيا، إلى جانب «سرقة» المعالم الأثرية لطمس تاريخ الكرد في المنطقة، حسبما يقول منتقدو ما تقوم بها تركيا التي فرضت اللغة التركية كمادة أساسية في المناهج الدراسية كما شددت على ضرورة رفع عَلم تركيا على المدارس.
وعقب انتهاء عملية «غصن الزيتون» في 20 مارس (آذار) 2018، وصل عدد سكان عفرين خلال عام إلى 350 ألف نسمة، وتم تشكيل 7 مجالس محلية لإدارة شؤون مدينة عفرين وبلداتها، وتولت تركيا من خلال تلك المجالس تقديم خدمات الصحة والتعليم والصناعة والتجارة والثقافة والرياضة. وتم البدء في تدريس مناهج حددتها الحكومة السورية المؤقتة التي شكّلتها المعارضة السورية. وبمرسوم من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، تم تأسيس «كلية التربية» بعفرين في مركز المدينة، وهي تتبع «جامعة غازي عنتاب» التركية، إضافةً إلى افتتاح مجمع رياضي ومركز ثقافي.
- ماذا بعد؟
مضت 5 سنوات على عملية «غصن الزيتون» وما يقرب من 4 سنوات على عملية «نبع السلام»، اللتين استهدفتا «قسد» غرب نهر الفرات وشرقه، لكن تركيا لا تزال تشعر بالقلق من وجود القوات الكردية على حدودها، وتريد استكمال ما تسميها المناطق الآمنة بعمق 30 كيلومتراً. وتطالب الولايات المتحدة وروسيا بتنفيذ تعهداتهما في هذا الشأن. وتقول إن إنشاء حزام أمني على حدودها الجنوبية سيضمن أموراً ليس أهمها تأمين الحدود التركية الجنوبية، لكن أيضاً منع قيام «دولة إرهابية» ستهدد المنطقة بأسرها وستمزق وحدة سوريا، فضلاً عن رغبتها في ملء تلك المناطق الآمنة باللاجئين السوريين على أراضيها للتخلص من أعبائهم من ناحية، ولضمان سكان موالين لها من ناحية أخرى.
ودفع فشل الاتفاق بين أنقرة وواشنطن، ثم موسكو، إلى إخراج القوات الكردية من منبج، وكذلك عدم تنفيذ بنود تفاهمَي أنقرة وسوتشي الموقَّعين مع الولايات المتحدة وروسيا في أكتوبر 2019 بشأن إبعاد «قسد» عن الحدود لمسافة 30 كيلومتراً مقابل إنهاء عملية «نبع السلام»، بتركيا إلى التلويح أكثر من مرة بشن عملية عسكرية للسيطرة على منبج وتل رفعت وعين العرب (كوباني). وتعتقد أنقرة أن السيطرة على تلك المناطق سيتحقق هدفها بإبعاد «قسد» عن الحدود للمسافة المطلوبة والقضاء على «الحزام الإرهابي» الذي يسعى «حزب العمال الكردستاني» لإنشائه عبر وصل مناطق شمال سوريا مع شمال العراق ومع مناطق من إيران، وأن السيطرة على تلك المناطق ستقطع الصلة بين مواقع سيطرة الأكراد في شمال سوريا وشمال العراق.
لكن تركيا تواجه معارضة شديدة من جانب الولايات المتحدة، حليفة «قسد»، وكذلك من جانب روسيا التي تحاول إعادة سيطرة النظام على بقية مناطق الشمال السوري والتي كان لها دور في انتشار قوات النظام في مناطق سيطرة «قسد» بشمال سوريا وشرقها. كذلك تلقى تركيا معارضة من إيران التي ترفض أي عمل عسكري في المنطقة بدعوى أنه سيهز الاستقرار. كما أن الاتحاد الأوروبي يرفض بدوره أي تحرك عسكري تركي في المنطقة.
- تضاؤل الخيارات
ودفع تضاؤل الخيارات، والرفض الواسع للتحرك العسكري، تركيا إلى القبول بمبادرات بعيدة عن الحل العسكري، خصوصاً من جانب روسيا التي عرضت صيغة لانسحاب «قسد» إلى مسافة 30 كيلومتراً وإحلال قوات النظام محلها لضمان أمن الحدود التركية، كما دفعت باتجاه التقارب وتطبيع العلاقات بين تركيا ونظام الرئيس بشار الأسد، وسط رفض أميركي، وتشدد من جانب النظام بشأن الانسحاب التركي من شمال سوريا ووقف الدعم لفصائل المعارضة وإعلانها تنظيمات إرهابية، وهو ما يبدو صعباً أن تقبل به أنقرة، التي لا تثق حتى الآن بقدرة النظام على حماية الحدود، أو بجديته في ضبط «قسد».
كما تبدو مسألة الانسحاب التركي في هذه الظروف غير واردة وقد رهنتها أنقرة بتحقيق الحل السياسي وإحلال الاستقرار في سوريا، بينما تحاول موسكو إيجاد مخرج عبر تعديل اتفاقية أضنة الموقَّعة بين تركيا وسوريا عام 1998 والتي تضمن للقوات التركية الدخول إلى عمق 5 كيلومترات خلف الحدود مع سوريا حال وجود خطر على أمن تركيا، وتوسيع هذا المدى إلى 30 كيلومتراً.
وأقرت روسيا بالمخاوف الأمنية لتركيا. وقال وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، في تصريحات (الأربعاء)، انتقدتها الإدارة الذاتية الكردية، إن «واشنطن تسعى لاستخدام الأكراد لبناء دويلة في سوريا لإزعاج باقي الأطراف، ما يثير قلق تركيا»، لافتاً إلى أن روسيا تتفهم مخاوف أنقرة إزاء من تعدهم مقاتلين أكراداً خطرين في سوريا. لكن روسيا، مع ذلك، تحافظ على موقفها الرافض لأي عملية عسكرية تركية في شمال سوريا، وتتحرك باتجاه الحلول التوافقية بين أنقرة والنظام السوري، والتي قد تستغرق وقتاً طويلاً.