وادي الحِجر الأثري... بيوت منحوتة في الصخر

يقع في محافظة العلا السعودية

وادي الحِجر... مقابر نبطية منحوتة في الصخر
وادي الحِجر... مقابر نبطية منحوتة في الصخر
TT

وادي الحِجر الأثري... بيوت منحوتة في الصخر

وادي الحِجر... مقابر نبطية منحوتة في الصخر
وادي الحِجر... مقابر نبطية منحوتة في الصخر

جذبت الجزيرة العربية الواسعة كثيراً من الرحّالة، كان أولهم الإيطالي لودفيكو دي فارتيما الذي وصل إلى مكة المكرمة في مطلع القرن السادس عشر، فكان أول أوروبي، على ما يُقال، يدخل المدينة الأقدس عند المسلمين. ترك هذا المغامر موطنه في نهاية 1502، وقصد الإسكندرية، ثم توجّه إلى القاهرة، ومنها حطّ تباعاً في بيروت، طرابلس، وحلب. بعدها وصل إلى دمشق، وفي هذه المدينة، انضم إلى حامية مملوكية متّخذاً اسم يونس، ورافق قافلة للحجاج في أبريل (نيسان) 1503، وعبر في طريقه وادياً حسبه «وادي سدوم وعاموراء»، وهما مدينتان معروفتان في التراث الإسلامي، من مدائن قوم لوط، خربتا نكالاً من القدير، بحسب الرواية التوراتية.

كتب الرحّالة الإيطالي في وصف هذا الوادي: «وإني أقول إنه توجد ثلاث مدن كانت فوق قمم ثلاثة جبال، ولا يزال يوجد فوقها على ارتفاع أذرع ثلاث أو أربع، ما يبدو دماً يشبه الشمع الأحمر مختلطاً بالتراب. أقول لكم الصدق، إني أعتقد، بناء على ما رأيت، أن شعباً شريراً كان هنا، فكل ما يحيط بهذه البقعة صحراء قاحلة، فالأرض موات لا تنبت ما يؤكل، والماء معدوم، وقد كانوا يعيشون على المنّ، وقد عاقبهم الله لأنّهم كفروا بأنعمه، فحاق بهم عذابه، وترك ديارهم خراباً لتراها الأجيال».

يُجمع البحّاثة على القول إن الوادي الذي عبره لودفيكو دي فارتيما في طريقه إلى مكة هو في الواقع وادي الحِجر، الذي ذكره أبو القاسم الإصطخري في «المسالك والممالك»، حيث كتب في تعريفه به: «والحِجر قرية صغيرة قليلة السّكّان، وهي من وادي القرى على يوم بين جبال، وبها كانت ديار ثمود الذين قال الله فيهم: {وثمود الّذين جابوا الصّخر بالواد} (الفجر: 9)، ورأيت تلك الجبال ونحتها التي قال الله فيها: «وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين» (الشعراء: 149). ورأيتها بيوتاً مثل بيوتنا في أضعاف جبال، وتسمّى تلك الجبال الأثالب، وهي جبال في العيان متّصلة حتّى إذا توسّطتها رأيت كلّ قطعة منها قائمة بنفسها، يطوف بكلّ قطعة منها الطائف».
كتب الإصطخري هذا التعريف في القرن العاشر، ونقله ياقوت الحموي في «معجم البلدان» في منتصف القرن الثالث عشر، وشاع من بعده، فصار الحِجر «اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام»، وارتبطت مدائنها الأثرية في الذاكرة الجماعية بهذه الديار منذ ذلك التاريخ.

المسح الأول للموقع في مطلع القرن العشرين

آثار عجيبة
في «معجم معالم الحجاز» الصادر في سنة 1984، كتب عاتق البلادي في تعريفه بالحِجر: «وادي الحِجر المعروف، يصب في وادي العُلا (القرى) من الشمال... وهو رأس وادي القرى المعروف باسم وادي العلا». وكتب الباحث في تعريفه: «بلدة في شمال الحجاز ذات صبغة أثرية سياحية... فيها آثار عجيبة: بيوت منحوتة في الصخر، وقلات مخازن للمياه في الصخر، وجبالها بارزة ينفرد معظمها من غيره كأنه مغروس في الأرض». 
الرحّالة البريطاني الشهير تشارلز م. داوتي لم يكن من علماء الآثار، بل كان أديباً مفتوناً بالصحراء العربية، وبعد عام أمضاه في دمشق في دراسة اللغة العربية وإتقانها، انضمّ إلى قافلة حجاج متجهة إلى مكة المكرمة، وسافر برفقتها في خريف 1876، ووصل معها إلى المدينة، وثابر على زيارة أطلال وادي الحِجر، وسعى إلى وصفها بشكل دقيق، كما أنجز مجموعة من الرسوم التوثيقية لهذه الأطلال تُعتبر أوّل وأقدم «صُوَر» لهذا الموقع الأثري. من جهة أخرى، نقل داوتي مجموعة كبيرة من النقوش الكتابية، وأرسل الطبعات النافرة من طريق القنوات القنصلية إلى باريس، حيث أنجز العالم الفرنسي الفذّ إرنست رينان طباعتها، ثم درسها ونشرها في 1884، قبل صدور كتاب دوروثي في جزأين في عام 1888.
حاضرة نبطية

جرى مسح موقع وادي الحجر واستكشافه بشكل علمي في مطلع القرن العشرين، وقامت بهذه المهمة بعثة من «المركز الفرنسيّ لدراسة الكتاب المقدّس والآثار بالقدس»، قادها الكاهنان العالِمان أنطونان جوسين ورافائيل سافينياك. نُشرت الأبحاث الخاصة بموقع الحِجر بين 1909 و1914، وحوت مجموعة رائعة من الصور الفوتوغرافية الخاصة بهذا الموقع، إضافة إلى كشف مدقّق بكل ما جمعه العالمان الفرنسيان من كتابات منقوشة في نواحيه. تبيّن أن الحِجر هي نفسها «حيجرا»، المدينة التي ذكرها بطليموس في «كتاب الجغرافيا» في القرن الثاني، وهي المدينة التي ضُمّت إلى المملكة النبطية في منتصف القرن الأوّل قبل الميلاد، وبقيت كذلك حتى سقوط هذه المملكة في يد اليونان في سنة 106. وتبيّن أن قصور مدائن صالح هي في الواقع مقابر نبطيّة منحوتة بالصخر، كما تؤكد الكتابات المنقوشة الخاصة بهذه المقابر، وهي في الغالب نقوش تذكارية ترافق ما يقارب ثلث قبور الحِجر، محفورة في إطارات متفاوتة التزيين، منحوتة فوق الأبواب. وقد حافظت هذه المقابر على أسمائها المحلية بعدما اعتمدها تشارلز م. داوتي والبحّاثة الذين تابعوا عمله الاستكشافي، وباتت تُعرف بـ«جبل الأحمر»، «الديوان»، «السيق»، «قصر البنت»، «قصر الفريد»، و«قصر الصانع».
في عام 1978، عهدت وكالة المتاحف والآثار السعودية إلى المعهد الجغرافي الوطني الفرنسي مهمة إعداد خريطة علمية خاصة بموقع وادي الحجر، وتوثيق واجهات قبوره وترقيمها، فأتمّ المعهد هذه المهمة، وفُتح الباب الواسع منذ ذلك التاريخ، أمام حركة الأبحاث المتواصلة في الموقع. ذاع صيت وادي الحجر في الأوساط العلمية، غير أن شهرة الموقع ظلّت حكراً على هذا العالم، بخلاف مدينة البتراء النبطية التي تحوّلت إلى أشهر موقع سياحي في الأردن. وتسعى السعودية اليوم إلى تسليط الضوء على هذا الموقع الأثري ليحتلّ الموقع الذي يستحقّه في هذا الميدان.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

علاج فعّال يساعد الأطفال على التخلص من الكوابيس

العلاج أسهم في تقليل عدد الكوابيس لدى الأطفال (جامعة يوتا)
العلاج أسهم في تقليل عدد الكوابيس لدى الأطفال (جامعة يوتا)
TT

علاج فعّال يساعد الأطفال على التخلص من الكوابيس

العلاج أسهم في تقليل عدد الكوابيس لدى الأطفال (جامعة يوتا)
العلاج أسهم في تقليل عدد الكوابيس لدى الأطفال (جامعة يوتا)

كشفت دراسة أميركية أن علاجاً مبتكراً للأطفال الذين يعانون من الكوابيس المزمنة أسهم في تقليل عدد الكوابيس وشدّة التوتر الناتج عنها بشكل كبير، وزاد من عدد الليالي التي ينام فيها الأطفال دون استيقاظ.

وأوضح الباحثون من جامعتي أوكلاهوما وتولسا، أن دراستهما تُعد أول تجربة سريرية تختبر فاعلية علاج مخصصٍ للكوابيس لدى الأطفال، ما يمثل خطوة نحو التعامل مع الكوابيس كاضطراب مستقل، وليس مجرد عَرَضٍ لمشكلات نفسية أخرى، ونُشرت النتائج، الجمعة، في دورية «Frontiers in Sleep».

وتُعد الكوابيس عند الأطفال أحلاماً مزعجة تحمل مشاهد مخيفة أو مؤلمة توقظ الطفل من نومه. ورغم أنها مشكلة شائعة، فإنها تؤثر بشكل كبير على الصحة النفسية والجسدية للأطفال، إذ تُسبب خوفاً من النوم، والأرق، والاستيقاظ المتكرر، وهذه الاضطرابات تنعكس سلباً على المزاج، والسلوك، والأداء الدراسي، وتزيد من مستويات القلق والتوتر.

ورغم أن الكوابيس قد تكون مرتبطة باضطرابات نفسية أو تجارب مؤلمة، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، فإنها لا تختفي بالضرورة مع علاج تلك المشكلات، ما يتطلب علاجات موجهة خصيصاً للتعامل مع الكوابيس كاضطراب مستقل.

ويعتمد العلاج الجديد على تعديل تقنيات العلاج المعرفي السلوكي واستراتيجيات الاسترخاء وإدارة التوتر، المستخدمة لدى الكبار الذين يعانون من الأحلام المزعجة، لتناسب الأطفال.

ويتضمّن البرنامج 5 جلسات أسبوعية تفاعلية مصمّمة لتعزيز فهم الأطفال لأهمية النوم الصحي وتأثيره الإيجابي على الصحة النفسية والجسدية، إلى جانب تطوير عادات نوم جيدة.

ويشمل العلاج أيضاً تدريب الأطفال على «إعادة كتابة» كوابيسهم وتحويلها إلى قصص إيجابية، ما يقلّل من الخوف ويعزز شعورهم بالسيطرة على أحلامهم.

ويستعين البرنامج بأدوات تعليمية مبتكرة، لتوضيح تأثير قلّة النوم على الأداء العقلي، وأغطية وسائد، وأقلام تُستخدم لكتابة أفكار إيجابية قبل النوم.

وأُجريت التجربة على 46 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عاماً في ولاية أوكلاهوما الأميركية، يعانون من كوابيس مستمرة لمدة لا تقل عن 6 أشهر.

وأظهرت النتائج انخفاضاً ملحوظاً في عدد الكوابيس ومستوى التوتر الناتج عنها لدى الأطفال الذين تلقوا العلاج مقارنة بالمجموعة الضابطة. كما أُبلغ عن انخفاض الأفكار الانتحارية المتعلقة بالكوابيس، حيث انخفض عدد الأطفال الذين أظهروا هذه الأفكار بشكل كبير في المجموعة العلاجية.

ووفق الباحثين، فإن «الكوابيس قد تُحاصر الأطفال في دائرة مغلقة من القلق والإرهاق، ما يؤثر سلباً على حياتهم اليومية»، مشيرين إلى أن العلاج الجديد يمكن أن يُحدث تحولاً كبيراً في تحسين جودة حياة الأطفال.

ويأمل الباحثون في إجراء تجارب موسعة تشمل أطفالاً من ثقافات مختلفة، مع دراسة إدراج فحص الكوابيس بوصفها جزءاً من الرعاية الأولية للأطفال، ما يمثل خطوة جديدة في تحسين صحة الأطفال النفسية والجسدية.