تحدي العقلانية وتطور العقل

زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
TT

تحدي العقلانية وتطور العقل

زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)
زائرة في الهند لمعرض زهور يابانية مرتبة بطريقة تعرف بالـ«إيبيكانا» التي ترمز إلى السماء والأرض والبشرية في سبتمبر الماضي (إ.ب.أ)

يستبطن الفكر الإلحادي مسلَّمة أساسية، هي أن الاعتقاد الديني نتاج وعي بدائي، وأن تطور العقل ينطوي بالضرورة على تجاوز الإيمان، حيث يسود تصوُّر عن مباراة صفرية تدور رحاها بين الدين والعلم؛ فلا بد أن يختفي الأول تماماً مع التطور الفائق للثاني، ونجاحه في تأسيس سلطته الواسعة على مفهوم الحقيقة. وفي اعتقادنا أن ذلك الفهم لا يعدو أن يكون اختزالاً يضيِّق من أفق الوعي الإنساني، لأن المفاهيم المجردة والقضايا المعنوية، كالإيمان الروحي، هي ثمرة عقل متطور بالفعل، على عكس العقل البدائي الذي يقتصر إدراكه على الخرافي والمحسوس. دليلنا على ذلك أن صيرورة ارتقاء العقل البشري تكاد ترتبط بانتقاله من إدراك الوقائع الصلبة عبر الحواس الخمس إلى إدراك اللامرئي وغير المحسوس، وهي صيرورة تشبه كثيراً ارتقاء الفرد، ممثِّلاً للنوع الإنساني، حيث يبدأ الوعي الطفولي بإدراك المحسوس قبل المفاهيم المجردة؛ فحياة كل إنسان منا بمثابة تكرار لقصة النوع البشري.
إنها الصيرورة نفسها التي تواكب تقدمنا الحضاري؛ فالآلات التي نستخدمها، كالسيارة مثلاً، تتطور وظائفها نحو زيادة الأمان والسرعة والدقة في سياق يتوازى مع تطور المواد المستخدمة في صنعها من الحديد الصلد الذي يصعب تشكيله، إلى لدائن البلاستيك والمطاط التي تمنح الصانع مرونة وقدرة فائقتين على تشكيل جسم السيارة. والكومبيوتر الذي بدأ ضخماً يحتل منضدة كبيرة أخذ يصغر حجماً في اتجاه يتوازى مع تعقُّد وظائفه وتنامي قدراته، حتى صار «لاب توب» ثم محمولاً صغيراً في الجيب واليد. وهذا ما يمكن قوله على كل وسائل الاتصال، التي يتوازى تطورها وزيادة كفاءتها مع صغر حجمها وضيق الحيز المخصص لها. وعلى المنوال نفسه ينسج مفهوم القوة الذي تطور من استخدام جيوش ضخمة، مع مستوى أقل من الفعالية، إلى تشكيلات أقل حجماً مع قوة نيران أكبر وفعالية أدق، مروراً بالأسلحة فائقة التطور، التي تعمل بكفاءة متناهية عبر التوجيه الإلكتروني، وصولاً إلى مفهوم القوة الناعمة الذي ينتهج وسائل تأثير غير مرئية من الأصل، اقتصادية وثقافية وفنية، تتغلغل في بنية علاقات الدول، لتمارس الجذب والإغواء بديلاً عن القسر والإرغام.
هكذا تدلنا عشرات الأمثلة على أن حركة التقدم التاريخي هي محض انتقال من إدراك الكثيف والضخم والصلب إلى الخفيف والصغير واللين في صيرورة ارتقاء تكاد توازي الحركة من الأرض إلى الفضاء الكوني، أي من الكتلة المادية التي تحوي ما هو صلد، كالوديان والجبال والرمال، إلى الفضاء الذي يحوي موجات الأثير وتسبح فيه الكواكب والأجرام، إلى التفكير في المطلق والسعي إلى تصور عوالم المافوق والمابعد، وتلك هي مكونات عالم الغيب، الذي لا يمكن بلوغ كنهه بيقين، أو الإمساك به عبر الحس، ولكن يمكن تعقله وتصوره. ومن ثم ارتبطت مسيرة ارتقاء الدين بتنامي قدرة الإنسان على تصور إله مطلق، خالق، قادر، صنع الكون ولا يزال يسيّره من دون أن يكون محايثاً له أو مرئياً لنا، أي قدرة العقل على التمثل والتجريد. وعلى هذا، فإن العلاقة العكسية التي تضمرها الصيغة اليعقوبية/ الراديكالية من التنوير الأوروبي بين العقل والإيمان في مقابل علاقة شبه طردية بين العقلانية والإلحاد، ليست إلا اختزالاً لمفهوم العقل نفسه، نتحفظ عليه بأمور ثلاثة أساسية:
أولها: اختزال التجربة الدينية في الفضاء الأوروبي، وفي الكنيسة الكاثوليكية تحديداً، باعتبارها الأكثر تمثيلاً لادعاءات الدين في ترسيم معالم الحقيقة، حيث أنتج الكتاب المقدس، عبر التأويلات الرجعية له، إبستيمولوجيا كونية تتسم بآفات، كالتحديد الدقيق، والطابع المغلق، كان طبيعياً أن تصطدم بالنظريات العلمية الحديثة، المنفتحة على الجدة والنسبية، خصوصاً نظريات من قبيل: مركزية الأرض، والتطور، وعمر الكون، والطوفان، الأمر الذي أنتج صراعاً حدياً بين منطق العلم الجديد، ورؤية الكتاب المقدس، التي افتقدت الإحكام المنهجي. والمؤكد أن ما جرى في السياق المسيحي - الأوروبي، لا يمكن تعميمه على الفضاء الإنساني كله؛ فلم يجرِ ما يشبهه في نطاق الدين الطبيعي/ الآسيوي، رغم ما قدَّمته الديانات الهندية، خصوصاً الفيدية والبرهمية، مثلاً، من تصورات للزمان تعتمد مفهوم الدورة الكونية ذات العمر المحدد؛ لأن عمر تلك الدورات كان طويلاً جداً، يُعدّ بملايين السنين، على نحو جعلها أقل صداماً مع الرؤية العلمية. ورغم وجود بنية كهنوتية في الهندوسية تحكمت في النظام الاجتماعي وطبقاته الأربع التي يعلوها البراهمة، فلم تكن هناك سلطة بطريركية تشبه الكنيسة الكاثوليكية، ترعى نظرية علمية ما وتسعى إلى فرضها كحقائق أبدية. ولعل المثال الأكثر دلالة، يأتي من داخل الإسلام، الذي يخلو نصه التأسيسي تقريباً من أي نظريات علمية حول الطبيعة والتاريخ والإنسان، وإن أشار إلى آيات كونية، اعتُبِرت محض تنبيهات تدلل على الحقيقة الإلهية، من دون صياغة منهجية صارمة تضفي عليها انغلاقاً ذاتياً، وتضعها في دائرة الصراع مع أي حقيقة علمية يمكن اكتشافها. ولعله صحيح؛ أن مسيرة العلم العربي قد توقفت عن التطور منذ القرن الثالث عشر الميلادي على أكثر تقدير، ولكن ذلك الجمود يجد تفسيراته في ملابسات سياسية، وليست اعتقادية.
والأمر الثاني هو الدور الذي لعبه مفهوم التوحيد في ترقية الوعي الإنساني وتجهيزه للثورة العلمية الحديثة؛ ذلك أن التصور التوحيدي عن إله خالق يحكم الكون بقوانين كلية ومتسقة وضرورية، دفع البشرية خطوة مهمة على طريق العلم التجريبي الذي لم يكن ممكناً إلا انطلاقاً من مبادئ أنطولوجية كهذه تنهي التفسيرات الأسطورية والسحرية للعالم؛ فمعها لم يعد خلق العالم نتاجاً للصراع بين الأبطال والجبابرة، ولم تعد الطبيعة كائناً حياً تسكنه الأرواح الخيرة أو الشريرة، ولا ظواهرها الكبرى، كالشمس، والفيضان، والأنهار، والأمطار مسكونة بآلهة وثنية صغيرة تتحكم فيها على حدة، أو يديرها ساحر (شامان) يلهث خلف النذور والقرابين، مدعياً قدرته على القيام بأعمال سحرية يتحكم من خلالها في حركة العالم، وأقدار البشر على نحو يفضي إلى تجزؤ معمار الكون، وتفتت قوانين الطبيعة. هكذا مثل الوحي التوحيدي، بإزالته السحر القديم، ومنطقه الفوضوي، والأرواحية، ونزعتها التجزيئية، من قلب ظواهر الطبيعة، وفي المقابل تأكيده على مفهوم الإله الخالق والكون المخلوق والطبيعة المسخرة، محطة أساسية على طريق العقلنة الحديثة، فمع انتصار التوحيد لمفهوم الإله المطلق، انتصر في الوقت نفسه لكلية وشمول القوانين العلمية، ومن ثم قدم الأساس الأنطولوجي للتقدم العلمي.
والأمر الثالث هو أن الدور الأساسي للدين يتمثل في تقديم رؤية شاملة للوجود تبرر الحياة والموت، تلهم المعني وتومئ إلى المصير، لا تقديم رؤية معرفية للعالم، أي أنه غير معنيّ أصلاً بمنهجية دراسة وتحليل الظواهر الجزئية، الطبيعية أو الاجتماعية، من قبيل صوغ الفروض النظرية التي يتعين إثباتها أو نفيها، أو وضع المقدمات الضرورية التي تنطلق منها العمليات الاستدلالية، وصولاً إلى نتائجها المنطقية. وهكذا من قضايا علمية ومنهجية، وصفية أو تحليلية، ينأى عنها الدين، لأنها مرهونة بالعقل الإنساني وتطوره عبر التاريخ. يؤكد على فهمنا هذا حقيقة أن لا خصوصية دينية في دراسة الظواهر الطبيعية، القائمة على الملاحظة والتجريب، تبرر ربط منهج ما بعقيدة دينية معينة؛ فأمام الظاهرة الطبيعية وداخل المعامل والمختبرات لا خصوصية لباحث مسلم قد يذهب بعد نهاية عمله ليصلي في مسجد، أو لباحث بوذي في فريق العمل ذاته قد ينصرف إلى ممارسة النيرفانا واليوغا، أو لباحث ثالث يهودي قد يذهب إلى المعبد ناهيك بالمسيحي الذي ربما ذهب إلى الكنيسة. ولعل هذا الفهم يتوافق مع مذهب الحقيقتين لدى ابن رشد، ومع الفلسفة النقدية في ذروتها الكانطية، التي تؤكد على أن للمعرفة والإيمان طريقين مختلفين فعلاً، لكنهما غير متناقضين حتماً.
* باحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.