مراجعات لم يكتبها «الإخوان»... كيف وصلت الجماعة إلى بداية النهاية؟

مسار من الأخطاء والانشقاقات يشكك بقدرة التنظيم على التعافي من «محنته» الأخيرة

مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
TT

مراجعات لم يكتبها «الإخوان»... كيف وصلت الجماعة إلى بداية النهاية؟

مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)

يكاد تنظيم «الإخوان المسلمين» يكمل مائة عام من الوجود الصاخب، ورغم فشله في كل الساحات والمساحات وخصومته الممتدة مع المجتمعات والحكومات بما كان يحتم عليه أن يحرص على المراجعة الجادة لأهداف مشروعه ووسائله وسلوكه في السعي لأهدافه، خصوصاً مع ما تكبده من خسائر وما سبَّبه من دمار وخراب، أصاب مصائر الكثير من الدول التي ابتُليت بوجوده بين ظهرانيها. رغم ذلك كله، تمسكت الجماعة برفع شعار «المحنة» التي تستلزم الصبر، شاهرةً في وجه من يريد مراجعةً أو تقييماً الاتهامَ بأنه «داعية فتنة»، يستهدف بلبلة الصف «الإخواني» وهدم «الجماعة الربانية».
لم يُعرف عن «الإخوان» أي انخراط جاد في مراجعة، على مستوى الأفكار والأدبيات والسلوك والاجتهادات السياسية والفكرية، وهو ما أسهم في تكلسها تنظيمياً وفكرياً على نحو كان من أهم الأسباب التي ساقتها إلى محنها الحقيقية والمفتعلة. وقد ضربت الجماعة جملة من التطورات الدراماتيكية في السنوات الماضية، على نحو لم تعرفه عبر تاريخها تحلت في مواجهتها بحالة من حالات الإنكار التي جعلتها تحمّل الجميع مسؤولية ما جرى منها ولها، من دون أن تشير ولو من طرف خفيّ بإصبع الاتهام إلى مناهج التفكير أو التدبير التي حكمت سلوكها، سواء في مرحلة ما قبل يناير (كانون الثاني) 2011 أو ما جرى خلال يناير وما تلاها من وصولها للحكم على نحو ما يعرفه الناس جميعاً.
- خطايا التأسيس
لم تبدأ خطايا الجماعة مع الانتقال من مربع الدعوة والتربية إلى مربع السياسة ومحاولة الوصول للحكم الذي استجلب عليهم غضب الجميع في الداخل والخارج، يوم أعلنها حسن البنا في العام 1938 مع رسالة المؤتمر الخامس التي كشفت حقيقة مشروعه بوصفه مشروعاً سياسياً يتوسل بالدين، السلاح الأكثر فاعلية في السيطرة على عواطف الناس. منذ هذه اللحظة، بدأ نزيف الجماعة الشعبي على عكس ما يعتقد الكثيرون، وبدأ الصعود ولكن نحو الهاوية في الحقيقة. فقد غادرها الكثير من الشخصيات العاقلة، ممن ارتبطت بها تحت دعاوى الإحياء الإسلامي والدعوة لتمكين القيم الإسلامية من النفوس، والتوسل في الأساس بنمط محبب للمصريين وهو التصوف، إذ غلبت على عملية التربية والدعوة في هذه المرحلة، المأثورات ووظائف الحركات الصوفية.

محمد مرسي وإلى يمينه محمود حسين الذي يقود إحدى الجبهات المنقسمة (غيتي)

لم تناقش أبداً جريمة تأسيس ما سُمي بـ«النظام الخاص»، تلك الميليشيا العسكرية الموازية للنظام العام للجماعة، والذي خرج تماماً عن سيطرة حسن البنا وإن كان البعض يعتقد أن الأمر لم يكن يعدو توزيعاً للأدوار، وأن التدبير كان يقتضي أن يفعل «النظام الخاص» ما يفعله، فإذا كُشف أمره أعلن البنا أنه غير مسؤول عن أعماله.
في لقاء جمعني بمحمد فريد عبد الخالق -وكان سكرتيراً لحسن البنا في أحرج المراحل- أكد أن البنا غضب من عمليات «النظام الخاص» غضباً شديداً، وظل يردد وهو يشد شعره: «أنا أبني وهم يهدمون». إذن فقد بدأ الهدم مبكراً بالفعل، ولم يكن حسن البنا قد استكمل البناء بعد، إذ دخلت الجماعة صراعاً مفتوحاً مع الجميع، وفقدت قيادة المؤسس الذي كان لا يزال يحتفظ بالكثير من الأفكار والخطط لجماعته، وقد هضم الدرس بأن سلوك مسار السياسة ومخالفة نصائح شيخ كالحافظ التيجاني الذي نصحه بألا يقترب من السياسة ويبقى في دائرة الدعوة والتربية، كان خطأ كارثياً أدركه قبل اغتياله بشهور.
- «مفاصلة شعورية» وعزلة وجدانية
ظلت الجماعة تمارس نشاطها بإرادة النظام الخاص ورؤيته المغلقة في الفترة من 1949 بعد اغتيال مؤسسها حتى تغيرت طبعتها تماماً مع سيد قطب في 1954 الذي كتب خطتها الجديدة لتنتقل من حالة «روح جديدة تنساب في الأمة لتحييها بالقرآن» بتعبير البنا، إلى حالة «المفاصلة الشعورية» والعزلة الوجدانية التي تنطلق من النظر إلى المجتمعات الإسلامية بوصفها مجتمعات جاهلية، ابتعدت عن حاكمية الله لحساب حاكمية البشر وضلَّت في التصور والاعتقاد والسلوك، ما أنتج أفكار الاستعلاء الإيماني. وأتعجب كيف يستقيم جمع كلمة استعلاء مع إيمان في جملة واحدة؟ ولكن الفكرة مرت وكسبت في السجون زخماً وأنصاراً جدداً، حتى تحورت فكرة «الإخوان»، لتترسخ في وعيهم مقولات «المؤامرة على الإسلام بين كيد أعدائه وجهل أبنائه» أو «جاهليتهم»، كما سمّاها قطب.

القرضاوي حاول التوسط في صراع الجبهات (إ.ب.أ)

وبين مؤامرة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في 1954 وتنظيم 1965 الذي تزعمه سيد قطب، جرت تحت الجسر مياه، وانتعشت نظريات سيد قطب ووجدت أنصاراً ودخلت الجماعة نفقاً طويلاً، كان آخره تجربة «الإخوان» القصيرة في حكم مصر والتي سيطرت على مقدراتها مجموعة قطبية أدمنت العمل السري ولم تتحرر من مشكلاته حتى عندما وصلت إلى الحكم، ولم تتصرف إلا بالطريقة التي درجت عليها واعتادتها طوال عقود.
نحن هنا أمام مدرستين في التفكير والتدبير يستحيل الجمع بينهما... فقد بدا أن محاولة الجمع بين السلمية والعنف، بين السرّيّ والعلنيّ، بين الدعوة والسياسة، بين الشارع والحكم، محاولة للإمساك بكل شيء. وهو السلوك الذي تمسكت به الجماعة عبر تاريخها، بحديثها عن نفسها كهيئة إسلامية جامعة بتعبير البنا، وبدا أمراً مستحيلاً، تأكدت استحالته بالتجربة والبرهان، بما يؤكد الحاجة إلى مراجعة مفصلة لتلك المواضع التي تأكد فيها فشل «الإخوان» عبر تاريخهم الممتد خلال قرن من الزمان، وما يقف وراء ذلك من قيم وأفكار ومفاهيم.

شكَّلت محاولة اغتيال عبد الناصر في 1954 نقطة تحول في مسيرة «النظام الخاص» للجماعة (غيتي)

تبدو المراجعة أمراً يفرضه العقل، أو بتعبير «الإخوان» الأثير حين يعتقدون في حتمية شيء فيقولون إنه «فريضة شرعية وضرورة بشرية»، وهو ما ينطبق على المراجعة التي نناقش فيها ما جرى لهذا التنظيم: أفكاره، وقيمه، ومشاريعه، وأهدافه، ووسائله، وفعله بنفسه وبالآخرين. عبر مراجعة هادئة لم يكتبها «الإخوان»، أتقمص فيها شعور «الإخوان»، من دون عقلهم المحجوب خلف أساطير التنظيم، آمل بأن أبدد الدخان الذي حجب الرؤية عن عقولهم التي أدمنت الإنكار.
- «جماعة المؤمنين» ووهم «الرعاية الإلهية»
«صنع الله دعوة الإخوان المسلمين على عينه، فرسم لها طريقها وحدد لها أهدافها واختار لها الخير في كل خطواتها ومراحلها حتى في حالة الهزيمة والانكسار، بل إن أشخاصها وقيادتها جاءت أشبه بالاختيار الرباني فعكست في أفكارها وتصرفاتها وقرارتها الشخصية، وربما صفاتها وأسمائها العناية الإلهية لدعوة الإخوان، والتي تضع كل شيء في موضعه ونصابه لذا لم تكن مصادفة أن يكون حسن البنا هو المرشد الأول الذي بدأ الدعوة ووضع البناء، وحسن الهضيبي هو المرشد الثاني الذي قاد سفينة الدعوة في محنتها وتصدى لمن كادوا لها من رجال الثورة فكان الهضبة التي تحطمت عليها مخططاتهم ومكائدهم، ثم جاء عمر التلمساني بعده فأعاد تجميعها وتلمّس لها خطواتها بعد المحنة الناصرية، وحل بعده حامد أبو النصر مرشداً رابعاً فكان عنوان النصر الذي أحرزه الإخوان في النقابات ونوادي هيئات التدريس والمجالس المحلية والبرلمان إلى أن توفاه الله، وتولى بعده مصطفى مشهور الذي يضع الإخوان عليه الآمال في أن يعيد شهرة الجماعة عالمياً، وهو صاحب الجهد الأكبر في بناء وقيادة التنظيم العالمي للإخوان».

مصطفى مشهور ومأمون الهضيبي يتصدران مشيعي جنازة حامد أبو النصر التي شهدت «بيعة المقابر» عام 1995 (غيتي)

يرى الباحث حسام تمام أن هذه المقولة التي صدّر بها أحد الصحافيين «الإخوان» حواراً أجراه مع مصطفى مشهور، عقب توليه منصب المرشد العام لـ«الإخوان» سنة 1996، تكشف بجلاء طبيعة النظرة «الإخوانية» لتاريخ الجماعة، بوصفه تاريخاً لجماعة المؤمنين التي تعهدتها الرعاية الإلهية، فالله تعالى هو من رسم طريقها واختار لها كل خطواتها. إذن أي خلاف أو نقد في تلك الحالة يكون أقرب إلى التجديف والإلحاد، فمن ذلك الشخص الذي يستدرك على فعل الله في خلقه؟ بهذه الروح تعامل «الإخوان» مع تاريخهم، وجرائمهم بحق الدين والوطن، ثم الادعاء المكرر بنصرتهما في كل ما فعلوه عبر تاريخهم.
في حواره مع المتحدث الإعلامي لجبهة محمود حسين، إحدى الجبهات المتنازعة على قيادة التنظيم والمعروفة بـ«جبهة إسطنبول»، مع قناة «مكملين» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، قال علي حمد إن «التنظيم هو الضمانة التي تحول دون الذوبان والاندماج مع الغير»، في سياق تبريره للتمسك بالتنظيم، رغم حالة الانقسام التي تحولت فيها الجماعة من حالة التنظيم الواحد والقيادة الواحدة إلى شظايا تدّعي كل منها أنها الأقدر على تجسيد أفكارها وقيادة مشروعها الملتبس وتنظيمها الغامض المشتت.

لم تدرس الجماعة بجدية أسباب فشل تجربة حكم الرئيس السابق محمد مرسي القصيرة (غيتي)

الفارق الزمني بين المقولتين الأولى والثانية يتجاوز عقدين من الزمان، لكن طريقة التفكير واحدة، بما يعكس حقيقة أن التنظيم «الإخواني» يعد -عند الجماعة- هدفاً بذاته، لا وسيلة لتحقيق مشروع ما.
- كيف سيطر «النظام الخاص» على روح «الإخوان»؟
المتأمل في تاريخ التنظيم وتركيبة قيادته يدرك أنه ظل تنظيماً سرّياً غامض الأهداف يتوسل بجمهور عريض لا يعرف شيئاً عن حقيقة أهدافه ووسائله، إلا ما عرفه من خلال تنظيم عام ادعى الصلة بالدعوة ومكارم الأخلاق وتمكين القيم من النفوس.
أنشأ حسن البنا التنظيم واحتفظ بخطته الاستراتيجية، وكثيراً ما كان يُسرّ إلى أقرب خلصائه بأنه لا يبوح عن خططه إلا في الموعد المناسب، فتدرّج في الانتقال من الدعوة إلى السياسة مراوحاً بين السرّية والعلنية... بين السلمية والعنف.
كتب البنا كل وثائق التنظيم المعروفة، سواء رسائل أو لوائح، وظل هو المفسر الحصري لها مع دائرة ضيقة من رجال «النظام الخاص»، وتحديداً خلية العشرة الذين قادهم مصطفى مشهور وأحمد حسنين معتقداً أن القدر سيمهله لتحقيق خطته والإفصاح عن مراحلها، لكنه قُتل في فبراير (شباط) 1949 قبل أن يصل إلى تحقيق تلك الأهداف.

أعضاء «الإخوان» في جامعة الأزهر خلال أعمال عنف عقب نهاية تجربة حكم الجماعة في 2013 (غيتي)

لذا بعد وفاته أمسك رجال «النظام الخاص» بقيادة التنظيم. وظلت هذه القيادة بشخوصها ونهجها هي الأمينة على أفكار حسن البنا ومشروعه، ولم يكن ظهور البعض ممن حُسبوا على التنظيم العام الدعوي سوى شكل من أشكال العلاقات العامة والاختباء خلف قيادات تبدو مدنية.
في هذا السياق، قدم النظام الخاص حسن الهضيبي، القاضي القريب من الملك (كان متزوجاً من ابنة ناظر الخاصة الملكية وقيل إنه اختيار القصر)، ورغم أن الهضيبي حاول أن يحل هذا النظام أو يعيد تأهيله ليكون خاضعاً له فإنه فشل بطبيعة الحال.
تلا الهضيبي عمر التلمساني الذي كان واجهة مدنية بشخصيته وعلاقاته بالقوى السياسية المصرية، ليتسلل النظام الخاص تحت عباءته إلى المجتمع المصري من جديد. وقد شهد عهده بروز هذا التزاوج بين من تبقى من رجال «النظام الخاص» ومجموعة القطبيين، وهم تلك الفئة التي استلهمت أفكار سيد قطب التكفيرية لتصنع مزيجاً خاصاً يجمع بين مراوغة البنا وصراحة قطب.
وبوفاة التلمساني، لم يعد «النظام الخاص» بحاجة للاختباء فقد أُعيد بناؤه من جديد، ومعه نظام عام يختبئ فيه، قوامه الوجود في النقابات والجامعات والبرلمان. قاد مصطفى مشهور الجماعة وبرزت وجوه «النظام الخاص» في عام 1986 مع ولاية محمد حامد أبو النصر الذي كان من رجال «النظام الخاص». لكن ظل مشهور يقود التنظيم فعلياً إلى أن مات أبو النصر في العام 1996، وحدثت ما تسمى «بيعة المقابر»، حيث بايع رجال «النظام الخاص» مشهور وهم يدفنون أبو النصر، في إيحاءٍ بمؤسسية زائفة لم تتمسك بها الجماعة يوماً.
ومضى قطار التنظيم يشق طريقه في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر والكثير من أقطار العالم، ليصل مع خروجه من حكم مصر إلى مرحلة التشظي، وينقسم إلى أربعة كيانات تنظيمية... فماذا جرى للتنظيم الذي اكتسب قوته وتأثيره محلياً وإقليمياً وربما دولياً عبر تنظيم وقيادة واحدة؟ وكيف خسر التنظيم وحدته؟ وما مستقبله في ظل كل ما جرى، خصوصاً مع حالة الانكشاف الأخلاقي والسياسي التي يعيشها؟
- أخطر انقسامات «الإخوان»... متى وأين وكيف؟
لا يكاد القارئ الذي يطالع ما ينشر عن خلافات جبهات «الإخوان» المتصارعة، أن يدرك كيف وصل قطار الجماعة التي عُرفت دوماً بتنظيمها الحديدي إلى محطة الانقسام والتفتت، ما يستدعي تقديم استقصاء دقيق يوضح للقارئ الوقائع المتتالية التي تكشف حقيقة ما جرى.
في كل الصراعات بين التنظيم والدولة في مصر، كانت هناك خطوط حمر في المواجهة بين الطرفين، وكانت هذه الخطوط تُمكن التنظيم من إعادة بناء صفوفه واستعادة لُحمته، فماذا حدث هذه المرة؟
على خلفية مطاردات واسعة ونوعية لأجهزة الأمن المصرية في أعقاب فض اعتصامي «رابعة» و«النهضة» في أغسطس (آب) 2013، وبعد أيام قليلة من خروج «الإخوان» من حكم مصر، اختفت تقريباً معظم قيادات التنظيم خشية القبض عليهم وحرصوا على عدم التواصل بعضهم مع بعض.
كان هذا الهروب إيذاناً بحدوث أول فراغ قيادي كامل في تاريخ التنظيم، خصوصاً بعد القبض على معظم الهيكل القيادي المتمثل في مكتب الإرشاد والمكاتب الإدارية بالمحافظات وكذلك مجلس الشورى العام.
أدار التنظيم أموره وفقاً للمستجدات بمن تبقى من قياداته، إذ آلت إدارته إلى عضوي مكتب الإرشاد محمد كمال، ومحمد عبد الرحمن المرسي معاوناً له، ضمن مجموعة سُميت لجنة إدارة الجماعة.
وفي سياق سيولة لم يعرفها التنظيم في صفوفه عبر تاريخه بهذه الحدة، دار نقاش بين محمد كمال المنتمي إلى التيار القطبي في الجماعة، ومن تبقى من قيادات التنظيم حول مشروعية حمل السلاح في مواجهة أجهزة الأمن، إذ راجت فتاوى تماهت مع النقاش تحرض على قتل ضباط الجيش والشرطة، وحدثت بالفعل جرائم بحق الكثير من الضباط، وظهرت حركات مسلحة تتبع مباشرة تنظيم «الإخوان»، بل يشرف محمد كمال على تمويلها وترتيب خططها في استهداف الشرطة والجيش (وفق تصريحات سابقة لقادة «إخوان»، ومعلومات من قادة حاليين من جبهة محمود حسين).
كان رد الشرطة حاسماً على مجموعات العمل المسلح التابعة لـ«الإخوان»، فتم قتل مجموعة الثمانية التابعة للجماعة في منطقة 6 أكتوبر (غرب القاهرة)، وهي المجموعة التي كانت تشرف على إدارة التنظيم تحت يد محمد كمال. كان ذلك في يوليو (تموز) 2015. وساعتها أدرك تنظيم «الإخوان» أن الدولة لن تتهاون في استخدام القوة لمواجهة تنظيماته المسلحة.
حدث ساعتها نقاش كبير داخل «الإخوان». حذر إبراهيم منير من أن الاستمرار في المقاومة المسلحة للسلطة سيدفع النظام المصري إلى استخدام ورقة العنف لتصنيف التنظيم في الغرب بوصفه تنظيماً إرهابياً، ومن ثم بدأت بعدها مراجعة سياسة «الإخوان» من جانب منير وحسين ومن في نفس موقفهما، ليتم إعلان إقالة محمد كمال من إدارة التنظيم وحل اللجنة التي تدير الجماعة بالكامل.
رفض محمد كمال الأمر ومعه فريق قليل، منه علي بطيخ ومحمد منتصر الذي تم تعيينه متحدثاً إعلامياً باسم جبهة محمد كمال. كان ذلك أول شقاق كبير داخل «الإخوان» منذ فقدوا حكم مصر. بات محمد كمال معزولاً ومعه قلة قليلة، بينما أدار إبراهيم منير ومحمود حسين التنظيم من الخارج تحت قيادة القائم بأعمال المرشد محمود عزت، إذ أُعلن أن عزت رفض مسار العنف وتمسك بـ«السلمية» في مواجهة السلطة. كان هذا تأكيداً على حدوث الانقسام الأهم بين كمال الذي اعتمد العنف مساراً مباشراً ومفتوحاً في مواجهة الدولة، وعزت الذي تمسك بالكمون والرفض العلني للعنف.
- محطة الخلاف الثاني
تكرس الخلاف بين الطرفين. وخرج محمد كمال ببيان بعنوان «إبراء ذمة» يحكي فيه كيف تم إقصاؤه، وأنه لم يتأخر عن تلبية الدعوة من جانب قادة «الإخوان» للنقاش حول مستقبل الجماعة، ودعم موقفه في هذه الفترة بعض القيادات مثل علي بطيخ ومجدي شلش ومحمد منتصر، وغيرهم.
ومع دخول أكتوبر (تشرين الأول) 2016، أُعلن عن مقتل محمد كمال على يد قوات الأمن، لتبدأ ساعتها الاتهامات من جانب مجموعته لقادة التنظيم بالمسؤولية عن مقتله، وأنهم هم من أبلغوا الأمن عن مكانه، ليدخل التنظيم في أتون أزمة وخلاف أكبر.
بدأ كل من محمود حسين وإبراهيم منير ممارسة نشاطاتهما وسلطاتهما بوصفهما «القيمين على التنظيم». وأعلنا فصل القيادات المحسوبة على جبهة كمال كافة، خصوصاً مع إصرار هذه القيادات «الكمالية» على الصدام المسلح مع السلطة، فكان قرار الفصل لكل الداعمين لاستخدام العنف في مصر، ليصبح كل هؤلاء بنهاية 2017 وبداية عام 2018 خارج التنظيم، وبالتالي بات التنظيم جماعتين في هذه اللحظة.
- تنظيم «الإخوان» يصبح ثلاث جماعات
لم تقف الأمور عند هذا الحد، إذ أُلقي القبض على محمود عزت، القائم بأعمال المرشد العام في أغسطس 2020، ليبدأ النقاش حول خلافته، ومن هو الأحق بهذه الخلافة؟ احتج محمود حسين بكونه الأمين العام للجماعة، وعضو مكتب الإرشاد الوحيد خارج مصر، بينما أكد منير أنه الأحق، لأنه كان يدير التنظيم بالخارج، فضلاً عن عضويته في مجلس الشورى العالمي.
بادر منير باتخاذ إجراءات لحسم الصراع لصالحه، فأقدم على تشكيل لجنة معاونة له في إدارة التنظيم وحل ما يعرف بمكتب الإرشاد، ملغياً منصب الأمين العام، ليردّ حسين في المقابل معلناً رفض هذه القرارات بالمطلق، ومعلناً فصل إبراهيم منير ومجموعته التي شكَّلها لإدارة التنظيم، وهي لجنة من سبعة أشخاص، متذرعاً بأن أعضاء مجلس الشورى العام داخل مصر، كلهم يدعمون موقفه. وهو أمر مشكوك في صحته بالنظر لوفاة أكثر أعضاء المجلس والقبض على من تبقى منهم.
لم يكن لدى جبهة منير أي وجود داخل مصر من القيادات المحسوبة على الصف الأول، فكلهم إما في الخارج وإما في السجون، ولذلك كانت ورقة «الداخل المصري» هي الورقة التي يضغط بها حسين على جبهة منير.
جرت محاولات متعددة للصلح بين الطرفين قادها المصري يوسف القرضاوي والموريتاني محمد الحسن ولد الددو. كما جرت محاولتان للتفاهم، قادهما محمود حسين، حضر في إحداهما بنفسه للقاء محمد البحيري، القيادي التاريخي المحسوب على إبراهيم منير، لكن النقاش والاجتماع لم يسفرا عن شيء حتى وفاة منير مطلع الشهر الماضي، ما أكد أن الخلاف مستمر ليتكرس الانقسام داخل الجماعة التي ظلت تنظيماً مركزياً صارماً لعقود، فاستحالت ثلاث جماعات أو أكثر، كل منها يدّعي أنه الأمين على مشروعها والممثل لعناصرها.
- هل نشهد انهيار تنظيم «الإخوان» من داخله؟
في معرض تعليقه على مقال كتبه أكاديمي «إخواني» سابق تناول الخلافات التنظيمية بين فروع التنظيم، علق قيادي «إخواني» سابق تعليقاً كاشفاً عن طريقة التفكير الحالية لقطاع واسع داخل الجماعة، ربما يعطينا فكرة عن حقيقة ما يجري في الجزء الأكبر من التنظيم البعيد عن ضجيج المعركة التي يدور أوارها على مواقع التواصل الاجتماعي.
لم يعطِ المعلق وزناً يُذكَر لتلك الخلافات التنظيمية التي يراها عَرَضاً لمرض ونتيجة وليست سبباً، حتى عبَّر بسخرية قائلاً: «بالله عليكم أنتم بتتخانقوا على إيه؟»، مضيفاً: «لو عدنا لأصل المشكلة التي تتفرع منها بقية المشكلات فهي الأزمة الفكرية... ثم بدأ بطرح السؤال الأهم: هل من الصحيح تكوين جماعة شاملة عوضاً عن مفهوم الإسلام الشامل الذي يسع الجماعة وغيرها؟».
وأشار الرجل إلى أن الخلط بين شمولية الدين وشمولية التنظيم، دفع الجماعة إلى أن تكون إطاراً موازياً للدولة، وبالممارسة لم تعد «جماعة من المسلمين» بل جعلت من نفسها «جماعة المسلمين» التي من المفترض أن تنمو إلى دولة. فمنذ أن رأى البنا سقوط الخلافة العثمانية، أراد أن يكون دولة مصغرة بكل مقوماتها تكبر مع الزمن، من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع إلى الدولة إلى الخلافة إلى أستاذية العالم، وهنا نفهم أن الجماعة هي المنوط بها هذه المهمة، ومن ثم فأي نفي لفكرة «جماعة من المسلمين» لا يعد صحيحاً، لأن الممارسة تكشف عن أنها ترى نفسها «جماعة المسلمين» تتطور رويداً رويداً حتى تصل إلى «أستاذية العالم».
ولذلك في الأفكار والمفاهيم، فهي «دعوة سلفية، طريقة سنية، حقيقة صوفية، هيئة سياسية، جماعة رياضية، رابطة علمية ثقافية، شراكة اقتصادية، وفكرة اجتماعية»، حسبما وصفها البنا!
لقد أراد البنا أن يقدم الجماعة من كل الأبواب الممكنة، بما يسهل تمددها، إلا أن محاولته ومن بعده كانت تحمل مسببات التعثر، فقد أصبح التنظيم بلا رؤية سياسية واضحة.
وربما تجدر الإشارة هنا إلى ما رصدناه في أكثر من دراسة عن إصابة «الإخوان» بعمى استراتيجي كامل، وهو ما تشرحه فقرة لاحقة يقول فيها: «ولذلك اصطدم (التنظيم) مع نظام الملك (فاروق) وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وحتى الآن، ولا يمكن اعتبار ما حدث للجماعة من تنكيل ظلمت فيه إلى حد كبير، مقابلاً لصحة موقفها، فلا يمكن الحكم على مسار أنه صواب لأنه تم التنكيل بأصحابه».
هذه الفكرة نزلت إلى ميدان التجربة (ومن غير المتصور أنها كانت تعتقد أنها ستعمل في فضاء بلا عائق)، كانت شرعية في زمن الملك فانقسمت وتعثرت، وتحالفت مع نظام يوليو فتعثرت مرة ثانية، وعارضت نظام السادات ومبارك فتعثرت مرة ثالثة، وسعت إلى الحكم بعد 2011 فتعثرت مرة رابعة.
في كل أطوارها: من وجود قانوني، إلى وجود غير قانوني، إلى تحالف، إلى معارضة، ثم سعي إلى حكم... كانت مآلات الجماعة هي التعثر والتنكيل. وفي أدبياتها تستدعي «غزوة أحد» كأن مسار الدعوة الإسلامية كان كله «غزوة أحد»!
إذا كانت التجربة الميدانية، بأكثر من شكل وفي أكثر من زمان، لم تأتِ بغير التعثر، وهو ما حدث في الجزائر وسوريا وتونس والمغرب واليمن والعراق والسودان... كله تعثر، في أكثر من زمن وأكثر من بلد، ألا يدعو هذا إلى التفكير في أصل الفكرة نفسها: معطيات كهذه تؤدي دائماً إلى نتائج كهذه؟
بينما تلفت شهادة أخرى إلى أن هناك «كهانة» تسيطر على عمل «الإخوان» التنظيمي، بدت مظاهرها -على حد تعبيره- في رغبة البعض أن يبدو كأنه شخص غير عادي يعلم ما لا يعلمه الآخرون، لديه حرص على الجاه والسلطة، يغلفه دائماً بالتأكيد على الزهد في الدنيا والمناصب، والتأكيد على أن كل كلمة أو سلوك إنما هي لوجه الله، مؤكداً أنه في الوقت الذى يعلم فيه الجميع أنه لا وجود لتنظيم على أرض الواقع، وإن ظل البعض لسنوات عجاف يتكلم باسمه ويتشدق باللائحة ويزعم التواصل مع الإمام الغائب، ويتكلم في وسائل الإعلام باسم تنظيم لا وجود له، وما ذاك إلا كذب أو تدليس من دون اكتراث بتوابع ذلك على مصالح الدولة المصرية، أو ما يتعرض له المنتمون السابقون أو من هم في السجون أو المطلوبون، ألا يعد ذلك في أحسن الظنون تقديماً لرغبات نفسية لدى بعض الرموز على مصالح كبرى ذات اعتبار؟
ولو تكلمنا بالمنطق فإن هذا الإصرار ليس إلا تضحية بالآخرين وبكل شيء مقابل رغبة شخصية غير مشروعة، وذلك سلوك الكهنة الذين باعوا الدين ومصالح العباد في الدنيا والآخرة، من أجل كهنوت شخصي يعبّر عن نفسية وضيعة. إن سلوك الكهنة هو الذى يعطي المبرر الوحيد لما يتعرض له الأفراد من بلاء، بينما هم حناجر وألسنة لمن يعيشون في مأمن خارج البلاد من دون عمل أو حياء.
نحن أمام شهادتين لافتتين تعرّيان حقيقة التنظيم، ليس عبر نقد من مراقبين من خارجه أو من كتاب محايدين، بل عبر أقلام من داخل الجماعة تفكر بطريقتها وتشعر بمشاعر أعضائها، وهذا مكمن الأهمية، على طريقة و«شهد شاهد من أهلها».
بين طرح للسؤال الوجودي الصحيح الذي ينسف الجماعة ويؤكد ضرورة زوالها، وبين شرح وافٍ للكهانة التي تتمسك بها قيادات تتمسك بإدارة تنظيم متداعٍ حرصاً على مكاسبها الشخصية، ومن دون اكتراث لما جناه الدين والوطن... يبدو أننا وللمرة الأولى بعد عقود من وجود التنظيم، أمام حراك داخله قد يؤدى إلى طرح الأسئلة الصحيحة التي لن تخطئها الإجابات، ليس من خارج التنظيم تلك المرة ولكن من داخله، فمثل هذه التنظيمات في العادة تنهار من الداخل وليس من الخارج، خصوصاً أن التجربة أثبتت أن كل هجوم أو نقد من خارجها، يستنفر عوامل الدفاع الذاتي ويؤخر التعافي من مرض التنظيم الذي لا أظن أن يعبر لقرن قادم.
* باحث مصري في شؤون جماعة «الإخوان المسلمين»


مقالات ذات صلة

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

أوروبا العلم الألماني في العاصمة برلين (أ.ب)

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

صادرت الشرطة الألمانية أجهزة كومبيوتر محمولة وأموالاً، خلال عمليات مداهمة استهدفت جمعية إسلامية تم حظرها حديثاً، ويقع مقرّها خارج برلين.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان استقبل السيسي في مطار أنقرة في إسطنبول (من البث المباشر لوصول الرئيس المصري) play-circle 00:39

السيسي وصل إلى أنقرة في أول زيارة لتركيا

وصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة، الأربعاء، في أول زيارة يقوم بها لتركيا منذ توليه الرئاسة في مصر عام 2014

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي قوات من الأمن بميدان التحرير في القاهرة (أ.ف.ب)

مصر: توقيف المتهم بـ«فيديو فيصل» وحملة مضادة تستعرض «جرائم الإخوان»

أعلنت «الداخلية المصرية»، الثلاثاء، القبض على المتهم ببث «فيديو فيصل» الذي شغل الرأي العام، مؤكدة «اعترافه» بارتكاب الواقعة، بـ«تحريض» من عناصر «الإخوان».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
أوروبا الإعلامي بقناة «الشرق» الإخوانية عماد البحيري تم توقيفه بسبب التهرب الضريبي (من حسابه على  «فيسبوك»)

تركيا توقف إعلامياً في قناة إخوانية لتهربه من الضرائب

أحالت السلطات التركية، (الخميس)، المذيع بقناة «الشرق» المحسوبة على «الإخوان المسلمين»، عماد البحيري، إلى أحد مراكز التوقيف بدائرة الهجرة في إسطنبول.

سعيد عبد الرازق (أنقرة )
شمال افريقيا الرئيس عبد المجيد تبون (د.ب.أ)

الجزائر: فصيل «الإخوان» يرشح الرئيس تبون لعهدة ثانية

أعلنت حركة البناء الوطني (فصيل الإخوان في الجزائر)، الجمعة، عن ترشيحها الرئيس عبد المجيد تبون للانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في 7 سبتمبر المقبل.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.