مراجعات لم يكتبها «الإخوان»... كيف وصلت الجماعة إلى بداية النهاية؟

مسار من الأخطاء والانشقاقات يشكك بقدرة التنظيم على التعافي من «محنته» الأخيرة

مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
TT

مراجعات لم يكتبها «الإخوان»... كيف وصلت الجماعة إلى بداية النهاية؟

مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)

يكاد تنظيم «الإخوان المسلمين» يكمل مائة عام من الوجود الصاخب، ورغم فشله في كل الساحات والمساحات وخصومته الممتدة مع المجتمعات والحكومات بما كان يحتم عليه أن يحرص على المراجعة الجادة لأهداف مشروعه ووسائله وسلوكه في السعي لأهدافه، خصوصاً مع ما تكبده من خسائر وما سبَّبه من دمار وخراب، أصاب مصائر الكثير من الدول التي ابتُليت بوجوده بين ظهرانيها. رغم ذلك كله، تمسكت الجماعة برفع شعار «المحنة» التي تستلزم الصبر، شاهرةً في وجه من يريد مراجعةً أو تقييماً الاتهامَ بأنه «داعية فتنة»، يستهدف بلبلة الصف «الإخواني» وهدم «الجماعة الربانية».
لم يُعرف عن «الإخوان» أي انخراط جاد في مراجعة، على مستوى الأفكار والأدبيات والسلوك والاجتهادات السياسية والفكرية، وهو ما أسهم في تكلسها تنظيمياً وفكرياً على نحو كان من أهم الأسباب التي ساقتها إلى محنها الحقيقية والمفتعلة. وقد ضربت الجماعة جملة من التطورات الدراماتيكية في السنوات الماضية، على نحو لم تعرفه عبر تاريخها تحلت في مواجهتها بحالة من حالات الإنكار التي جعلتها تحمّل الجميع مسؤولية ما جرى منها ولها، من دون أن تشير ولو من طرف خفيّ بإصبع الاتهام إلى مناهج التفكير أو التدبير التي حكمت سلوكها، سواء في مرحلة ما قبل يناير (كانون الثاني) 2011 أو ما جرى خلال يناير وما تلاها من وصولها للحكم على نحو ما يعرفه الناس جميعاً.
- خطايا التأسيس
لم تبدأ خطايا الجماعة مع الانتقال من مربع الدعوة والتربية إلى مربع السياسة ومحاولة الوصول للحكم الذي استجلب عليهم غضب الجميع في الداخل والخارج، يوم أعلنها حسن البنا في العام 1938 مع رسالة المؤتمر الخامس التي كشفت حقيقة مشروعه بوصفه مشروعاً سياسياً يتوسل بالدين، السلاح الأكثر فاعلية في السيطرة على عواطف الناس. منذ هذه اللحظة، بدأ نزيف الجماعة الشعبي على عكس ما يعتقد الكثيرون، وبدأ الصعود ولكن نحو الهاوية في الحقيقة. فقد غادرها الكثير من الشخصيات العاقلة، ممن ارتبطت بها تحت دعاوى الإحياء الإسلامي والدعوة لتمكين القيم الإسلامية من النفوس، والتوسل في الأساس بنمط محبب للمصريين وهو التصوف، إذ غلبت على عملية التربية والدعوة في هذه المرحلة، المأثورات ووظائف الحركات الصوفية.

محمد مرسي وإلى يمينه محمود حسين الذي يقود إحدى الجبهات المنقسمة (غيتي)

لم تناقش أبداً جريمة تأسيس ما سُمي بـ«النظام الخاص»، تلك الميليشيا العسكرية الموازية للنظام العام للجماعة، والذي خرج تماماً عن سيطرة حسن البنا وإن كان البعض يعتقد أن الأمر لم يكن يعدو توزيعاً للأدوار، وأن التدبير كان يقتضي أن يفعل «النظام الخاص» ما يفعله، فإذا كُشف أمره أعلن البنا أنه غير مسؤول عن أعماله.
في لقاء جمعني بمحمد فريد عبد الخالق -وكان سكرتيراً لحسن البنا في أحرج المراحل- أكد أن البنا غضب من عمليات «النظام الخاص» غضباً شديداً، وظل يردد وهو يشد شعره: «أنا أبني وهم يهدمون». إذن فقد بدأ الهدم مبكراً بالفعل، ولم يكن حسن البنا قد استكمل البناء بعد، إذ دخلت الجماعة صراعاً مفتوحاً مع الجميع، وفقدت قيادة المؤسس الذي كان لا يزال يحتفظ بالكثير من الأفكار والخطط لجماعته، وقد هضم الدرس بأن سلوك مسار السياسة ومخالفة نصائح شيخ كالحافظ التيجاني الذي نصحه بألا يقترب من السياسة ويبقى في دائرة الدعوة والتربية، كان خطأ كارثياً أدركه قبل اغتياله بشهور.
- «مفاصلة شعورية» وعزلة وجدانية
ظلت الجماعة تمارس نشاطها بإرادة النظام الخاص ورؤيته المغلقة في الفترة من 1949 بعد اغتيال مؤسسها حتى تغيرت طبعتها تماماً مع سيد قطب في 1954 الذي كتب خطتها الجديدة لتنتقل من حالة «روح جديدة تنساب في الأمة لتحييها بالقرآن» بتعبير البنا، إلى حالة «المفاصلة الشعورية» والعزلة الوجدانية التي تنطلق من النظر إلى المجتمعات الإسلامية بوصفها مجتمعات جاهلية، ابتعدت عن حاكمية الله لحساب حاكمية البشر وضلَّت في التصور والاعتقاد والسلوك، ما أنتج أفكار الاستعلاء الإيماني. وأتعجب كيف يستقيم جمع كلمة استعلاء مع إيمان في جملة واحدة؟ ولكن الفكرة مرت وكسبت في السجون زخماً وأنصاراً جدداً، حتى تحورت فكرة «الإخوان»، لتترسخ في وعيهم مقولات «المؤامرة على الإسلام بين كيد أعدائه وجهل أبنائه» أو «جاهليتهم»، كما سمّاها قطب.

القرضاوي حاول التوسط في صراع الجبهات (إ.ب.أ)

وبين مؤامرة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في 1954 وتنظيم 1965 الذي تزعمه سيد قطب، جرت تحت الجسر مياه، وانتعشت نظريات سيد قطب ووجدت أنصاراً ودخلت الجماعة نفقاً طويلاً، كان آخره تجربة «الإخوان» القصيرة في حكم مصر والتي سيطرت على مقدراتها مجموعة قطبية أدمنت العمل السري ولم تتحرر من مشكلاته حتى عندما وصلت إلى الحكم، ولم تتصرف إلا بالطريقة التي درجت عليها واعتادتها طوال عقود.
نحن هنا أمام مدرستين في التفكير والتدبير يستحيل الجمع بينهما... فقد بدا أن محاولة الجمع بين السلمية والعنف، بين السرّيّ والعلنيّ، بين الدعوة والسياسة، بين الشارع والحكم، محاولة للإمساك بكل شيء. وهو السلوك الذي تمسكت به الجماعة عبر تاريخها، بحديثها عن نفسها كهيئة إسلامية جامعة بتعبير البنا، وبدا أمراً مستحيلاً، تأكدت استحالته بالتجربة والبرهان، بما يؤكد الحاجة إلى مراجعة مفصلة لتلك المواضع التي تأكد فيها فشل «الإخوان» عبر تاريخهم الممتد خلال قرن من الزمان، وما يقف وراء ذلك من قيم وأفكار ومفاهيم.

شكَّلت محاولة اغتيال عبد الناصر في 1954 نقطة تحول في مسيرة «النظام الخاص» للجماعة (غيتي)

تبدو المراجعة أمراً يفرضه العقل، أو بتعبير «الإخوان» الأثير حين يعتقدون في حتمية شيء فيقولون إنه «فريضة شرعية وضرورة بشرية»، وهو ما ينطبق على المراجعة التي نناقش فيها ما جرى لهذا التنظيم: أفكاره، وقيمه، ومشاريعه، وأهدافه، ووسائله، وفعله بنفسه وبالآخرين. عبر مراجعة هادئة لم يكتبها «الإخوان»، أتقمص فيها شعور «الإخوان»، من دون عقلهم المحجوب خلف أساطير التنظيم، آمل بأن أبدد الدخان الذي حجب الرؤية عن عقولهم التي أدمنت الإنكار.
- «جماعة المؤمنين» ووهم «الرعاية الإلهية»
«صنع الله دعوة الإخوان المسلمين على عينه، فرسم لها طريقها وحدد لها أهدافها واختار لها الخير في كل خطواتها ومراحلها حتى في حالة الهزيمة والانكسار، بل إن أشخاصها وقيادتها جاءت أشبه بالاختيار الرباني فعكست في أفكارها وتصرفاتها وقرارتها الشخصية، وربما صفاتها وأسمائها العناية الإلهية لدعوة الإخوان، والتي تضع كل شيء في موضعه ونصابه لذا لم تكن مصادفة أن يكون حسن البنا هو المرشد الأول الذي بدأ الدعوة ووضع البناء، وحسن الهضيبي هو المرشد الثاني الذي قاد سفينة الدعوة في محنتها وتصدى لمن كادوا لها من رجال الثورة فكان الهضبة التي تحطمت عليها مخططاتهم ومكائدهم، ثم جاء عمر التلمساني بعده فأعاد تجميعها وتلمّس لها خطواتها بعد المحنة الناصرية، وحل بعده حامد أبو النصر مرشداً رابعاً فكان عنوان النصر الذي أحرزه الإخوان في النقابات ونوادي هيئات التدريس والمجالس المحلية والبرلمان إلى أن توفاه الله، وتولى بعده مصطفى مشهور الذي يضع الإخوان عليه الآمال في أن يعيد شهرة الجماعة عالمياً، وهو صاحب الجهد الأكبر في بناء وقيادة التنظيم العالمي للإخوان».

مصطفى مشهور ومأمون الهضيبي يتصدران مشيعي جنازة حامد أبو النصر التي شهدت «بيعة المقابر» عام 1995 (غيتي)

يرى الباحث حسام تمام أن هذه المقولة التي صدّر بها أحد الصحافيين «الإخوان» حواراً أجراه مع مصطفى مشهور، عقب توليه منصب المرشد العام لـ«الإخوان» سنة 1996، تكشف بجلاء طبيعة النظرة «الإخوانية» لتاريخ الجماعة، بوصفه تاريخاً لجماعة المؤمنين التي تعهدتها الرعاية الإلهية، فالله تعالى هو من رسم طريقها واختار لها كل خطواتها. إذن أي خلاف أو نقد في تلك الحالة يكون أقرب إلى التجديف والإلحاد، فمن ذلك الشخص الذي يستدرك على فعل الله في خلقه؟ بهذه الروح تعامل «الإخوان» مع تاريخهم، وجرائمهم بحق الدين والوطن، ثم الادعاء المكرر بنصرتهما في كل ما فعلوه عبر تاريخهم.
في حواره مع المتحدث الإعلامي لجبهة محمود حسين، إحدى الجبهات المتنازعة على قيادة التنظيم والمعروفة بـ«جبهة إسطنبول»، مع قناة «مكملين» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، قال علي حمد إن «التنظيم هو الضمانة التي تحول دون الذوبان والاندماج مع الغير»، في سياق تبريره للتمسك بالتنظيم، رغم حالة الانقسام التي تحولت فيها الجماعة من حالة التنظيم الواحد والقيادة الواحدة إلى شظايا تدّعي كل منها أنها الأقدر على تجسيد أفكارها وقيادة مشروعها الملتبس وتنظيمها الغامض المشتت.

لم تدرس الجماعة بجدية أسباب فشل تجربة حكم الرئيس السابق محمد مرسي القصيرة (غيتي)

الفارق الزمني بين المقولتين الأولى والثانية يتجاوز عقدين من الزمان، لكن طريقة التفكير واحدة، بما يعكس حقيقة أن التنظيم «الإخواني» يعد -عند الجماعة- هدفاً بذاته، لا وسيلة لتحقيق مشروع ما.
- كيف سيطر «النظام الخاص» على روح «الإخوان»؟
المتأمل في تاريخ التنظيم وتركيبة قيادته يدرك أنه ظل تنظيماً سرّياً غامض الأهداف يتوسل بجمهور عريض لا يعرف شيئاً عن حقيقة أهدافه ووسائله، إلا ما عرفه من خلال تنظيم عام ادعى الصلة بالدعوة ومكارم الأخلاق وتمكين القيم من النفوس.
أنشأ حسن البنا التنظيم واحتفظ بخطته الاستراتيجية، وكثيراً ما كان يُسرّ إلى أقرب خلصائه بأنه لا يبوح عن خططه إلا في الموعد المناسب، فتدرّج في الانتقال من الدعوة إلى السياسة مراوحاً بين السرّية والعلنية... بين السلمية والعنف.
كتب البنا كل وثائق التنظيم المعروفة، سواء رسائل أو لوائح، وظل هو المفسر الحصري لها مع دائرة ضيقة من رجال «النظام الخاص»، وتحديداً خلية العشرة الذين قادهم مصطفى مشهور وأحمد حسنين معتقداً أن القدر سيمهله لتحقيق خطته والإفصاح عن مراحلها، لكنه قُتل في فبراير (شباط) 1949 قبل أن يصل إلى تحقيق تلك الأهداف.

أعضاء «الإخوان» في جامعة الأزهر خلال أعمال عنف عقب نهاية تجربة حكم الجماعة في 2013 (غيتي)

لذا بعد وفاته أمسك رجال «النظام الخاص» بقيادة التنظيم. وظلت هذه القيادة بشخوصها ونهجها هي الأمينة على أفكار حسن البنا ومشروعه، ولم يكن ظهور البعض ممن حُسبوا على التنظيم العام الدعوي سوى شكل من أشكال العلاقات العامة والاختباء خلف قيادات تبدو مدنية.
في هذا السياق، قدم النظام الخاص حسن الهضيبي، القاضي القريب من الملك (كان متزوجاً من ابنة ناظر الخاصة الملكية وقيل إنه اختيار القصر)، ورغم أن الهضيبي حاول أن يحل هذا النظام أو يعيد تأهيله ليكون خاضعاً له فإنه فشل بطبيعة الحال.
تلا الهضيبي عمر التلمساني الذي كان واجهة مدنية بشخصيته وعلاقاته بالقوى السياسية المصرية، ليتسلل النظام الخاص تحت عباءته إلى المجتمع المصري من جديد. وقد شهد عهده بروز هذا التزاوج بين من تبقى من رجال «النظام الخاص» ومجموعة القطبيين، وهم تلك الفئة التي استلهمت أفكار سيد قطب التكفيرية لتصنع مزيجاً خاصاً يجمع بين مراوغة البنا وصراحة قطب.
وبوفاة التلمساني، لم يعد «النظام الخاص» بحاجة للاختباء فقد أُعيد بناؤه من جديد، ومعه نظام عام يختبئ فيه، قوامه الوجود في النقابات والجامعات والبرلمان. قاد مصطفى مشهور الجماعة وبرزت وجوه «النظام الخاص» في عام 1986 مع ولاية محمد حامد أبو النصر الذي كان من رجال «النظام الخاص». لكن ظل مشهور يقود التنظيم فعلياً إلى أن مات أبو النصر في العام 1996، وحدثت ما تسمى «بيعة المقابر»، حيث بايع رجال «النظام الخاص» مشهور وهم يدفنون أبو النصر، في إيحاءٍ بمؤسسية زائفة لم تتمسك بها الجماعة يوماً.
ومضى قطار التنظيم يشق طريقه في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر والكثير من أقطار العالم، ليصل مع خروجه من حكم مصر إلى مرحلة التشظي، وينقسم إلى أربعة كيانات تنظيمية... فماذا جرى للتنظيم الذي اكتسب قوته وتأثيره محلياً وإقليمياً وربما دولياً عبر تنظيم وقيادة واحدة؟ وكيف خسر التنظيم وحدته؟ وما مستقبله في ظل كل ما جرى، خصوصاً مع حالة الانكشاف الأخلاقي والسياسي التي يعيشها؟
- أخطر انقسامات «الإخوان»... متى وأين وكيف؟
لا يكاد القارئ الذي يطالع ما ينشر عن خلافات جبهات «الإخوان» المتصارعة، أن يدرك كيف وصل قطار الجماعة التي عُرفت دوماً بتنظيمها الحديدي إلى محطة الانقسام والتفتت، ما يستدعي تقديم استقصاء دقيق يوضح للقارئ الوقائع المتتالية التي تكشف حقيقة ما جرى.
في كل الصراعات بين التنظيم والدولة في مصر، كانت هناك خطوط حمر في المواجهة بين الطرفين، وكانت هذه الخطوط تُمكن التنظيم من إعادة بناء صفوفه واستعادة لُحمته، فماذا حدث هذه المرة؟
على خلفية مطاردات واسعة ونوعية لأجهزة الأمن المصرية في أعقاب فض اعتصامي «رابعة» و«النهضة» في أغسطس (آب) 2013، وبعد أيام قليلة من خروج «الإخوان» من حكم مصر، اختفت تقريباً معظم قيادات التنظيم خشية القبض عليهم وحرصوا على عدم التواصل بعضهم مع بعض.
كان هذا الهروب إيذاناً بحدوث أول فراغ قيادي كامل في تاريخ التنظيم، خصوصاً بعد القبض على معظم الهيكل القيادي المتمثل في مكتب الإرشاد والمكاتب الإدارية بالمحافظات وكذلك مجلس الشورى العام.
أدار التنظيم أموره وفقاً للمستجدات بمن تبقى من قياداته، إذ آلت إدارته إلى عضوي مكتب الإرشاد محمد كمال، ومحمد عبد الرحمن المرسي معاوناً له، ضمن مجموعة سُميت لجنة إدارة الجماعة.
وفي سياق سيولة لم يعرفها التنظيم في صفوفه عبر تاريخه بهذه الحدة، دار نقاش بين محمد كمال المنتمي إلى التيار القطبي في الجماعة، ومن تبقى من قيادات التنظيم حول مشروعية حمل السلاح في مواجهة أجهزة الأمن، إذ راجت فتاوى تماهت مع النقاش تحرض على قتل ضباط الجيش والشرطة، وحدثت بالفعل جرائم بحق الكثير من الضباط، وظهرت حركات مسلحة تتبع مباشرة تنظيم «الإخوان»، بل يشرف محمد كمال على تمويلها وترتيب خططها في استهداف الشرطة والجيش (وفق تصريحات سابقة لقادة «إخوان»، ومعلومات من قادة حاليين من جبهة محمود حسين).
كان رد الشرطة حاسماً على مجموعات العمل المسلح التابعة لـ«الإخوان»، فتم قتل مجموعة الثمانية التابعة للجماعة في منطقة 6 أكتوبر (غرب القاهرة)، وهي المجموعة التي كانت تشرف على إدارة التنظيم تحت يد محمد كمال. كان ذلك في يوليو (تموز) 2015. وساعتها أدرك تنظيم «الإخوان» أن الدولة لن تتهاون في استخدام القوة لمواجهة تنظيماته المسلحة.
حدث ساعتها نقاش كبير داخل «الإخوان». حذر إبراهيم منير من أن الاستمرار في المقاومة المسلحة للسلطة سيدفع النظام المصري إلى استخدام ورقة العنف لتصنيف التنظيم في الغرب بوصفه تنظيماً إرهابياً، ومن ثم بدأت بعدها مراجعة سياسة «الإخوان» من جانب منير وحسين ومن في نفس موقفهما، ليتم إعلان إقالة محمد كمال من إدارة التنظيم وحل اللجنة التي تدير الجماعة بالكامل.
رفض محمد كمال الأمر ومعه فريق قليل، منه علي بطيخ ومحمد منتصر الذي تم تعيينه متحدثاً إعلامياً باسم جبهة محمد كمال. كان ذلك أول شقاق كبير داخل «الإخوان» منذ فقدوا حكم مصر. بات محمد كمال معزولاً ومعه قلة قليلة، بينما أدار إبراهيم منير ومحمود حسين التنظيم من الخارج تحت قيادة القائم بأعمال المرشد محمود عزت، إذ أُعلن أن عزت رفض مسار العنف وتمسك بـ«السلمية» في مواجهة السلطة. كان هذا تأكيداً على حدوث الانقسام الأهم بين كمال الذي اعتمد العنف مساراً مباشراً ومفتوحاً في مواجهة الدولة، وعزت الذي تمسك بالكمون والرفض العلني للعنف.
- محطة الخلاف الثاني
تكرس الخلاف بين الطرفين. وخرج محمد كمال ببيان بعنوان «إبراء ذمة» يحكي فيه كيف تم إقصاؤه، وأنه لم يتأخر عن تلبية الدعوة من جانب قادة «الإخوان» للنقاش حول مستقبل الجماعة، ودعم موقفه في هذه الفترة بعض القيادات مثل علي بطيخ ومجدي شلش ومحمد منتصر، وغيرهم.
ومع دخول أكتوبر (تشرين الأول) 2016، أُعلن عن مقتل محمد كمال على يد قوات الأمن، لتبدأ ساعتها الاتهامات من جانب مجموعته لقادة التنظيم بالمسؤولية عن مقتله، وأنهم هم من أبلغوا الأمن عن مكانه، ليدخل التنظيم في أتون أزمة وخلاف أكبر.
بدأ كل من محمود حسين وإبراهيم منير ممارسة نشاطاتهما وسلطاتهما بوصفهما «القيمين على التنظيم». وأعلنا فصل القيادات المحسوبة على جبهة كمال كافة، خصوصاً مع إصرار هذه القيادات «الكمالية» على الصدام المسلح مع السلطة، فكان قرار الفصل لكل الداعمين لاستخدام العنف في مصر، ليصبح كل هؤلاء بنهاية 2017 وبداية عام 2018 خارج التنظيم، وبالتالي بات التنظيم جماعتين في هذه اللحظة.
- تنظيم «الإخوان» يصبح ثلاث جماعات
لم تقف الأمور عند هذا الحد، إذ أُلقي القبض على محمود عزت، القائم بأعمال المرشد العام في أغسطس 2020، ليبدأ النقاش حول خلافته، ومن هو الأحق بهذه الخلافة؟ احتج محمود حسين بكونه الأمين العام للجماعة، وعضو مكتب الإرشاد الوحيد خارج مصر، بينما أكد منير أنه الأحق، لأنه كان يدير التنظيم بالخارج، فضلاً عن عضويته في مجلس الشورى العالمي.
بادر منير باتخاذ إجراءات لحسم الصراع لصالحه، فأقدم على تشكيل لجنة معاونة له في إدارة التنظيم وحل ما يعرف بمكتب الإرشاد، ملغياً منصب الأمين العام، ليردّ حسين في المقابل معلناً رفض هذه القرارات بالمطلق، ومعلناً فصل إبراهيم منير ومجموعته التي شكَّلها لإدارة التنظيم، وهي لجنة من سبعة أشخاص، متذرعاً بأن أعضاء مجلس الشورى العام داخل مصر، كلهم يدعمون موقفه. وهو أمر مشكوك في صحته بالنظر لوفاة أكثر أعضاء المجلس والقبض على من تبقى منهم.
لم يكن لدى جبهة منير أي وجود داخل مصر من القيادات المحسوبة على الصف الأول، فكلهم إما في الخارج وإما في السجون، ولذلك كانت ورقة «الداخل المصري» هي الورقة التي يضغط بها حسين على جبهة منير.
جرت محاولات متعددة للصلح بين الطرفين قادها المصري يوسف القرضاوي والموريتاني محمد الحسن ولد الددو. كما جرت محاولتان للتفاهم، قادهما محمود حسين، حضر في إحداهما بنفسه للقاء محمد البحيري، القيادي التاريخي المحسوب على إبراهيم منير، لكن النقاش والاجتماع لم يسفرا عن شيء حتى وفاة منير مطلع الشهر الماضي، ما أكد أن الخلاف مستمر ليتكرس الانقسام داخل الجماعة التي ظلت تنظيماً مركزياً صارماً لعقود، فاستحالت ثلاث جماعات أو أكثر، كل منها يدّعي أنه الأمين على مشروعها والممثل لعناصرها.
- هل نشهد انهيار تنظيم «الإخوان» من داخله؟
في معرض تعليقه على مقال كتبه أكاديمي «إخواني» سابق تناول الخلافات التنظيمية بين فروع التنظيم، علق قيادي «إخواني» سابق تعليقاً كاشفاً عن طريقة التفكير الحالية لقطاع واسع داخل الجماعة، ربما يعطينا فكرة عن حقيقة ما يجري في الجزء الأكبر من التنظيم البعيد عن ضجيج المعركة التي يدور أوارها على مواقع التواصل الاجتماعي.
لم يعطِ المعلق وزناً يُذكَر لتلك الخلافات التنظيمية التي يراها عَرَضاً لمرض ونتيجة وليست سبباً، حتى عبَّر بسخرية قائلاً: «بالله عليكم أنتم بتتخانقوا على إيه؟»، مضيفاً: «لو عدنا لأصل المشكلة التي تتفرع منها بقية المشكلات فهي الأزمة الفكرية... ثم بدأ بطرح السؤال الأهم: هل من الصحيح تكوين جماعة شاملة عوضاً عن مفهوم الإسلام الشامل الذي يسع الجماعة وغيرها؟».
وأشار الرجل إلى أن الخلط بين شمولية الدين وشمولية التنظيم، دفع الجماعة إلى أن تكون إطاراً موازياً للدولة، وبالممارسة لم تعد «جماعة من المسلمين» بل جعلت من نفسها «جماعة المسلمين» التي من المفترض أن تنمو إلى دولة. فمنذ أن رأى البنا سقوط الخلافة العثمانية، أراد أن يكون دولة مصغرة بكل مقوماتها تكبر مع الزمن، من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع إلى الدولة إلى الخلافة إلى أستاذية العالم، وهنا نفهم أن الجماعة هي المنوط بها هذه المهمة، ومن ثم فأي نفي لفكرة «جماعة من المسلمين» لا يعد صحيحاً، لأن الممارسة تكشف عن أنها ترى نفسها «جماعة المسلمين» تتطور رويداً رويداً حتى تصل إلى «أستاذية العالم».
ولذلك في الأفكار والمفاهيم، فهي «دعوة سلفية، طريقة سنية، حقيقة صوفية، هيئة سياسية، جماعة رياضية، رابطة علمية ثقافية، شراكة اقتصادية، وفكرة اجتماعية»، حسبما وصفها البنا!
لقد أراد البنا أن يقدم الجماعة من كل الأبواب الممكنة، بما يسهل تمددها، إلا أن محاولته ومن بعده كانت تحمل مسببات التعثر، فقد أصبح التنظيم بلا رؤية سياسية واضحة.
وربما تجدر الإشارة هنا إلى ما رصدناه في أكثر من دراسة عن إصابة «الإخوان» بعمى استراتيجي كامل، وهو ما تشرحه فقرة لاحقة يقول فيها: «ولذلك اصطدم (التنظيم) مع نظام الملك (فاروق) وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وحتى الآن، ولا يمكن اعتبار ما حدث للجماعة من تنكيل ظلمت فيه إلى حد كبير، مقابلاً لصحة موقفها، فلا يمكن الحكم على مسار أنه صواب لأنه تم التنكيل بأصحابه».
هذه الفكرة نزلت إلى ميدان التجربة (ومن غير المتصور أنها كانت تعتقد أنها ستعمل في فضاء بلا عائق)، كانت شرعية في زمن الملك فانقسمت وتعثرت، وتحالفت مع نظام يوليو فتعثرت مرة ثانية، وعارضت نظام السادات ومبارك فتعثرت مرة ثالثة، وسعت إلى الحكم بعد 2011 فتعثرت مرة رابعة.
في كل أطوارها: من وجود قانوني، إلى وجود غير قانوني، إلى تحالف، إلى معارضة، ثم سعي إلى حكم... كانت مآلات الجماعة هي التعثر والتنكيل. وفي أدبياتها تستدعي «غزوة أحد» كأن مسار الدعوة الإسلامية كان كله «غزوة أحد»!
إذا كانت التجربة الميدانية، بأكثر من شكل وفي أكثر من زمان، لم تأتِ بغير التعثر، وهو ما حدث في الجزائر وسوريا وتونس والمغرب واليمن والعراق والسودان... كله تعثر، في أكثر من زمن وأكثر من بلد، ألا يدعو هذا إلى التفكير في أصل الفكرة نفسها: معطيات كهذه تؤدي دائماً إلى نتائج كهذه؟
بينما تلفت شهادة أخرى إلى أن هناك «كهانة» تسيطر على عمل «الإخوان» التنظيمي، بدت مظاهرها -على حد تعبيره- في رغبة البعض أن يبدو كأنه شخص غير عادي يعلم ما لا يعلمه الآخرون، لديه حرص على الجاه والسلطة، يغلفه دائماً بالتأكيد على الزهد في الدنيا والمناصب، والتأكيد على أن كل كلمة أو سلوك إنما هي لوجه الله، مؤكداً أنه في الوقت الذى يعلم فيه الجميع أنه لا وجود لتنظيم على أرض الواقع، وإن ظل البعض لسنوات عجاف يتكلم باسمه ويتشدق باللائحة ويزعم التواصل مع الإمام الغائب، ويتكلم في وسائل الإعلام باسم تنظيم لا وجود له، وما ذاك إلا كذب أو تدليس من دون اكتراث بتوابع ذلك على مصالح الدولة المصرية، أو ما يتعرض له المنتمون السابقون أو من هم في السجون أو المطلوبون، ألا يعد ذلك في أحسن الظنون تقديماً لرغبات نفسية لدى بعض الرموز على مصالح كبرى ذات اعتبار؟
ولو تكلمنا بالمنطق فإن هذا الإصرار ليس إلا تضحية بالآخرين وبكل شيء مقابل رغبة شخصية غير مشروعة، وذلك سلوك الكهنة الذين باعوا الدين ومصالح العباد في الدنيا والآخرة، من أجل كهنوت شخصي يعبّر عن نفسية وضيعة. إن سلوك الكهنة هو الذى يعطي المبرر الوحيد لما يتعرض له الأفراد من بلاء، بينما هم حناجر وألسنة لمن يعيشون في مأمن خارج البلاد من دون عمل أو حياء.
نحن أمام شهادتين لافتتين تعرّيان حقيقة التنظيم، ليس عبر نقد من مراقبين من خارجه أو من كتاب محايدين، بل عبر أقلام من داخل الجماعة تفكر بطريقتها وتشعر بمشاعر أعضائها، وهذا مكمن الأهمية، على طريقة و«شهد شاهد من أهلها».
بين طرح للسؤال الوجودي الصحيح الذي ينسف الجماعة ويؤكد ضرورة زوالها، وبين شرح وافٍ للكهانة التي تتمسك بها قيادات تتمسك بإدارة تنظيم متداعٍ حرصاً على مكاسبها الشخصية، ومن دون اكتراث لما جناه الدين والوطن... يبدو أننا وللمرة الأولى بعد عقود من وجود التنظيم، أمام حراك داخله قد يؤدى إلى طرح الأسئلة الصحيحة التي لن تخطئها الإجابات، ليس من خارج التنظيم تلك المرة ولكن من داخله، فمثل هذه التنظيمات في العادة تنهار من الداخل وليس من الخارج، خصوصاً أن التجربة أثبتت أن كل هجوم أو نقد من خارجها، يستنفر عوامل الدفاع الذاتي ويؤخر التعافي من مرض التنظيم الذي لا أظن أن يعبر لقرن قادم.
* باحث مصري في شؤون جماعة «الإخوان المسلمين»


مقالات ذات صلة

«ارتباك إخواني» مع اعتزام ترمب تصنيف فروع الجماعة «إرهابية»

العالم العربي مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)

«ارتباك إخواني» مع اعتزام ترمب تصنيف فروع الجماعة «إرهابية»

حرَّك قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدراسة تصنيف 3 فروع لجماعة الإخوان المحظورة ببلدان عربية، المياه الراكدة بشأن مستقبل الجماعة التي تأسَّست بمصر عام 1928.

محمد محمود (القاهرة)
تحليل إخباري مقر «الإخوان» في القاهرة محترقاً صيف 2013 (غيتي)

تحليل إخباري ماذا وراء توجيه ترمب بدراسة حظر فروع تتبع «الإخوان»؟

تحرك أميركي جديد بشأن «جماعة الإخوان» المحظورة في بلد التأسيس مصر منذ 2013، وفروعها المنتشرة بدول عربية.

محمد محمود (القاهرة)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب (إ.ب.أ)

البيت الأبيض يؤكد تعهد ترمب بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين «منظمة إرهابية»

أكد البيت الأبيض اليوم الاثنين تقارير صحافية أميركية أفادت بتعهد الرئيس دونالد ترمب بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين «منظمة إرهابية».

تحليل إخباري الرئيس الأميركي دونالد ترمب (إ.ب.أ)

تحليل إخباري حصار دولي متزايد يفاقم الضغوط على «الإخوان»

يواجه تنظيم «الإخوان المسلمين» منعطفاً حرجاً وضغوطاً دوليةً غير مسبوقة، مع حديث أميركي عن عزم الرئيس دونالد ترمب على تصنيف الجماعة «منظمة إرهابية».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ حاكم تكساس غريغ أبوت في مؤتمر صحافي 22 أغسطس 2025 (أ.ب)

5 متهمين يقروّن بالذنب في قضية «جرائم إرهابية» في تكساس

أقر 5 أشخاص، الأربعاء، بالذنب فيما يتعلق بارتكاب «جرائم إرهابية» بولاية تكساس الأميركية، وذلك بعد اتهامهم بدعم حركة «أنتيفا» في واقعة إطلاق نار في يوليو الماضي.

«الشرق الأوسط» (دالاس)

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.