مراجعات لم يكتبها «الإخوان»... كيف وصلت الجماعة إلى بداية النهاية؟

مسار من الأخطاء والانشقاقات يشكك بقدرة التنظيم على التعافي من «محنته» الأخيرة

مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
TT

مراجعات لم يكتبها «الإخوان»... كيف وصلت الجماعة إلى بداية النهاية؟

مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)

يكاد تنظيم «الإخوان المسلمين» يكمل مائة عام من الوجود الصاخب، ورغم فشله في كل الساحات والمساحات وخصومته الممتدة مع المجتمعات والحكومات بما كان يحتم عليه أن يحرص على المراجعة الجادة لأهداف مشروعه ووسائله وسلوكه في السعي لأهدافه، خصوصاً مع ما تكبده من خسائر وما سبَّبه من دمار وخراب، أصاب مصائر الكثير من الدول التي ابتُليت بوجوده بين ظهرانيها. رغم ذلك كله، تمسكت الجماعة برفع شعار «المحنة» التي تستلزم الصبر، شاهرةً في وجه من يريد مراجعةً أو تقييماً الاتهامَ بأنه «داعية فتنة»، يستهدف بلبلة الصف «الإخواني» وهدم «الجماعة الربانية».
لم يُعرف عن «الإخوان» أي انخراط جاد في مراجعة، على مستوى الأفكار والأدبيات والسلوك والاجتهادات السياسية والفكرية، وهو ما أسهم في تكلسها تنظيمياً وفكرياً على نحو كان من أهم الأسباب التي ساقتها إلى محنها الحقيقية والمفتعلة. وقد ضربت الجماعة جملة من التطورات الدراماتيكية في السنوات الماضية، على نحو لم تعرفه عبر تاريخها تحلت في مواجهتها بحالة من حالات الإنكار التي جعلتها تحمّل الجميع مسؤولية ما جرى منها ولها، من دون أن تشير ولو من طرف خفيّ بإصبع الاتهام إلى مناهج التفكير أو التدبير التي حكمت سلوكها، سواء في مرحلة ما قبل يناير (كانون الثاني) 2011 أو ما جرى خلال يناير وما تلاها من وصولها للحكم على نحو ما يعرفه الناس جميعاً.
- خطايا التأسيس
لم تبدأ خطايا الجماعة مع الانتقال من مربع الدعوة والتربية إلى مربع السياسة ومحاولة الوصول للحكم الذي استجلب عليهم غضب الجميع في الداخل والخارج، يوم أعلنها حسن البنا في العام 1938 مع رسالة المؤتمر الخامس التي كشفت حقيقة مشروعه بوصفه مشروعاً سياسياً يتوسل بالدين، السلاح الأكثر فاعلية في السيطرة على عواطف الناس. منذ هذه اللحظة، بدأ نزيف الجماعة الشعبي على عكس ما يعتقد الكثيرون، وبدأ الصعود ولكن نحو الهاوية في الحقيقة. فقد غادرها الكثير من الشخصيات العاقلة، ممن ارتبطت بها تحت دعاوى الإحياء الإسلامي والدعوة لتمكين القيم الإسلامية من النفوس، والتوسل في الأساس بنمط محبب للمصريين وهو التصوف، إذ غلبت على عملية التربية والدعوة في هذه المرحلة، المأثورات ووظائف الحركات الصوفية.

محمد مرسي وإلى يمينه محمود حسين الذي يقود إحدى الجبهات المنقسمة (غيتي)

لم تناقش أبداً جريمة تأسيس ما سُمي بـ«النظام الخاص»، تلك الميليشيا العسكرية الموازية للنظام العام للجماعة، والذي خرج تماماً عن سيطرة حسن البنا وإن كان البعض يعتقد أن الأمر لم يكن يعدو توزيعاً للأدوار، وأن التدبير كان يقتضي أن يفعل «النظام الخاص» ما يفعله، فإذا كُشف أمره أعلن البنا أنه غير مسؤول عن أعماله.
في لقاء جمعني بمحمد فريد عبد الخالق -وكان سكرتيراً لحسن البنا في أحرج المراحل- أكد أن البنا غضب من عمليات «النظام الخاص» غضباً شديداً، وظل يردد وهو يشد شعره: «أنا أبني وهم يهدمون». إذن فقد بدأ الهدم مبكراً بالفعل، ولم يكن حسن البنا قد استكمل البناء بعد، إذ دخلت الجماعة صراعاً مفتوحاً مع الجميع، وفقدت قيادة المؤسس الذي كان لا يزال يحتفظ بالكثير من الأفكار والخطط لجماعته، وقد هضم الدرس بأن سلوك مسار السياسة ومخالفة نصائح شيخ كالحافظ التيجاني الذي نصحه بألا يقترب من السياسة ويبقى في دائرة الدعوة والتربية، كان خطأ كارثياً أدركه قبل اغتياله بشهور.
- «مفاصلة شعورية» وعزلة وجدانية
ظلت الجماعة تمارس نشاطها بإرادة النظام الخاص ورؤيته المغلقة في الفترة من 1949 بعد اغتيال مؤسسها حتى تغيرت طبعتها تماماً مع سيد قطب في 1954 الذي كتب خطتها الجديدة لتنتقل من حالة «روح جديدة تنساب في الأمة لتحييها بالقرآن» بتعبير البنا، إلى حالة «المفاصلة الشعورية» والعزلة الوجدانية التي تنطلق من النظر إلى المجتمعات الإسلامية بوصفها مجتمعات جاهلية، ابتعدت عن حاكمية الله لحساب حاكمية البشر وضلَّت في التصور والاعتقاد والسلوك، ما أنتج أفكار الاستعلاء الإيماني. وأتعجب كيف يستقيم جمع كلمة استعلاء مع إيمان في جملة واحدة؟ ولكن الفكرة مرت وكسبت في السجون زخماً وأنصاراً جدداً، حتى تحورت فكرة «الإخوان»، لتترسخ في وعيهم مقولات «المؤامرة على الإسلام بين كيد أعدائه وجهل أبنائه» أو «جاهليتهم»، كما سمّاها قطب.

القرضاوي حاول التوسط في صراع الجبهات (إ.ب.أ)

وبين مؤامرة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في 1954 وتنظيم 1965 الذي تزعمه سيد قطب، جرت تحت الجسر مياه، وانتعشت نظريات سيد قطب ووجدت أنصاراً ودخلت الجماعة نفقاً طويلاً، كان آخره تجربة «الإخوان» القصيرة في حكم مصر والتي سيطرت على مقدراتها مجموعة قطبية أدمنت العمل السري ولم تتحرر من مشكلاته حتى عندما وصلت إلى الحكم، ولم تتصرف إلا بالطريقة التي درجت عليها واعتادتها طوال عقود.
نحن هنا أمام مدرستين في التفكير والتدبير يستحيل الجمع بينهما... فقد بدا أن محاولة الجمع بين السلمية والعنف، بين السرّيّ والعلنيّ، بين الدعوة والسياسة، بين الشارع والحكم، محاولة للإمساك بكل شيء. وهو السلوك الذي تمسكت به الجماعة عبر تاريخها، بحديثها عن نفسها كهيئة إسلامية جامعة بتعبير البنا، وبدا أمراً مستحيلاً، تأكدت استحالته بالتجربة والبرهان، بما يؤكد الحاجة إلى مراجعة مفصلة لتلك المواضع التي تأكد فيها فشل «الإخوان» عبر تاريخهم الممتد خلال قرن من الزمان، وما يقف وراء ذلك من قيم وأفكار ومفاهيم.

شكَّلت محاولة اغتيال عبد الناصر في 1954 نقطة تحول في مسيرة «النظام الخاص» للجماعة (غيتي)

تبدو المراجعة أمراً يفرضه العقل، أو بتعبير «الإخوان» الأثير حين يعتقدون في حتمية شيء فيقولون إنه «فريضة شرعية وضرورة بشرية»، وهو ما ينطبق على المراجعة التي نناقش فيها ما جرى لهذا التنظيم: أفكاره، وقيمه، ومشاريعه، وأهدافه، ووسائله، وفعله بنفسه وبالآخرين. عبر مراجعة هادئة لم يكتبها «الإخوان»، أتقمص فيها شعور «الإخوان»، من دون عقلهم المحجوب خلف أساطير التنظيم، آمل بأن أبدد الدخان الذي حجب الرؤية عن عقولهم التي أدمنت الإنكار.
- «جماعة المؤمنين» ووهم «الرعاية الإلهية»
«صنع الله دعوة الإخوان المسلمين على عينه، فرسم لها طريقها وحدد لها أهدافها واختار لها الخير في كل خطواتها ومراحلها حتى في حالة الهزيمة والانكسار، بل إن أشخاصها وقيادتها جاءت أشبه بالاختيار الرباني فعكست في أفكارها وتصرفاتها وقرارتها الشخصية، وربما صفاتها وأسمائها العناية الإلهية لدعوة الإخوان، والتي تضع كل شيء في موضعه ونصابه لذا لم تكن مصادفة أن يكون حسن البنا هو المرشد الأول الذي بدأ الدعوة ووضع البناء، وحسن الهضيبي هو المرشد الثاني الذي قاد سفينة الدعوة في محنتها وتصدى لمن كادوا لها من رجال الثورة فكان الهضبة التي تحطمت عليها مخططاتهم ومكائدهم، ثم جاء عمر التلمساني بعده فأعاد تجميعها وتلمّس لها خطواتها بعد المحنة الناصرية، وحل بعده حامد أبو النصر مرشداً رابعاً فكان عنوان النصر الذي أحرزه الإخوان في النقابات ونوادي هيئات التدريس والمجالس المحلية والبرلمان إلى أن توفاه الله، وتولى بعده مصطفى مشهور الذي يضع الإخوان عليه الآمال في أن يعيد شهرة الجماعة عالمياً، وهو صاحب الجهد الأكبر في بناء وقيادة التنظيم العالمي للإخوان».

مصطفى مشهور ومأمون الهضيبي يتصدران مشيعي جنازة حامد أبو النصر التي شهدت «بيعة المقابر» عام 1995 (غيتي)

يرى الباحث حسام تمام أن هذه المقولة التي صدّر بها أحد الصحافيين «الإخوان» حواراً أجراه مع مصطفى مشهور، عقب توليه منصب المرشد العام لـ«الإخوان» سنة 1996، تكشف بجلاء طبيعة النظرة «الإخوانية» لتاريخ الجماعة، بوصفه تاريخاً لجماعة المؤمنين التي تعهدتها الرعاية الإلهية، فالله تعالى هو من رسم طريقها واختار لها كل خطواتها. إذن أي خلاف أو نقد في تلك الحالة يكون أقرب إلى التجديف والإلحاد، فمن ذلك الشخص الذي يستدرك على فعل الله في خلقه؟ بهذه الروح تعامل «الإخوان» مع تاريخهم، وجرائمهم بحق الدين والوطن، ثم الادعاء المكرر بنصرتهما في كل ما فعلوه عبر تاريخهم.
في حواره مع المتحدث الإعلامي لجبهة محمود حسين، إحدى الجبهات المتنازعة على قيادة التنظيم والمعروفة بـ«جبهة إسطنبول»، مع قناة «مكملين» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، قال علي حمد إن «التنظيم هو الضمانة التي تحول دون الذوبان والاندماج مع الغير»، في سياق تبريره للتمسك بالتنظيم، رغم حالة الانقسام التي تحولت فيها الجماعة من حالة التنظيم الواحد والقيادة الواحدة إلى شظايا تدّعي كل منها أنها الأقدر على تجسيد أفكارها وقيادة مشروعها الملتبس وتنظيمها الغامض المشتت.

لم تدرس الجماعة بجدية أسباب فشل تجربة حكم الرئيس السابق محمد مرسي القصيرة (غيتي)

الفارق الزمني بين المقولتين الأولى والثانية يتجاوز عقدين من الزمان، لكن طريقة التفكير واحدة، بما يعكس حقيقة أن التنظيم «الإخواني» يعد -عند الجماعة- هدفاً بذاته، لا وسيلة لتحقيق مشروع ما.
- كيف سيطر «النظام الخاص» على روح «الإخوان»؟
المتأمل في تاريخ التنظيم وتركيبة قيادته يدرك أنه ظل تنظيماً سرّياً غامض الأهداف يتوسل بجمهور عريض لا يعرف شيئاً عن حقيقة أهدافه ووسائله، إلا ما عرفه من خلال تنظيم عام ادعى الصلة بالدعوة ومكارم الأخلاق وتمكين القيم من النفوس.
أنشأ حسن البنا التنظيم واحتفظ بخطته الاستراتيجية، وكثيراً ما كان يُسرّ إلى أقرب خلصائه بأنه لا يبوح عن خططه إلا في الموعد المناسب، فتدرّج في الانتقال من الدعوة إلى السياسة مراوحاً بين السرّية والعلنية... بين السلمية والعنف.
كتب البنا كل وثائق التنظيم المعروفة، سواء رسائل أو لوائح، وظل هو المفسر الحصري لها مع دائرة ضيقة من رجال «النظام الخاص»، وتحديداً خلية العشرة الذين قادهم مصطفى مشهور وأحمد حسنين معتقداً أن القدر سيمهله لتحقيق خطته والإفصاح عن مراحلها، لكنه قُتل في فبراير (شباط) 1949 قبل أن يصل إلى تحقيق تلك الأهداف.

أعضاء «الإخوان» في جامعة الأزهر خلال أعمال عنف عقب نهاية تجربة حكم الجماعة في 2013 (غيتي)

لذا بعد وفاته أمسك رجال «النظام الخاص» بقيادة التنظيم. وظلت هذه القيادة بشخوصها ونهجها هي الأمينة على أفكار حسن البنا ومشروعه، ولم يكن ظهور البعض ممن حُسبوا على التنظيم العام الدعوي سوى شكل من أشكال العلاقات العامة والاختباء خلف قيادات تبدو مدنية.
في هذا السياق، قدم النظام الخاص حسن الهضيبي، القاضي القريب من الملك (كان متزوجاً من ابنة ناظر الخاصة الملكية وقيل إنه اختيار القصر)، ورغم أن الهضيبي حاول أن يحل هذا النظام أو يعيد تأهيله ليكون خاضعاً له فإنه فشل بطبيعة الحال.
تلا الهضيبي عمر التلمساني الذي كان واجهة مدنية بشخصيته وعلاقاته بالقوى السياسية المصرية، ليتسلل النظام الخاص تحت عباءته إلى المجتمع المصري من جديد. وقد شهد عهده بروز هذا التزاوج بين من تبقى من رجال «النظام الخاص» ومجموعة القطبيين، وهم تلك الفئة التي استلهمت أفكار سيد قطب التكفيرية لتصنع مزيجاً خاصاً يجمع بين مراوغة البنا وصراحة قطب.
وبوفاة التلمساني، لم يعد «النظام الخاص» بحاجة للاختباء فقد أُعيد بناؤه من جديد، ومعه نظام عام يختبئ فيه، قوامه الوجود في النقابات والجامعات والبرلمان. قاد مصطفى مشهور الجماعة وبرزت وجوه «النظام الخاص» في عام 1986 مع ولاية محمد حامد أبو النصر الذي كان من رجال «النظام الخاص». لكن ظل مشهور يقود التنظيم فعلياً إلى أن مات أبو النصر في العام 1996، وحدثت ما تسمى «بيعة المقابر»، حيث بايع رجال «النظام الخاص» مشهور وهم يدفنون أبو النصر، في إيحاءٍ بمؤسسية زائفة لم تتمسك بها الجماعة يوماً.
ومضى قطار التنظيم يشق طريقه في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر والكثير من أقطار العالم، ليصل مع خروجه من حكم مصر إلى مرحلة التشظي، وينقسم إلى أربعة كيانات تنظيمية... فماذا جرى للتنظيم الذي اكتسب قوته وتأثيره محلياً وإقليمياً وربما دولياً عبر تنظيم وقيادة واحدة؟ وكيف خسر التنظيم وحدته؟ وما مستقبله في ظل كل ما جرى، خصوصاً مع حالة الانكشاف الأخلاقي والسياسي التي يعيشها؟
- أخطر انقسامات «الإخوان»... متى وأين وكيف؟
لا يكاد القارئ الذي يطالع ما ينشر عن خلافات جبهات «الإخوان» المتصارعة، أن يدرك كيف وصل قطار الجماعة التي عُرفت دوماً بتنظيمها الحديدي إلى محطة الانقسام والتفتت، ما يستدعي تقديم استقصاء دقيق يوضح للقارئ الوقائع المتتالية التي تكشف حقيقة ما جرى.
في كل الصراعات بين التنظيم والدولة في مصر، كانت هناك خطوط حمر في المواجهة بين الطرفين، وكانت هذه الخطوط تُمكن التنظيم من إعادة بناء صفوفه واستعادة لُحمته، فماذا حدث هذه المرة؟
على خلفية مطاردات واسعة ونوعية لأجهزة الأمن المصرية في أعقاب فض اعتصامي «رابعة» و«النهضة» في أغسطس (آب) 2013، وبعد أيام قليلة من خروج «الإخوان» من حكم مصر، اختفت تقريباً معظم قيادات التنظيم خشية القبض عليهم وحرصوا على عدم التواصل بعضهم مع بعض.
كان هذا الهروب إيذاناً بحدوث أول فراغ قيادي كامل في تاريخ التنظيم، خصوصاً بعد القبض على معظم الهيكل القيادي المتمثل في مكتب الإرشاد والمكاتب الإدارية بالمحافظات وكذلك مجلس الشورى العام.
أدار التنظيم أموره وفقاً للمستجدات بمن تبقى من قياداته، إذ آلت إدارته إلى عضوي مكتب الإرشاد محمد كمال، ومحمد عبد الرحمن المرسي معاوناً له، ضمن مجموعة سُميت لجنة إدارة الجماعة.
وفي سياق سيولة لم يعرفها التنظيم في صفوفه عبر تاريخه بهذه الحدة، دار نقاش بين محمد كمال المنتمي إلى التيار القطبي في الجماعة، ومن تبقى من قيادات التنظيم حول مشروعية حمل السلاح في مواجهة أجهزة الأمن، إذ راجت فتاوى تماهت مع النقاش تحرض على قتل ضباط الجيش والشرطة، وحدثت بالفعل جرائم بحق الكثير من الضباط، وظهرت حركات مسلحة تتبع مباشرة تنظيم «الإخوان»، بل يشرف محمد كمال على تمويلها وترتيب خططها في استهداف الشرطة والجيش (وفق تصريحات سابقة لقادة «إخوان»، ومعلومات من قادة حاليين من جبهة محمود حسين).
كان رد الشرطة حاسماً على مجموعات العمل المسلح التابعة لـ«الإخوان»، فتم قتل مجموعة الثمانية التابعة للجماعة في منطقة 6 أكتوبر (غرب القاهرة)، وهي المجموعة التي كانت تشرف على إدارة التنظيم تحت يد محمد كمال. كان ذلك في يوليو (تموز) 2015. وساعتها أدرك تنظيم «الإخوان» أن الدولة لن تتهاون في استخدام القوة لمواجهة تنظيماته المسلحة.
حدث ساعتها نقاش كبير داخل «الإخوان». حذر إبراهيم منير من أن الاستمرار في المقاومة المسلحة للسلطة سيدفع النظام المصري إلى استخدام ورقة العنف لتصنيف التنظيم في الغرب بوصفه تنظيماً إرهابياً، ومن ثم بدأت بعدها مراجعة سياسة «الإخوان» من جانب منير وحسين ومن في نفس موقفهما، ليتم إعلان إقالة محمد كمال من إدارة التنظيم وحل اللجنة التي تدير الجماعة بالكامل.
رفض محمد كمال الأمر ومعه فريق قليل، منه علي بطيخ ومحمد منتصر الذي تم تعيينه متحدثاً إعلامياً باسم جبهة محمد كمال. كان ذلك أول شقاق كبير داخل «الإخوان» منذ فقدوا حكم مصر. بات محمد كمال معزولاً ومعه قلة قليلة، بينما أدار إبراهيم منير ومحمود حسين التنظيم من الخارج تحت قيادة القائم بأعمال المرشد محمود عزت، إذ أُعلن أن عزت رفض مسار العنف وتمسك بـ«السلمية» في مواجهة السلطة. كان هذا تأكيداً على حدوث الانقسام الأهم بين كمال الذي اعتمد العنف مساراً مباشراً ومفتوحاً في مواجهة الدولة، وعزت الذي تمسك بالكمون والرفض العلني للعنف.
- محطة الخلاف الثاني
تكرس الخلاف بين الطرفين. وخرج محمد كمال ببيان بعنوان «إبراء ذمة» يحكي فيه كيف تم إقصاؤه، وأنه لم يتأخر عن تلبية الدعوة من جانب قادة «الإخوان» للنقاش حول مستقبل الجماعة، ودعم موقفه في هذه الفترة بعض القيادات مثل علي بطيخ ومجدي شلش ومحمد منتصر، وغيرهم.
ومع دخول أكتوبر (تشرين الأول) 2016، أُعلن عن مقتل محمد كمال على يد قوات الأمن، لتبدأ ساعتها الاتهامات من جانب مجموعته لقادة التنظيم بالمسؤولية عن مقتله، وأنهم هم من أبلغوا الأمن عن مكانه، ليدخل التنظيم في أتون أزمة وخلاف أكبر.
بدأ كل من محمود حسين وإبراهيم منير ممارسة نشاطاتهما وسلطاتهما بوصفهما «القيمين على التنظيم». وأعلنا فصل القيادات المحسوبة على جبهة كمال كافة، خصوصاً مع إصرار هذه القيادات «الكمالية» على الصدام المسلح مع السلطة، فكان قرار الفصل لكل الداعمين لاستخدام العنف في مصر، ليصبح كل هؤلاء بنهاية 2017 وبداية عام 2018 خارج التنظيم، وبالتالي بات التنظيم جماعتين في هذه اللحظة.
- تنظيم «الإخوان» يصبح ثلاث جماعات
لم تقف الأمور عند هذا الحد، إذ أُلقي القبض على محمود عزت، القائم بأعمال المرشد العام في أغسطس 2020، ليبدأ النقاش حول خلافته، ومن هو الأحق بهذه الخلافة؟ احتج محمود حسين بكونه الأمين العام للجماعة، وعضو مكتب الإرشاد الوحيد خارج مصر، بينما أكد منير أنه الأحق، لأنه كان يدير التنظيم بالخارج، فضلاً عن عضويته في مجلس الشورى العالمي.
بادر منير باتخاذ إجراءات لحسم الصراع لصالحه، فأقدم على تشكيل لجنة معاونة له في إدارة التنظيم وحل ما يعرف بمكتب الإرشاد، ملغياً منصب الأمين العام، ليردّ حسين في المقابل معلناً رفض هذه القرارات بالمطلق، ومعلناً فصل إبراهيم منير ومجموعته التي شكَّلها لإدارة التنظيم، وهي لجنة من سبعة أشخاص، متذرعاً بأن أعضاء مجلس الشورى العام داخل مصر، كلهم يدعمون موقفه. وهو أمر مشكوك في صحته بالنظر لوفاة أكثر أعضاء المجلس والقبض على من تبقى منهم.
لم يكن لدى جبهة منير أي وجود داخل مصر من القيادات المحسوبة على الصف الأول، فكلهم إما في الخارج وإما في السجون، ولذلك كانت ورقة «الداخل المصري» هي الورقة التي يضغط بها حسين على جبهة منير.
جرت محاولات متعددة للصلح بين الطرفين قادها المصري يوسف القرضاوي والموريتاني محمد الحسن ولد الددو. كما جرت محاولتان للتفاهم، قادهما محمود حسين، حضر في إحداهما بنفسه للقاء محمد البحيري، القيادي التاريخي المحسوب على إبراهيم منير، لكن النقاش والاجتماع لم يسفرا عن شيء حتى وفاة منير مطلع الشهر الماضي، ما أكد أن الخلاف مستمر ليتكرس الانقسام داخل الجماعة التي ظلت تنظيماً مركزياً صارماً لعقود، فاستحالت ثلاث جماعات أو أكثر، كل منها يدّعي أنه الأمين على مشروعها والممثل لعناصرها.
- هل نشهد انهيار تنظيم «الإخوان» من داخله؟
في معرض تعليقه على مقال كتبه أكاديمي «إخواني» سابق تناول الخلافات التنظيمية بين فروع التنظيم، علق قيادي «إخواني» سابق تعليقاً كاشفاً عن طريقة التفكير الحالية لقطاع واسع داخل الجماعة، ربما يعطينا فكرة عن حقيقة ما يجري في الجزء الأكبر من التنظيم البعيد عن ضجيج المعركة التي يدور أوارها على مواقع التواصل الاجتماعي.
لم يعطِ المعلق وزناً يُذكَر لتلك الخلافات التنظيمية التي يراها عَرَضاً لمرض ونتيجة وليست سبباً، حتى عبَّر بسخرية قائلاً: «بالله عليكم أنتم بتتخانقوا على إيه؟»، مضيفاً: «لو عدنا لأصل المشكلة التي تتفرع منها بقية المشكلات فهي الأزمة الفكرية... ثم بدأ بطرح السؤال الأهم: هل من الصحيح تكوين جماعة شاملة عوضاً عن مفهوم الإسلام الشامل الذي يسع الجماعة وغيرها؟».
وأشار الرجل إلى أن الخلط بين شمولية الدين وشمولية التنظيم، دفع الجماعة إلى أن تكون إطاراً موازياً للدولة، وبالممارسة لم تعد «جماعة من المسلمين» بل جعلت من نفسها «جماعة المسلمين» التي من المفترض أن تنمو إلى دولة. فمنذ أن رأى البنا سقوط الخلافة العثمانية، أراد أن يكون دولة مصغرة بكل مقوماتها تكبر مع الزمن، من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع إلى الدولة إلى الخلافة إلى أستاذية العالم، وهنا نفهم أن الجماعة هي المنوط بها هذه المهمة، ومن ثم فأي نفي لفكرة «جماعة من المسلمين» لا يعد صحيحاً، لأن الممارسة تكشف عن أنها ترى نفسها «جماعة المسلمين» تتطور رويداً رويداً حتى تصل إلى «أستاذية العالم».
ولذلك في الأفكار والمفاهيم، فهي «دعوة سلفية، طريقة سنية، حقيقة صوفية، هيئة سياسية، جماعة رياضية، رابطة علمية ثقافية، شراكة اقتصادية، وفكرة اجتماعية»، حسبما وصفها البنا!
لقد أراد البنا أن يقدم الجماعة من كل الأبواب الممكنة، بما يسهل تمددها، إلا أن محاولته ومن بعده كانت تحمل مسببات التعثر، فقد أصبح التنظيم بلا رؤية سياسية واضحة.
وربما تجدر الإشارة هنا إلى ما رصدناه في أكثر من دراسة عن إصابة «الإخوان» بعمى استراتيجي كامل، وهو ما تشرحه فقرة لاحقة يقول فيها: «ولذلك اصطدم (التنظيم) مع نظام الملك (فاروق) وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وحتى الآن، ولا يمكن اعتبار ما حدث للجماعة من تنكيل ظلمت فيه إلى حد كبير، مقابلاً لصحة موقفها، فلا يمكن الحكم على مسار أنه صواب لأنه تم التنكيل بأصحابه».
هذه الفكرة نزلت إلى ميدان التجربة (ومن غير المتصور أنها كانت تعتقد أنها ستعمل في فضاء بلا عائق)، كانت شرعية في زمن الملك فانقسمت وتعثرت، وتحالفت مع نظام يوليو فتعثرت مرة ثانية، وعارضت نظام السادات ومبارك فتعثرت مرة ثالثة، وسعت إلى الحكم بعد 2011 فتعثرت مرة رابعة.
في كل أطوارها: من وجود قانوني، إلى وجود غير قانوني، إلى تحالف، إلى معارضة، ثم سعي إلى حكم... كانت مآلات الجماعة هي التعثر والتنكيل. وفي أدبياتها تستدعي «غزوة أحد» كأن مسار الدعوة الإسلامية كان كله «غزوة أحد»!
إذا كانت التجربة الميدانية، بأكثر من شكل وفي أكثر من زمان، لم تأتِ بغير التعثر، وهو ما حدث في الجزائر وسوريا وتونس والمغرب واليمن والعراق والسودان... كله تعثر، في أكثر من زمن وأكثر من بلد، ألا يدعو هذا إلى التفكير في أصل الفكرة نفسها: معطيات كهذه تؤدي دائماً إلى نتائج كهذه؟
بينما تلفت شهادة أخرى إلى أن هناك «كهانة» تسيطر على عمل «الإخوان» التنظيمي، بدت مظاهرها -على حد تعبيره- في رغبة البعض أن يبدو كأنه شخص غير عادي يعلم ما لا يعلمه الآخرون، لديه حرص على الجاه والسلطة، يغلفه دائماً بالتأكيد على الزهد في الدنيا والمناصب، والتأكيد على أن كل كلمة أو سلوك إنما هي لوجه الله، مؤكداً أنه في الوقت الذى يعلم فيه الجميع أنه لا وجود لتنظيم على أرض الواقع، وإن ظل البعض لسنوات عجاف يتكلم باسمه ويتشدق باللائحة ويزعم التواصل مع الإمام الغائب، ويتكلم في وسائل الإعلام باسم تنظيم لا وجود له، وما ذاك إلا كذب أو تدليس من دون اكتراث بتوابع ذلك على مصالح الدولة المصرية، أو ما يتعرض له المنتمون السابقون أو من هم في السجون أو المطلوبون، ألا يعد ذلك في أحسن الظنون تقديماً لرغبات نفسية لدى بعض الرموز على مصالح كبرى ذات اعتبار؟
ولو تكلمنا بالمنطق فإن هذا الإصرار ليس إلا تضحية بالآخرين وبكل شيء مقابل رغبة شخصية غير مشروعة، وذلك سلوك الكهنة الذين باعوا الدين ومصالح العباد في الدنيا والآخرة، من أجل كهنوت شخصي يعبّر عن نفسية وضيعة. إن سلوك الكهنة هو الذى يعطي المبرر الوحيد لما يتعرض له الأفراد من بلاء، بينما هم حناجر وألسنة لمن يعيشون في مأمن خارج البلاد من دون عمل أو حياء.
نحن أمام شهادتين لافتتين تعرّيان حقيقة التنظيم، ليس عبر نقد من مراقبين من خارجه أو من كتاب محايدين، بل عبر أقلام من داخل الجماعة تفكر بطريقتها وتشعر بمشاعر أعضائها، وهذا مكمن الأهمية، على طريقة و«شهد شاهد من أهلها».
بين طرح للسؤال الوجودي الصحيح الذي ينسف الجماعة ويؤكد ضرورة زوالها، وبين شرح وافٍ للكهانة التي تتمسك بها قيادات تتمسك بإدارة تنظيم متداعٍ حرصاً على مكاسبها الشخصية، ومن دون اكتراث لما جناه الدين والوطن... يبدو أننا وللمرة الأولى بعد عقود من وجود التنظيم، أمام حراك داخله قد يؤدى إلى طرح الأسئلة الصحيحة التي لن تخطئها الإجابات، ليس من خارج التنظيم تلك المرة ولكن من داخله، فمثل هذه التنظيمات في العادة تنهار من الداخل وليس من الخارج، خصوصاً أن التجربة أثبتت أن كل هجوم أو نقد من خارجها، يستنفر عوامل الدفاع الذاتي ويؤخر التعافي من مرض التنظيم الذي لا أظن أن يعبر لقرن قادم.
* باحث مصري في شؤون جماعة «الإخوان المسلمين»


مقالات ذات صلة

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

أوروبا العلم الألماني في العاصمة برلين (أ.ب)

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

صادرت الشرطة الألمانية أجهزة كومبيوتر محمولة وأموالاً، خلال عمليات مداهمة استهدفت جمعية إسلامية تم حظرها حديثاً، ويقع مقرّها خارج برلين.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان استقبل السيسي في مطار أنقرة في إسطنبول (من البث المباشر لوصول الرئيس المصري) play-circle 00:39

السيسي وصل إلى أنقرة في أول زيارة لتركيا

وصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة، الأربعاء، في أول زيارة يقوم بها لتركيا منذ توليه الرئاسة في مصر عام 2014

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي قوات من الأمن بميدان التحرير في القاهرة (أ.ف.ب)

مصر: توقيف المتهم بـ«فيديو فيصل» وحملة مضادة تستعرض «جرائم الإخوان»

أعلنت «الداخلية المصرية»، الثلاثاء، القبض على المتهم ببث «فيديو فيصل» الذي شغل الرأي العام، مؤكدة «اعترافه» بارتكاب الواقعة، بـ«تحريض» من عناصر «الإخوان».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
أوروبا الإعلامي بقناة «الشرق» الإخوانية عماد البحيري تم توقيفه بسبب التهرب الضريبي (من حسابه على  «فيسبوك»)

تركيا توقف إعلامياً في قناة إخوانية لتهربه من الضرائب

أحالت السلطات التركية، (الخميس)، المذيع بقناة «الشرق» المحسوبة على «الإخوان المسلمين»، عماد البحيري، إلى أحد مراكز التوقيف بدائرة الهجرة في إسطنبول.

سعيد عبد الرازق (أنقرة )
شمال افريقيا الرئيس عبد المجيد تبون (د.ب.أ)

الجزائر: فصيل «الإخوان» يرشح الرئيس تبون لعهدة ثانية

أعلنت حركة البناء الوطني (فصيل الإخوان في الجزائر)، الجمعة، عن ترشيحها الرئيس عبد المجيد تبون للانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في 7 سبتمبر المقبل.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.