مراجعات لم يكتبها «الإخوان»... كيف وصلت الجماعة إلى بداية النهاية؟

مسار من الأخطاء والانشقاقات يشكك بقدرة التنظيم على التعافي من «محنته» الأخيرة

مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
TT

مراجعات لم يكتبها «الإخوان»... كيف وصلت الجماعة إلى بداية النهاية؟

مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)
مقر «الإخوان» محترقاً في القاهرة صيف 2013 (غيتي)

يكاد تنظيم «الإخوان المسلمين» يكمل مائة عام من الوجود الصاخب، ورغم فشله في كل الساحات والمساحات وخصومته الممتدة مع المجتمعات والحكومات بما كان يحتم عليه أن يحرص على المراجعة الجادة لأهداف مشروعه ووسائله وسلوكه في السعي لأهدافه، خصوصاً مع ما تكبده من خسائر وما سبَّبه من دمار وخراب، أصاب مصائر الكثير من الدول التي ابتُليت بوجوده بين ظهرانيها. رغم ذلك كله، تمسكت الجماعة برفع شعار «المحنة» التي تستلزم الصبر، شاهرةً في وجه من يريد مراجعةً أو تقييماً الاتهامَ بأنه «داعية فتنة»، يستهدف بلبلة الصف «الإخواني» وهدم «الجماعة الربانية».
لم يُعرف عن «الإخوان» أي انخراط جاد في مراجعة، على مستوى الأفكار والأدبيات والسلوك والاجتهادات السياسية والفكرية، وهو ما أسهم في تكلسها تنظيمياً وفكرياً على نحو كان من أهم الأسباب التي ساقتها إلى محنها الحقيقية والمفتعلة. وقد ضربت الجماعة جملة من التطورات الدراماتيكية في السنوات الماضية، على نحو لم تعرفه عبر تاريخها تحلت في مواجهتها بحالة من حالات الإنكار التي جعلتها تحمّل الجميع مسؤولية ما جرى منها ولها، من دون أن تشير ولو من طرف خفيّ بإصبع الاتهام إلى مناهج التفكير أو التدبير التي حكمت سلوكها، سواء في مرحلة ما قبل يناير (كانون الثاني) 2011 أو ما جرى خلال يناير وما تلاها من وصولها للحكم على نحو ما يعرفه الناس جميعاً.
- خطايا التأسيس
لم تبدأ خطايا الجماعة مع الانتقال من مربع الدعوة والتربية إلى مربع السياسة ومحاولة الوصول للحكم الذي استجلب عليهم غضب الجميع في الداخل والخارج، يوم أعلنها حسن البنا في العام 1938 مع رسالة المؤتمر الخامس التي كشفت حقيقة مشروعه بوصفه مشروعاً سياسياً يتوسل بالدين، السلاح الأكثر فاعلية في السيطرة على عواطف الناس. منذ هذه اللحظة، بدأ نزيف الجماعة الشعبي على عكس ما يعتقد الكثيرون، وبدأ الصعود ولكن نحو الهاوية في الحقيقة. فقد غادرها الكثير من الشخصيات العاقلة، ممن ارتبطت بها تحت دعاوى الإحياء الإسلامي والدعوة لتمكين القيم الإسلامية من النفوس، والتوسل في الأساس بنمط محبب للمصريين وهو التصوف، إذ غلبت على عملية التربية والدعوة في هذه المرحلة، المأثورات ووظائف الحركات الصوفية.

محمد مرسي وإلى يمينه محمود حسين الذي يقود إحدى الجبهات المنقسمة (غيتي)

لم تناقش أبداً جريمة تأسيس ما سُمي بـ«النظام الخاص»، تلك الميليشيا العسكرية الموازية للنظام العام للجماعة، والذي خرج تماماً عن سيطرة حسن البنا وإن كان البعض يعتقد أن الأمر لم يكن يعدو توزيعاً للأدوار، وأن التدبير كان يقتضي أن يفعل «النظام الخاص» ما يفعله، فإذا كُشف أمره أعلن البنا أنه غير مسؤول عن أعماله.
في لقاء جمعني بمحمد فريد عبد الخالق -وكان سكرتيراً لحسن البنا في أحرج المراحل- أكد أن البنا غضب من عمليات «النظام الخاص» غضباً شديداً، وظل يردد وهو يشد شعره: «أنا أبني وهم يهدمون». إذن فقد بدأ الهدم مبكراً بالفعل، ولم يكن حسن البنا قد استكمل البناء بعد، إذ دخلت الجماعة صراعاً مفتوحاً مع الجميع، وفقدت قيادة المؤسس الذي كان لا يزال يحتفظ بالكثير من الأفكار والخطط لجماعته، وقد هضم الدرس بأن سلوك مسار السياسة ومخالفة نصائح شيخ كالحافظ التيجاني الذي نصحه بألا يقترب من السياسة ويبقى في دائرة الدعوة والتربية، كان خطأ كارثياً أدركه قبل اغتياله بشهور.
- «مفاصلة شعورية» وعزلة وجدانية
ظلت الجماعة تمارس نشاطها بإرادة النظام الخاص ورؤيته المغلقة في الفترة من 1949 بعد اغتيال مؤسسها حتى تغيرت طبعتها تماماً مع سيد قطب في 1954 الذي كتب خطتها الجديدة لتنتقل من حالة «روح جديدة تنساب في الأمة لتحييها بالقرآن» بتعبير البنا، إلى حالة «المفاصلة الشعورية» والعزلة الوجدانية التي تنطلق من النظر إلى المجتمعات الإسلامية بوصفها مجتمعات جاهلية، ابتعدت عن حاكمية الله لحساب حاكمية البشر وضلَّت في التصور والاعتقاد والسلوك، ما أنتج أفكار الاستعلاء الإيماني. وأتعجب كيف يستقيم جمع كلمة استعلاء مع إيمان في جملة واحدة؟ ولكن الفكرة مرت وكسبت في السجون زخماً وأنصاراً جدداً، حتى تحورت فكرة «الإخوان»، لتترسخ في وعيهم مقولات «المؤامرة على الإسلام بين كيد أعدائه وجهل أبنائه» أو «جاهليتهم»، كما سمّاها قطب.

القرضاوي حاول التوسط في صراع الجبهات (إ.ب.أ)

وبين مؤامرة محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في 1954 وتنظيم 1965 الذي تزعمه سيد قطب، جرت تحت الجسر مياه، وانتعشت نظريات سيد قطب ووجدت أنصاراً ودخلت الجماعة نفقاً طويلاً، كان آخره تجربة «الإخوان» القصيرة في حكم مصر والتي سيطرت على مقدراتها مجموعة قطبية أدمنت العمل السري ولم تتحرر من مشكلاته حتى عندما وصلت إلى الحكم، ولم تتصرف إلا بالطريقة التي درجت عليها واعتادتها طوال عقود.
نحن هنا أمام مدرستين في التفكير والتدبير يستحيل الجمع بينهما... فقد بدا أن محاولة الجمع بين السلمية والعنف، بين السرّيّ والعلنيّ، بين الدعوة والسياسة، بين الشارع والحكم، محاولة للإمساك بكل شيء. وهو السلوك الذي تمسكت به الجماعة عبر تاريخها، بحديثها عن نفسها كهيئة إسلامية جامعة بتعبير البنا، وبدا أمراً مستحيلاً، تأكدت استحالته بالتجربة والبرهان، بما يؤكد الحاجة إلى مراجعة مفصلة لتلك المواضع التي تأكد فيها فشل «الإخوان» عبر تاريخهم الممتد خلال قرن من الزمان، وما يقف وراء ذلك من قيم وأفكار ومفاهيم.

شكَّلت محاولة اغتيال عبد الناصر في 1954 نقطة تحول في مسيرة «النظام الخاص» للجماعة (غيتي)

تبدو المراجعة أمراً يفرضه العقل، أو بتعبير «الإخوان» الأثير حين يعتقدون في حتمية شيء فيقولون إنه «فريضة شرعية وضرورة بشرية»، وهو ما ينطبق على المراجعة التي نناقش فيها ما جرى لهذا التنظيم: أفكاره، وقيمه، ومشاريعه، وأهدافه، ووسائله، وفعله بنفسه وبالآخرين. عبر مراجعة هادئة لم يكتبها «الإخوان»، أتقمص فيها شعور «الإخوان»، من دون عقلهم المحجوب خلف أساطير التنظيم، آمل بأن أبدد الدخان الذي حجب الرؤية عن عقولهم التي أدمنت الإنكار.
- «جماعة المؤمنين» ووهم «الرعاية الإلهية»
«صنع الله دعوة الإخوان المسلمين على عينه، فرسم لها طريقها وحدد لها أهدافها واختار لها الخير في كل خطواتها ومراحلها حتى في حالة الهزيمة والانكسار، بل إن أشخاصها وقيادتها جاءت أشبه بالاختيار الرباني فعكست في أفكارها وتصرفاتها وقرارتها الشخصية، وربما صفاتها وأسمائها العناية الإلهية لدعوة الإخوان، والتي تضع كل شيء في موضعه ونصابه لذا لم تكن مصادفة أن يكون حسن البنا هو المرشد الأول الذي بدأ الدعوة ووضع البناء، وحسن الهضيبي هو المرشد الثاني الذي قاد سفينة الدعوة في محنتها وتصدى لمن كادوا لها من رجال الثورة فكان الهضبة التي تحطمت عليها مخططاتهم ومكائدهم، ثم جاء عمر التلمساني بعده فأعاد تجميعها وتلمّس لها خطواتها بعد المحنة الناصرية، وحل بعده حامد أبو النصر مرشداً رابعاً فكان عنوان النصر الذي أحرزه الإخوان في النقابات ونوادي هيئات التدريس والمجالس المحلية والبرلمان إلى أن توفاه الله، وتولى بعده مصطفى مشهور الذي يضع الإخوان عليه الآمال في أن يعيد شهرة الجماعة عالمياً، وهو صاحب الجهد الأكبر في بناء وقيادة التنظيم العالمي للإخوان».

مصطفى مشهور ومأمون الهضيبي يتصدران مشيعي جنازة حامد أبو النصر التي شهدت «بيعة المقابر» عام 1995 (غيتي)

يرى الباحث حسام تمام أن هذه المقولة التي صدّر بها أحد الصحافيين «الإخوان» حواراً أجراه مع مصطفى مشهور، عقب توليه منصب المرشد العام لـ«الإخوان» سنة 1996، تكشف بجلاء طبيعة النظرة «الإخوانية» لتاريخ الجماعة، بوصفه تاريخاً لجماعة المؤمنين التي تعهدتها الرعاية الإلهية، فالله تعالى هو من رسم طريقها واختار لها كل خطواتها. إذن أي خلاف أو نقد في تلك الحالة يكون أقرب إلى التجديف والإلحاد، فمن ذلك الشخص الذي يستدرك على فعل الله في خلقه؟ بهذه الروح تعامل «الإخوان» مع تاريخهم، وجرائمهم بحق الدين والوطن، ثم الادعاء المكرر بنصرتهما في كل ما فعلوه عبر تاريخهم.
في حواره مع المتحدث الإعلامي لجبهة محمود حسين، إحدى الجبهات المتنازعة على قيادة التنظيم والمعروفة بـ«جبهة إسطنبول»، مع قناة «مكملين» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، قال علي حمد إن «التنظيم هو الضمانة التي تحول دون الذوبان والاندماج مع الغير»، في سياق تبريره للتمسك بالتنظيم، رغم حالة الانقسام التي تحولت فيها الجماعة من حالة التنظيم الواحد والقيادة الواحدة إلى شظايا تدّعي كل منها أنها الأقدر على تجسيد أفكارها وقيادة مشروعها الملتبس وتنظيمها الغامض المشتت.

لم تدرس الجماعة بجدية أسباب فشل تجربة حكم الرئيس السابق محمد مرسي القصيرة (غيتي)

الفارق الزمني بين المقولتين الأولى والثانية يتجاوز عقدين من الزمان، لكن طريقة التفكير واحدة، بما يعكس حقيقة أن التنظيم «الإخواني» يعد -عند الجماعة- هدفاً بذاته، لا وسيلة لتحقيق مشروع ما.
- كيف سيطر «النظام الخاص» على روح «الإخوان»؟
المتأمل في تاريخ التنظيم وتركيبة قيادته يدرك أنه ظل تنظيماً سرّياً غامض الأهداف يتوسل بجمهور عريض لا يعرف شيئاً عن حقيقة أهدافه ووسائله، إلا ما عرفه من خلال تنظيم عام ادعى الصلة بالدعوة ومكارم الأخلاق وتمكين القيم من النفوس.
أنشأ حسن البنا التنظيم واحتفظ بخطته الاستراتيجية، وكثيراً ما كان يُسرّ إلى أقرب خلصائه بأنه لا يبوح عن خططه إلا في الموعد المناسب، فتدرّج في الانتقال من الدعوة إلى السياسة مراوحاً بين السرّية والعلنية... بين السلمية والعنف.
كتب البنا كل وثائق التنظيم المعروفة، سواء رسائل أو لوائح، وظل هو المفسر الحصري لها مع دائرة ضيقة من رجال «النظام الخاص»، وتحديداً خلية العشرة الذين قادهم مصطفى مشهور وأحمد حسنين معتقداً أن القدر سيمهله لتحقيق خطته والإفصاح عن مراحلها، لكنه قُتل في فبراير (شباط) 1949 قبل أن يصل إلى تحقيق تلك الأهداف.

أعضاء «الإخوان» في جامعة الأزهر خلال أعمال عنف عقب نهاية تجربة حكم الجماعة في 2013 (غيتي)

لذا بعد وفاته أمسك رجال «النظام الخاص» بقيادة التنظيم. وظلت هذه القيادة بشخوصها ونهجها هي الأمينة على أفكار حسن البنا ومشروعه، ولم يكن ظهور البعض ممن حُسبوا على التنظيم العام الدعوي سوى شكل من أشكال العلاقات العامة والاختباء خلف قيادات تبدو مدنية.
في هذا السياق، قدم النظام الخاص حسن الهضيبي، القاضي القريب من الملك (كان متزوجاً من ابنة ناظر الخاصة الملكية وقيل إنه اختيار القصر)، ورغم أن الهضيبي حاول أن يحل هذا النظام أو يعيد تأهيله ليكون خاضعاً له فإنه فشل بطبيعة الحال.
تلا الهضيبي عمر التلمساني الذي كان واجهة مدنية بشخصيته وعلاقاته بالقوى السياسية المصرية، ليتسلل النظام الخاص تحت عباءته إلى المجتمع المصري من جديد. وقد شهد عهده بروز هذا التزاوج بين من تبقى من رجال «النظام الخاص» ومجموعة القطبيين، وهم تلك الفئة التي استلهمت أفكار سيد قطب التكفيرية لتصنع مزيجاً خاصاً يجمع بين مراوغة البنا وصراحة قطب.
وبوفاة التلمساني، لم يعد «النظام الخاص» بحاجة للاختباء فقد أُعيد بناؤه من جديد، ومعه نظام عام يختبئ فيه، قوامه الوجود في النقابات والجامعات والبرلمان. قاد مصطفى مشهور الجماعة وبرزت وجوه «النظام الخاص» في عام 1986 مع ولاية محمد حامد أبو النصر الذي كان من رجال «النظام الخاص». لكن ظل مشهور يقود التنظيم فعلياً إلى أن مات أبو النصر في العام 1996، وحدثت ما تسمى «بيعة المقابر»، حيث بايع رجال «النظام الخاص» مشهور وهم يدفنون أبو النصر، في إيحاءٍ بمؤسسية زائفة لم تتمسك بها الجماعة يوماً.
ومضى قطار التنظيم يشق طريقه في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر والكثير من أقطار العالم، ليصل مع خروجه من حكم مصر إلى مرحلة التشظي، وينقسم إلى أربعة كيانات تنظيمية... فماذا جرى للتنظيم الذي اكتسب قوته وتأثيره محلياً وإقليمياً وربما دولياً عبر تنظيم وقيادة واحدة؟ وكيف خسر التنظيم وحدته؟ وما مستقبله في ظل كل ما جرى، خصوصاً مع حالة الانكشاف الأخلاقي والسياسي التي يعيشها؟
- أخطر انقسامات «الإخوان»... متى وأين وكيف؟
لا يكاد القارئ الذي يطالع ما ينشر عن خلافات جبهات «الإخوان» المتصارعة، أن يدرك كيف وصل قطار الجماعة التي عُرفت دوماً بتنظيمها الحديدي إلى محطة الانقسام والتفتت، ما يستدعي تقديم استقصاء دقيق يوضح للقارئ الوقائع المتتالية التي تكشف حقيقة ما جرى.
في كل الصراعات بين التنظيم والدولة في مصر، كانت هناك خطوط حمر في المواجهة بين الطرفين، وكانت هذه الخطوط تُمكن التنظيم من إعادة بناء صفوفه واستعادة لُحمته، فماذا حدث هذه المرة؟
على خلفية مطاردات واسعة ونوعية لأجهزة الأمن المصرية في أعقاب فض اعتصامي «رابعة» و«النهضة» في أغسطس (آب) 2013، وبعد أيام قليلة من خروج «الإخوان» من حكم مصر، اختفت تقريباً معظم قيادات التنظيم خشية القبض عليهم وحرصوا على عدم التواصل بعضهم مع بعض.
كان هذا الهروب إيذاناً بحدوث أول فراغ قيادي كامل في تاريخ التنظيم، خصوصاً بعد القبض على معظم الهيكل القيادي المتمثل في مكتب الإرشاد والمكاتب الإدارية بالمحافظات وكذلك مجلس الشورى العام.
أدار التنظيم أموره وفقاً للمستجدات بمن تبقى من قياداته، إذ آلت إدارته إلى عضوي مكتب الإرشاد محمد كمال، ومحمد عبد الرحمن المرسي معاوناً له، ضمن مجموعة سُميت لجنة إدارة الجماعة.
وفي سياق سيولة لم يعرفها التنظيم في صفوفه عبر تاريخه بهذه الحدة، دار نقاش بين محمد كمال المنتمي إلى التيار القطبي في الجماعة، ومن تبقى من قيادات التنظيم حول مشروعية حمل السلاح في مواجهة أجهزة الأمن، إذ راجت فتاوى تماهت مع النقاش تحرض على قتل ضباط الجيش والشرطة، وحدثت بالفعل جرائم بحق الكثير من الضباط، وظهرت حركات مسلحة تتبع مباشرة تنظيم «الإخوان»، بل يشرف محمد كمال على تمويلها وترتيب خططها في استهداف الشرطة والجيش (وفق تصريحات سابقة لقادة «إخوان»، ومعلومات من قادة حاليين من جبهة محمود حسين).
كان رد الشرطة حاسماً على مجموعات العمل المسلح التابعة لـ«الإخوان»، فتم قتل مجموعة الثمانية التابعة للجماعة في منطقة 6 أكتوبر (غرب القاهرة)، وهي المجموعة التي كانت تشرف على إدارة التنظيم تحت يد محمد كمال. كان ذلك في يوليو (تموز) 2015. وساعتها أدرك تنظيم «الإخوان» أن الدولة لن تتهاون في استخدام القوة لمواجهة تنظيماته المسلحة.
حدث ساعتها نقاش كبير داخل «الإخوان». حذر إبراهيم منير من أن الاستمرار في المقاومة المسلحة للسلطة سيدفع النظام المصري إلى استخدام ورقة العنف لتصنيف التنظيم في الغرب بوصفه تنظيماً إرهابياً، ومن ثم بدأت بعدها مراجعة سياسة «الإخوان» من جانب منير وحسين ومن في نفس موقفهما، ليتم إعلان إقالة محمد كمال من إدارة التنظيم وحل اللجنة التي تدير الجماعة بالكامل.
رفض محمد كمال الأمر ومعه فريق قليل، منه علي بطيخ ومحمد منتصر الذي تم تعيينه متحدثاً إعلامياً باسم جبهة محمد كمال. كان ذلك أول شقاق كبير داخل «الإخوان» منذ فقدوا حكم مصر. بات محمد كمال معزولاً ومعه قلة قليلة، بينما أدار إبراهيم منير ومحمود حسين التنظيم من الخارج تحت قيادة القائم بأعمال المرشد محمود عزت، إذ أُعلن أن عزت رفض مسار العنف وتمسك بـ«السلمية» في مواجهة السلطة. كان هذا تأكيداً على حدوث الانقسام الأهم بين كمال الذي اعتمد العنف مساراً مباشراً ومفتوحاً في مواجهة الدولة، وعزت الذي تمسك بالكمون والرفض العلني للعنف.
- محطة الخلاف الثاني
تكرس الخلاف بين الطرفين. وخرج محمد كمال ببيان بعنوان «إبراء ذمة» يحكي فيه كيف تم إقصاؤه، وأنه لم يتأخر عن تلبية الدعوة من جانب قادة «الإخوان» للنقاش حول مستقبل الجماعة، ودعم موقفه في هذه الفترة بعض القيادات مثل علي بطيخ ومجدي شلش ومحمد منتصر، وغيرهم.
ومع دخول أكتوبر (تشرين الأول) 2016، أُعلن عن مقتل محمد كمال على يد قوات الأمن، لتبدأ ساعتها الاتهامات من جانب مجموعته لقادة التنظيم بالمسؤولية عن مقتله، وأنهم هم من أبلغوا الأمن عن مكانه، ليدخل التنظيم في أتون أزمة وخلاف أكبر.
بدأ كل من محمود حسين وإبراهيم منير ممارسة نشاطاتهما وسلطاتهما بوصفهما «القيمين على التنظيم». وأعلنا فصل القيادات المحسوبة على جبهة كمال كافة، خصوصاً مع إصرار هذه القيادات «الكمالية» على الصدام المسلح مع السلطة، فكان قرار الفصل لكل الداعمين لاستخدام العنف في مصر، ليصبح كل هؤلاء بنهاية 2017 وبداية عام 2018 خارج التنظيم، وبالتالي بات التنظيم جماعتين في هذه اللحظة.
- تنظيم «الإخوان» يصبح ثلاث جماعات
لم تقف الأمور عند هذا الحد، إذ أُلقي القبض على محمود عزت، القائم بأعمال المرشد العام في أغسطس 2020، ليبدأ النقاش حول خلافته، ومن هو الأحق بهذه الخلافة؟ احتج محمود حسين بكونه الأمين العام للجماعة، وعضو مكتب الإرشاد الوحيد خارج مصر، بينما أكد منير أنه الأحق، لأنه كان يدير التنظيم بالخارج، فضلاً عن عضويته في مجلس الشورى العالمي.
بادر منير باتخاذ إجراءات لحسم الصراع لصالحه، فأقدم على تشكيل لجنة معاونة له في إدارة التنظيم وحل ما يعرف بمكتب الإرشاد، ملغياً منصب الأمين العام، ليردّ حسين في المقابل معلناً رفض هذه القرارات بالمطلق، ومعلناً فصل إبراهيم منير ومجموعته التي شكَّلها لإدارة التنظيم، وهي لجنة من سبعة أشخاص، متذرعاً بأن أعضاء مجلس الشورى العام داخل مصر، كلهم يدعمون موقفه. وهو أمر مشكوك في صحته بالنظر لوفاة أكثر أعضاء المجلس والقبض على من تبقى منهم.
لم يكن لدى جبهة منير أي وجود داخل مصر من القيادات المحسوبة على الصف الأول، فكلهم إما في الخارج وإما في السجون، ولذلك كانت ورقة «الداخل المصري» هي الورقة التي يضغط بها حسين على جبهة منير.
جرت محاولات متعددة للصلح بين الطرفين قادها المصري يوسف القرضاوي والموريتاني محمد الحسن ولد الددو. كما جرت محاولتان للتفاهم، قادهما محمود حسين، حضر في إحداهما بنفسه للقاء محمد البحيري، القيادي التاريخي المحسوب على إبراهيم منير، لكن النقاش والاجتماع لم يسفرا عن شيء حتى وفاة منير مطلع الشهر الماضي، ما أكد أن الخلاف مستمر ليتكرس الانقسام داخل الجماعة التي ظلت تنظيماً مركزياً صارماً لعقود، فاستحالت ثلاث جماعات أو أكثر، كل منها يدّعي أنه الأمين على مشروعها والممثل لعناصرها.
- هل نشهد انهيار تنظيم «الإخوان» من داخله؟
في معرض تعليقه على مقال كتبه أكاديمي «إخواني» سابق تناول الخلافات التنظيمية بين فروع التنظيم، علق قيادي «إخواني» سابق تعليقاً كاشفاً عن طريقة التفكير الحالية لقطاع واسع داخل الجماعة، ربما يعطينا فكرة عن حقيقة ما يجري في الجزء الأكبر من التنظيم البعيد عن ضجيج المعركة التي يدور أوارها على مواقع التواصل الاجتماعي.
لم يعطِ المعلق وزناً يُذكَر لتلك الخلافات التنظيمية التي يراها عَرَضاً لمرض ونتيجة وليست سبباً، حتى عبَّر بسخرية قائلاً: «بالله عليكم أنتم بتتخانقوا على إيه؟»، مضيفاً: «لو عدنا لأصل المشكلة التي تتفرع منها بقية المشكلات فهي الأزمة الفكرية... ثم بدأ بطرح السؤال الأهم: هل من الصحيح تكوين جماعة شاملة عوضاً عن مفهوم الإسلام الشامل الذي يسع الجماعة وغيرها؟».
وأشار الرجل إلى أن الخلط بين شمولية الدين وشمولية التنظيم، دفع الجماعة إلى أن تكون إطاراً موازياً للدولة، وبالممارسة لم تعد «جماعة من المسلمين» بل جعلت من نفسها «جماعة المسلمين» التي من المفترض أن تنمو إلى دولة. فمنذ أن رأى البنا سقوط الخلافة العثمانية، أراد أن يكون دولة مصغرة بكل مقوماتها تكبر مع الزمن، من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع إلى الدولة إلى الخلافة إلى أستاذية العالم، وهنا نفهم أن الجماعة هي المنوط بها هذه المهمة، ومن ثم فأي نفي لفكرة «جماعة من المسلمين» لا يعد صحيحاً، لأن الممارسة تكشف عن أنها ترى نفسها «جماعة المسلمين» تتطور رويداً رويداً حتى تصل إلى «أستاذية العالم».
ولذلك في الأفكار والمفاهيم، فهي «دعوة سلفية، طريقة سنية، حقيقة صوفية، هيئة سياسية، جماعة رياضية، رابطة علمية ثقافية، شراكة اقتصادية، وفكرة اجتماعية»، حسبما وصفها البنا!
لقد أراد البنا أن يقدم الجماعة من كل الأبواب الممكنة، بما يسهل تمددها، إلا أن محاولته ومن بعده كانت تحمل مسببات التعثر، فقد أصبح التنظيم بلا رؤية سياسية واضحة.
وربما تجدر الإشارة هنا إلى ما رصدناه في أكثر من دراسة عن إصابة «الإخوان» بعمى استراتيجي كامل، وهو ما تشرحه فقرة لاحقة يقول فيها: «ولذلك اصطدم (التنظيم) مع نظام الملك (فاروق) وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وحتى الآن، ولا يمكن اعتبار ما حدث للجماعة من تنكيل ظلمت فيه إلى حد كبير، مقابلاً لصحة موقفها، فلا يمكن الحكم على مسار أنه صواب لأنه تم التنكيل بأصحابه».
هذه الفكرة نزلت إلى ميدان التجربة (ومن غير المتصور أنها كانت تعتقد أنها ستعمل في فضاء بلا عائق)، كانت شرعية في زمن الملك فانقسمت وتعثرت، وتحالفت مع نظام يوليو فتعثرت مرة ثانية، وعارضت نظام السادات ومبارك فتعثرت مرة ثالثة، وسعت إلى الحكم بعد 2011 فتعثرت مرة رابعة.
في كل أطوارها: من وجود قانوني، إلى وجود غير قانوني، إلى تحالف، إلى معارضة، ثم سعي إلى حكم... كانت مآلات الجماعة هي التعثر والتنكيل. وفي أدبياتها تستدعي «غزوة أحد» كأن مسار الدعوة الإسلامية كان كله «غزوة أحد»!
إذا كانت التجربة الميدانية، بأكثر من شكل وفي أكثر من زمان، لم تأتِ بغير التعثر، وهو ما حدث في الجزائر وسوريا وتونس والمغرب واليمن والعراق والسودان... كله تعثر، في أكثر من زمن وأكثر من بلد، ألا يدعو هذا إلى التفكير في أصل الفكرة نفسها: معطيات كهذه تؤدي دائماً إلى نتائج كهذه؟
بينما تلفت شهادة أخرى إلى أن هناك «كهانة» تسيطر على عمل «الإخوان» التنظيمي، بدت مظاهرها -على حد تعبيره- في رغبة البعض أن يبدو كأنه شخص غير عادي يعلم ما لا يعلمه الآخرون، لديه حرص على الجاه والسلطة، يغلفه دائماً بالتأكيد على الزهد في الدنيا والمناصب، والتأكيد على أن كل كلمة أو سلوك إنما هي لوجه الله، مؤكداً أنه في الوقت الذى يعلم فيه الجميع أنه لا وجود لتنظيم على أرض الواقع، وإن ظل البعض لسنوات عجاف يتكلم باسمه ويتشدق باللائحة ويزعم التواصل مع الإمام الغائب، ويتكلم في وسائل الإعلام باسم تنظيم لا وجود له، وما ذاك إلا كذب أو تدليس من دون اكتراث بتوابع ذلك على مصالح الدولة المصرية، أو ما يتعرض له المنتمون السابقون أو من هم في السجون أو المطلوبون، ألا يعد ذلك في أحسن الظنون تقديماً لرغبات نفسية لدى بعض الرموز على مصالح كبرى ذات اعتبار؟
ولو تكلمنا بالمنطق فإن هذا الإصرار ليس إلا تضحية بالآخرين وبكل شيء مقابل رغبة شخصية غير مشروعة، وذلك سلوك الكهنة الذين باعوا الدين ومصالح العباد في الدنيا والآخرة، من أجل كهنوت شخصي يعبّر عن نفسية وضيعة. إن سلوك الكهنة هو الذى يعطي المبرر الوحيد لما يتعرض له الأفراد من بلاء، بينما هم حناجر وألسنة لمن يعيشون في مأمن خارج البلاد من دون عمل أو حياء.
نحن أمام شهادتين لافتتين تعرّيان حقيقة التنظيم، ليس عبر نقد من مراقبين من خارجه أو من كتاب محايدين، بل عبر أقلام من داخل الجماعة تفكر بطريقتها وتشعر بمشاعر أعضائها، وهذا مكمن الأهمية، على طريقة و«شهد شاهد من أهلها».
بين طرح للسؤال الوجودي الصحيح الذي ينسف الجماعة ويؤكد ضرورة زوالها، وبين شرح وافٍ للكهانة التي تتمسك بها قيادات تتمسك بإدارة تنظيم متداعٍ حرصاً على مكاسبها الشخصية، ومن دون اكتراث لما جناه الدين والوطن... يبدو أننا وللمرة الأولى بعد عقود من وجود التنظيم، أمام حراك داخله قد يؤدى إلى طرح الأسئلة الصحيحة التي لن تخطئها الإجابات، ليس من خارج التنظيم تلك المرة ولكن من داخله، فمثل هذه التنظيمات في العادة تنهار من الداخل وليس من الخارج، خصوصاً أن التجربة أثبتت أن كل هجوم أو نقد من خارجها، يستنفر عوامل الدفاع الذاتي ويؤخر التعافي من مرض التنظيم الذي لا أظن أن يعبر لقرن قادم.
* باحث مصري في شؤون جماعة «الإخوان المسلمين»


مقالات ذات صلة

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

أوروبا العلم الألماني في العاصمة برلين (أ.ب)

ضبط أجهزة كومبيوتر محمولة وأموال خلال مداهمة مقرّ جمعية إسلامية محظورة بألمانيا

صادرت الشرطة الألمانية أجهزة كومبيوتر محمولة وأموالاً، خلال عمليات مداهمة استهدفت جمعية إسلامية تم حظرها حديثاً، ويقع مقرّها خارج برلين.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان استقبل السيسي في مطار أنقرة في إسطنبول (من البث المباشر لوصول الرئيس المصري) play-circle 00:39

السيسي وصل إلى أنقرة في أول زيارة لتركيا

وصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة، الأربعاء، في أول زيارة يقوم بها لتركيا منذ توليه الرئاسة في مصر عام 2014

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي قوات من الأمن بميدان التحرير في القاهرة (أ.ف.ب)

مصر: توقيف المتهم بـ«فيديو فيصل» وحملة مضادة تستعرض «جرائم الإخوان»

أعلنت «الداخلية المصرية»، الثلاثاء، القبض على المتهم ببث «فيديو فيصل» الذي شغل الرأي العام، مؤكدة «اعترافه» بارتكاب الواقعة، بـ«تحريض» من عناصر «الإخوان».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
أوروبا الإعلامي بقناة «الشرق» الإخوانية عماد البحيري تم توقيفه بسبب التهرب الضريبي (من حسابه على  «فيسبوك»)

تركيا توقف إعلامياً في قناة إخوانية لتهربه من الضرائب

أحالت السلطات التركية، (الخميس)، المذيع بقناة «الشرق» المحسوبة على «الإخوان المسلمين»، عماد البحيري، إلى أحد مراكز التوقيف بدائرة الهجرة في إسطنبول.

سعيد عبد الرازق (أنقرة )
شمال افريقيا الرئيس عبد المجيد تبون (د.ب.أ)

الجزائر: فصيل «الإخوان» يرشح الرئيس تبون لعهدة ثانية

أعلنت حركة البناء الوطني (فصيل الإخوان في الجزائر)، الجمعة، عن ترشيحها الرئيس عبد المجيد تبون للانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في 7 سبتمبر المقبل.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».