حصلت الشاعرة والكاتبة المصرية د. فاطمة قنديل على جائزة «نجيب محفوظ للأدب» لهذا العام من الجامعة الأميركية بالقاهرة عن روايتها «أقفاص فارغة»، وهي الجائزة الأولى في مسيرتها الإبداعية المتميزة التي بدأت في الثمانينيات وأثمرت عدداً من الدواوين الشعرية المهمة؛ منها «صمت قطنة مبتلة»، و«أسئلة معلقة كالذبائح»، و«بيتي له بابان».
هنا حوار معها عن هذه الرواية والجائزة، وعلاقة السرد بالشعر والتنوع بين دروب الإبداع.
> كيف تتأملين لحظة تتويجك بجائزة هي الأولى في عمرك الإبداعي؟
- بهجة كبيرة دون شك؛ لعدة أسباب، فأنا لا أتقدم لجوائز، ولا أحب وضع نفسي في اختبارات، لولا تحمس ناشرتي كرم يوسف التي قامت هي بالتقدم للجائزة بإيمان كبير منها بالعمل.
وسبب آخر أنها جائزة محترمة ليس حولها لغط كبير، وستتيح لعملي فرصة الترجمة، فلقد ترجمت لي أشعار متناثرة هنا وهناك، لكن هذا أول عمل يترجم لي كاملاً. أما السبب الأكبر للسعادة فهو ارتباطها باسم نجيب محفوظ.
> ذكرتِ، خلال تسلمك الجائزة، حكاية عن رسالة أرسلتِها لمحفوظ في مراهقتك قلتِ له فيها إنه فتى أحلامك. حدِّثينا عنها.
- هذا الموقف حدث بالفعل، وشعرت بأنه بحصولي على الجائزة وكأن نجيب محفوظ يردّ على رسالتي، فذكرت تلك القصة كلقطة استعارية، كان عمري 14 عاماً عندما أرسلت له تلك الرسالة، وكان وقتها يُعرض فيلم «خلي بالك من زوزو» حيث كان حسين فهمي فتى أحلام البنات، في حين كان نجيب محفوظ هو فتى أحلامي، وبدأت، في هذا الوقت، أشعر بأن هناك مسافة بين أحلامي وأحلام الفتيات من سنِّي، أما ما يتعلق بـ«أقفاص فارغة» فقد كان بها ثيمات وإحالات من «بداية ونهاية»، بما في ذلك شخصية «نفسية»، ومقاومة العائلة، ونموذج الأخ، وهناك إحالة صريحة في مشهد يجمع الأم والابن في الرواية فتقول له إنه يُذكرها بحسانين في «بداية ونهاية». وفي الرواية كذلك أصداء من «زهرة» في «ميرامار» البطلة التي كانت تقاوم الظروف من خلال التعلم وليس التطلع الطبقي بمفهومه المادي.
أودّ هنا الإشارة أيضاً إلى الدهشة الكبيرة التي تلقّاها جيلي عندما أصدر محفوظ «أصداء السيرة الذاتية»، ففي الوقت الذي كان الجيل منهمكاً في التنظير لقصيدة النثر، طرح محفوظ هذا النص دون تنظير، وكأنه يكتب في صلب قصيدة النثر نفسها.
> تنحازين لفكرة النص المفتوح في الكتابة، وتجلَّى في عملك الروائي.
- هذا أسلوب الكتابة الذي أحبه، أستغرب كثيراً ممن يقول إنني انتقلت من الشعر للرواية، والحقيقة أنني لم أنتقل من مكان لآخر، في ديوان «أسئلة معلقة كالذبائح» مثلاً قدمت نصوصاً سردية طويلة، فأنا مؤمنة بأن مزاج النص هو ما يفرض شكله.
فالمشهد الافتتاحي للرواية «علبة شوكلاتة صدئت للأسف» كان في الأصل قصيدة، ثم حدث أن قادتني العلبة لذكريات متشعبة فكان شكل النص الروائي.
ولستُ وحدي بين جيلي مَن تنوَّع شكلُ إنتاجه الأدبي، لكن يزعجني من يقول إنني تركت الشعر وكتبت رواية لأن الرواية تحصد جوائز، وهذا موقف غريب، فحتى عندما أطلق أستاذي الدكتور جابر عصفور مصطلح «زمن الرواية» أطلقه في سياق مختلف وبشكل بنيوي، باعتبار أن الرواية هي العنصر المهيمن والأكثر انتشاراً وليس الأعلى قيمة. أنا شخص حر ولا أكتب وفقاً لقوانين السوق.
> لكن مفارقات الشعر حاضرة في أسلوب الكتابة هنا ولغتها.
- نعم، بداية من المقاطع القصيرة للسرد المتصل للرواية، وأتصور أن «أقفاص فارغة» هدية الشعر نفسه، كان لا يمكن أن تُكتب لولا تعلمي الطويل كيفية تصفية لغتي، وهو ما تعلمته على مدار سنوات طويلة من كتابة الشعر.
> تُكرر بطلة الرواية أن ذاكرتها مثقوبة، فيما تغرق في تفاصيل بالغة الدقة. كيف أدرتِ لعبة الذاكرة هنا؟
- طالما كان أصدقائي يصفونني بأنني ضعيفة الملاحظة وبلا ذاكرة، وبدأت أنتبه إلى أنها كانت لعبة نفسية دفاعية قمت بها دون وعي على مدار حياتي، فالذكريات كانت موجودة، وكنت فقط أغلق عليها باباً، وبمجرد أن فتحت الباب، وجدتني أمام ذاكرة مرتبة ومنظمة وحديدية، هذا ما كشفه النص.
> هل تنتظر الذاكرة من يفتح لها الباب؟
- أظن ذلك، نعم، فأنا في هذه الرواية لم أجد التذكر صعباً ولا التفاصيل، ربما استدعاء المشاعر هو الأثقل، بل كانت هناك مشاهد مؤلمة كمرض الأم، ومشاهد أخرى ربما يمر عليها القارئ بشكل عابر، كانت دموعي تسقط وأنا أستدعيها لفرط بساطتها، كمشهد في الطفولة وأنا أتمنى أن أشتري دراجة، بكيت كطفلة كبتت شعورها طويلاً، هذا كله فاجأني، تحديداً ما يتعلق بأجواء الطفولة.
> هل تحتاج الكتابة الاعترافية للتحرر من تلك الحيل الدفاعية؟
- بالتأكيد، وكذلك عامل التقدم في العمر، فالسن تعطي الكاتب جرأة كبيرة، ربما لو كنت في الأربعين أو الخمسين ما كنت قد جرؤت أن أكتب هذه الرواية، فقد كنت أريد الكتابة عن تجربة مرض الأم لكن لم أكن أجرؤ، ربما كتبتها في نص شعري على استحياء مختبئة وراء استعارات، كان من المستحيل الاقتراب منها بهذا الاسترسال كما فعلت في الرواية.
كتابة تلك الرواية كانت مغامرة بالنسبة لي، كان لها، من وجهة نظري، مصيران؛ الأول أن أكتبها وأخرج متعافية، أو أن أغرق داخلها وأكتئب، وما حدث أنني خرجت متعافية، وكتبتها في وقت قياسيّ وهو شهران ونصف الشهر بالضبط، بلا شطب تقريباً، كأنني كنت أتملى النص، ربما مررت بإحباط مع الفصل الأخير وشعرت بأنني تعثرت، لكن المفارقة أنني أعدت كتابته وانتهيت من الرواية في يوم عيد ميلادي الذي هو نفس يوم وفاة أمي، أنهيت كتابتها وأنا أستقبل يوم ميلاد جديد.
> في الرواية تظهر ملامح الإرث على صورة خصلة شعر الجدة، وطاقم أسنان الأم، وكأننا نئول بعد الموت لأشياء؟
- تلك الأشياء هي الذاكرة الوحيدة الموثوق بها، ما تركه الراحلون، فمن المؤكد أنهم كانوا هناك، لكن الحكايات بها قدر كبير من الخيال الذي خرج على لسان رواة، أو تأويلي الشخصي، هذا اللعب بين المادي المحتوم وبين ألاعيب الذاكرة غير الدقيقة.
> للرواية عنوان فرعي هو «ما لم تكتبه فاطمة قنديل». صنع التباساً بين السيرة وشكل الرواية.
- عنوان «ما لم تكتبه فاطمة قنديل» كان عنواناً مراوغاً بالأساس، أردت أن أقول به ما لم تكتبه «شِعراً»، فهي ليست سيرة بمعناها الصرف، وإلا كنت قد تركت الأسماء والأحداث بها واقعية بشكل كامل، فأقرب تعبير نقدي لها هو أنها رواية «سيريّة» وكان أكبر ما يشغلني في كتابتها هو استخدامي لغة عارية في كتابتها، ففي الشعر أستطيع الاختباء وراء استعارات، أما هنا فكان مقصوداً تماماً أنني لا أريد الاختباء، فدائماً ما كان يشغلني سؤال: هل ما اعتبرته أنا حقيقياً، هو حقيقي بالفعل؟ أحياناً كنت أتذكر حدثاً ثم ينقطع استرسال الذاكرة فجأة، فهنا يأتي التخييل، وهناك شخصيات واقعية، ولكنها ظهرت بشكل طفيف في ذاكرتي، فمنحتها خيطاً روائياً. نحن لا نكتب حكايات، نحن نكتب أدباً، وإلا تحوّل لاعترافات مبتذلة.
> هل أردتِ الاختباء وراء الخيال الروائي؟
- لا أخاف في الكتابة، الأدب الاعترافي موجود في شعري، وأنا كائن اعترافي وأحكي تجربتي في الشعر، الخيال يسدُّ كثيراً من فجوات الواقع، كنت أكتب نصاً بشروط الفن واللغة. أتذكّر الآن «آني أرنو» التي سعدتُ جداً بحصولها على جائزة نوبل، وهي تكتب الأدب الاعترافي الذي أحبُّه، عرفتُ آني في التسعينيات عندما ترجمت لها أمينة رشيد وهدى حسين، شعرت بأنني وقعت على كنز، وعندما كتبت «أقفاص فارغة» كان في ذهني «البحث عن الزمن الضائع» لبروست، و«الاعترافات» لجان جاك روسو، التي تربّينا عليها، و«أوراق العمر» للويس عوض، و«الباب المفتوح» للطيفة الزيات، و«الأيام» لطه حسين.
> تبدو الأحلام والانكسارات في الرواية وكأن أفراد العائلة يتسلمون خيوطها. هل كان حلم الكتابة هو حلم الأم نفسه كما ظهر في الرواية؟
- على مستوى الواقع، كانت أمي تقوم بمصاحبتي في الندوات وبروفات المسرح، كانت قارئتي الأولى ومثقفة جداً، وحريصة على لملمة قصائدي وأرشفتها، كانت كاتبة بالفعل ونشرت باسم مستعار، لا أتذكر الظروف الأسرية لهذا القرار، ومع الوقت لم تواصل الكتابة وانكسر هذا الحلم لديها، فعندما تجد ابنتها لديها الاستعداد المبكر للكتابة، يكون أقرب لانتشال حلمها الشخصي من جديد من خلال تبنِّي حلم ابنتها، لذلك فإن وفاتها كان وفاة صديقي الوحيد في العالم.
> كيف تصفين علاقتكِ بالقطط التي تسود حياتكِ وسردك؟
- القطط تلعب دوراً كبيراً في حياتي ولا أستطيع العيش دونها، قديماً سمعت أن القطط هي بشر مروّا في حياتنا، وأن تأملهم قد يخبرنا عن هؤلاء الذين مرّوا، القطط تشبهني كثيراً فهي صعب السيطرة عليها، لا يتم ترويضها فهي كائن مستقل، ومختبئ، يُحب صاحبه لكنه قادر على وضع مسافات، عندما أقوم بتربيتها تصبح شبهي أكثر، وتفهمني كثيراً وأعتبر قطتي ملاكي الحارس، التي بيني وبينها علاقة نديّة بالدرجة الأولى.
> هل تُولين النص الروائي اهتماماً خلال الفترة المقبلة بعد نجاح «أقفاص فارغة»؟
- ليس بالضرورة، أشعر في الوقت الحالي بعد هذه الجائزة بأنني مرتبكة، وأشعر كذلك برغبة في الاختباء، للعمل والمذاكرة وفتح طريق جديد، أريد أن أعزل نفسي عن كثير من المؤثرات التي يمكنها أن تؤثر عليّ، فربما لا أكتب شيئاً جديداً، الكتابة لديّ تتوقف على رغبتي في أن أكتب ما أريد. وأخشى أن تُقيَّم أعمالي التالية قياساً على نجاح «أقفاص فارغة»، وهذا سيكون ظلماً للعمل الجديد. فالكتابة لديّ في حد ذاتها مسعى للحفاظ على ذاتي من التدمير الذي قد يسببه عدم الكتابة، فأنا أحمي نفسي بالكتابة التي ترتبط لديّ بالرغبة في الحياة نفسها.