تحوّل البرلمان الفرنسي، عصر أمس الثلاثاء، إلى حلبة للصراع بين الحكومة والمعارضة بمناسبة جلسة نقاش بشأن مشروع قانون رئيسي حساس حول ملف الهجرات والمهاجرين غير الشرعيين الموجودين على الأراضي الفرنسية وتسوية أوضاع بعضهم القانونية ممن تحتاج إليهم قطاعات الاقتصاد الفرنسي من جهة؛ وتشديد التعامل مع الآخرين، بما في ذلك تعزيز ترحيلهم عن الأراضي الفرنسية؛ من جهة أخرى.
وهذا المشروع هو الـ29 المخصص للهجرات خلال الأربعين سنة المنقضية، مما يبيّن صعوبة التعامل مع ملف متفجر والتسييس الحتمي الذي يلازمه. وهو يتضمن كذلك إصلاح نظام اللجوء إلى فرنسا وتسريع البت في الطلبات المقدمة الذي يمتد أحياناً لسنوات.
في بداية جلسة أمس، ألقت رئيسة الحكومة، إليزابيث بورن، كلمة عامة، تبعها على المنصة وزيرا الداخلية والعمل، جيرالد دارمانان وأوليفيه دوسو. وبعد مجلس النواب، سينتقل النقاش إلى مجلس الشيوخ في 12 ديسمبر (كانون الأول) الحالي.
واللافت أن لا تصويت أعقب المناقشة، علماً بأن مشروع القانون المذكور سيقدم رسمياً للهيئة التشريعية بمجلسيها (الشيوخ والنواب) بداية العام المقبل، بحيث تشكل مناقشات أمس فرصة لاختبار مدى تمكن الحكومة من توفير أكثرية نيابية تدعم مشروعها. يذكر أنها لا تحظى بالأكثرية المطلقة في البرلمان، ما يلزمها بالبحث عن شركاء يقبلون ضم أصواتهم إلى أصوات حزب «النهضة» الرئاسي الذي كان يسمى سابقاً «الجمهورية إلى الأمام».
والحال أن المعارضة في البرلمان «معارضات»؛ فهناك المعارضة اليسارية المجتمعة تحت اسم «الاتحاد الشعبي الجديد الاجتماعي والبيئوي» الذي يضم «الاشتراكيين» و«الشيوعيين» و«الخضر» ونواب حزب «فرنسا المتمردة» الذي يقوده المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون. ويتمتع التجمع بـ150 مقعداً في البرلمان. فيما تنقسم المعارضة اليمينية إلى قسمين: نواب اليمين المتطرف (التجمع الوطني» بقيادة مارين لوبان؛ منافسة الرئيس إيمانويل ماكرون في انتخابات عامي 2017 و2022 وتترأس مجموعة من 88 نائباً، ونواب حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي الحائز 62 نائباً).
انطلاقاً مما سبق، فإن الحكومة سوف تحتاج إلى اجتذاب 49 نائباً للوصول إلى الأكثرية المطلقة حتى تتمكن من تمرير مشروع القانون بعد أسابيع قليلة. وبما أن المعارضة اليسارية جذرية وكذلك معارضة اليمين المتطرف، فلن يبقى أمام ماكرون وإليزابيث بورن سوى اليمين المعتدل. إلا إن حزب «الجمهوريون»؛ الذي يخوض انتخابات داخلية لاختيار رئيسه الجديد، يرفض قطعاً المواد المتعلقة بتسوية أوضاع بعض المهاجرين للاستجابة للاحتياجات الاقتصادية.
حقيقة الأمر أن الحكومة واقعة بين مطرقة اليمين وسندان الجناح اليساري داخلها وداخل مجموعة نواب «النهضة»، وهي بالتالي تسعى للمحافظة على نقطة التوازن الصعبة؛ وأيضاً الضرورية، حتى تنجح في تمرير مشروعها. والطريف في هذه المسألة أن الوزيرين المكلفين الدفاع عنه ينتميان إلى جناحين مختلفين؛ فوزير الداخلية آتٍ من صفوف اليمين، ويعول عليه ماكرون لاجتذاب بعض نواب «الجمهوريون». وفي المقابل؛ فإن وزير العمل آتٍ من صفوف اليسار ويشكل، بمعنى ما، ضمانة الحكومة حتى يبقى مشروع القانون «متوازناً»؛ الأمر الذي يعدّ صعباً إلى حد بعيد. ويشكل مشروع القانون مصدر قلق للجمعيات التي تدافع عن المهاجرين بسبب ما تعدّه استهداف حق اللجوء. ولذا؛ دعت 15 جمعية إلى التجمع أمام مقر البرلمان للتنديد بسياسة الهجرة التي تتبعها الحكومة.
حتى اليوم؛ عمدت إليزابيث بورن، بالتوافق مع رئيس الجمهورية، إلى استخدام الفقرة التي تتيح لها طرح الثقة بالحكومة لدى التصويت على مشروعات القوانين معطوفة على تهديد ماكرون بحل مجلس النواب في حال سقطت الحكومة في البرلمان؛ الأمر الذي يعدّ سلاحاً رادعاً للمعارضة، خصوصاً اليمينية المعتدلة التي تتخوف من فقدان مقاعد إضافية. لكن ثمة من يرى أن تهديده ليس جدياً؛ لأنه قد لا ينجح في تغيير موازين القوى؛ بل سيخسر حزبه وحلفاؤه المزيد بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية والنقمة الشعبية على الغلاء المعيشي والتضخم وارتفاع أسعار الطاقة.
واللافت أن «شركة كهرباء فرنسا» تتوقع قطع التيار الكهربائي لساعات عن قطاعات من المستهلكين في شهر يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) المقبلين بسبب ضعف الإنتاج الكهربائي في فرنسا التي تحصل على أكثر من 60 في المائة من حاجتها الكهربائية من محطات التوليد النووية. والحال أن نصف المولدات تخضع حالياً إما للإصلاح وإما للصيانة، وبالتالي، فإن باريس تحصل على جانب من حاجتها الكهربائية من ألمانيا وهي، في المقابل، تمدها بكميات من الغاز.
وأمس صباحاً، استبق وزير الداخلية جيرالد دارمانان استحقاق الموعد البرلماني بشرح فلسفة مشروع القانون وعرض خطوطه العامة والدفاع عنه، وذلك في مقابلة مع إذاعة «فرنس إنفو»، مركّزاً على النقطة الخلافية الرئيسية الخاصة بتسوية أوضاع مهاجرين غير شرعيين. ووفق دارمانان، فإن مشروع القانون ينص على إيجاد تأشيرة إقامة «مؤقتة» يمكن أن تمنح للمهاجرين المستخدمين في القطاعات الاقتصادية المحتاجة لليد العاملة وللوظائف التي لا يرغب فيها الفرنسيون. علماً بأن عدد العاطلين عن العمل حالياً يفوق 2.3 مليون شخص ونسبتهم تصل إلى 7.3 في المائة. وتظهر الحاجات، بشكل خاص، في القطاع الزراعي وفي مشروعات الإنشاءات والبناء وفي المطاعم.
وفي دفاعه عن المشروع، قال الرئيس ماكرون في مقابلة مع صحيفة «لو باريزيان»، الأحد الماضي، إن المطلوب سياسة «تجمع بين التشدد من جهة؛ والتعامل الإنساني المتوافق مع قيمنا، وهذه تعدّ أفضل وسيلة لمواجهة المتطرفين الذين يستفيدون من معاناة الناس». وسبق لماكرون أن وعد بسنّ هذا القانون خلال حملته الانتخابية الأخيرة.
يقول دارمانان إن فرنسا «تريد المهاجرين الذين يريدون حقيقة العمل وليس الذين يريدون نهب خيراتها». وفي نظره؛ فإن هدف مشروع القانون يتمثل في «دمج من يريد الاندماج» في إطار الجمهورية؛ لأنهم «يساهمون في بناء الثروة الوطنية». والحال أن هذه العملية «لا تجري بشكل سليم». وفي المقابل؛ يعد دارمانان بـ«طرد من لا يحترم القوانين الفرنسية».
وباختصار؛ فإن المطلوب عملية دمج أفضل وعملية طرد أسرع.
يعي الجميع أن موضوع الهجرات بالغ الحساسية في فرنسا كما في العديد من البلدان الأوروبية. وقد أثار قبول فرنسا نزول المهاجرين الـ234 الذين كانوا على متن الباخرة «أوشيان فايكينغ» في مرفأ طولون المتوسطي الفرنسي، جدلاً لم ينته حتى اليوم، خصوصاً أن العشرات منهم «تبخروا» في الطبيعة بعد استقبالهم وتوفير الرعاية لهم مستفيدين من بعض الثغرات القانونية.
ووفق دارمانان، فإن الجميع يعلمون بأن الآلاف من العمال غير الشرعيين يعملون على الأراضي الفرنسية. وتساءل: «هل سنبقي على الخبث في التعامل مع هؤلاء بشكل غير إنساني وأن نشيح بنظرنا عنهم كأنهم غير موجودين عندنا؟». ولطمأنة النواب؛ خصوصاً المعارضين، ترك وزير الداخلية للبرلمان مسؤولية تحديد شروط القبول ومنح التأشيرات المؤقتة التي ستكون بدائة من عام والتي لا تتيح عمليات لمّ الشمل.
لكن ثمة أسئلة كثيرة تطرح نفسها؛ أبرزها اثنان: الأول معرفة مصير من حصل على تأشيرة بعد انتهاء صلاحيتها أو بعد أن تنتفي الحاجة إليه في أي من القطاعات المحتاجة. ويفرض مشروع القانون شرطين للحصول على التأشيرة المؤقتة: غياب أي حكم صادر بحق الساعي للتأشيرة المؤقتة، والتمكن من اللغة الفرنسية شرطاً لا بد منه للاندماج في المجتمع. والثاني معرفة خطط الحكومة لتفعيل وتعزيز عمليات طرد من لا يحق له من اللاجئين والمهاجرين البقاء على الأراضي الفرنسية. وعلى الرغم من الجهود الحكومية، فإن نسبة تنفيذ أوامر الإبعاد لا تتعدى 10 في المائة. وتفيد الإحصاءات المتوفرة بأنه في 2021 كان يعيش في فرنسا 7 ملايين مهاجر؛ ما يشكل 10.3 في المائة من سكانها؛ من بينهم 2.5 مليون شخص حصلوا على الجنسية الفرنسية.
«أوضاع المهاجرين» يحول البرلمان الفرنسي إلى «حلبة صراع»
معارضة قوية من اليمين واليسار... ومساعٍ لاجتذاب بعض نواب اليمين التقليدي
«أوضاع المهاجرين» يحول البرلمان الفرنسي إلى «حلبة صراع»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة