«عفريت لابلاس» كائن فذ، تخيله عالم الرياضيات بيير - سيمون دو لابلاس، خلال نشوة انتصارات عقل عصر التنوير. قدرات هذا «الجن الكلاسيكي»، وليد ثورة نيوتن العلمية، تمكنه من معرفة مكان وسرعة كل مكونات الكون، ولذا يمكننه تحديد مسار الأشياء والتنبؤ بالمستقبل. أما جائزة نوبل في الفيزياء هذا العام فتتعلق بتجارب تدعم رؤية «حديثة» مغايرة، تعبر عن عالم خال من المسارات المحددة. عالم لا يمكن التنبؤ فيه بالمستقبل إلا احتمالياً.
هذا هو كون ميكانيكا الكم، النظرية التي باتت تكهناتها صادمة حتى بالنسبة لمن ساهموا في اكتشافها وتشكيلها. هكذا اعترض أينشتاين على خاصية الاحتماليات: «الإله لا يلعب النرد». حتى نيلز بوهر، الذي جادل أينشتاين في هذا الشأن، فكان له هذا التعليق: «إن لم تصدمك ميكانيكا الكم بعمق فإنك لم تفهمها بعد». بوهر كان يعرف ما يعني جيداً، فكان عميداً للمجموعة (المكونة في معظمها من علماء ألمان) التي ابتكرت التفسير الاحتمالي السائد لميكانيكا الكم، الذي أخذ اسم المدينة التي عمل فيها وجمع بها زملاءه للمداولة (كوبنهاغن).
الجدل الدائر منذ قرن الآن بخصوص الكم يتلخص في مدى تحديد النظرية لإمكانات «عفريت لابلاس»، الكائن الكلاسيكي الذي نتج عن نجاح ميكانيكا نيوتن الباهر في شرح مسارات كواكب المجموعة الشمسية. لكن إذا كان عالم الكم (في تفسير كوبنهاغن) لا يستضيف أي مسارات من الأصل، فلا يمكن مثلاً للإلكترونات أن تدور حول نواة الذرة كالكواكب حول الشمس؛ التصور الكمي للعالم على هذا المستوى يمحو تلك الفكرة، لأنه لا يمنح الإلكترون (أو أي جسيم آخر) مكاناً محدداً وسرعة محددة إلا عندما نرصده. ماذا يفعل إذن؟ كل ما نعرفه أنه يمكن أن يكون موجوداً في أي مكان (باحتمالات متفاوتة). فقط عندما نرصده يمكن تحديد موقعه بدقة (إذا كنا لا نريد معرفة سرعته). أما قبل الرصد (وبعده) فيتصرف وكأنه في كل الأماكن المحتملة في الوقت نفسه، في حالة «تراكب» بين حالات متداخلة ومتشابكة.
ولأن الأشياء ليست لها أماكن إلا عندما نصمم التجارب خصيصاً للكشف عنها، ولأن التجربة التي لا تجري لا يمكن أن تكون لها نتيجة محددة، فلا معنى في العالم الكمي لسؤال «أين الأشياء» بصفة عامة. وإذا انطبقت مثل هذه القيود على «كائن لابلاس»، فهذا معناه أن المتاح له سيكون محصوراً في حساب الاحتمالات وإجراء التجارب لمعرفة ما هو الاحتمال الذي سيتجسد فعلاً، متنازلاً هكذا عن إمكانية التنبؤ بمسار العالم رغم قدراته الحسابية الفائقة.
هذا ما دفع أينشتاين للإبداء برأيه الشهير المتعلق بالإله والزهر. بل إن هذه الرؤية، بتخليها عن الكون المنظم بقوانين حتمية، كانت صادمة بشكل جعل البعض يعتقد أنها نبعت عن عقل العلماء الألمان في أعقاب الحرب العالمية الأولى، نتيجة الظروف الاجتماعية والثقافية العاصفة التي سادت جمهورية فايمار! من الإحباط الحاد الذي أعقب الهزيمة، والذي أتى بمناخ ثقافي معادٍ للعقلانية، بمنهجها التحليلي «البارد»، الذي تم اتهامه بفتيت العالم لشراذم فاقدة المعنى، وكبح روح الحياة بمنهج الحتمية السببية «الميت الجامد» (حسب تعبير أوسفالد سبينغلر المؤثر). ولأن هذا الماخ بات معادياً بالذات لعلم الفيزياء، باعتباره مجسداً لذروة النهج المكروه، تسرع فيزيائيو العالم الألماني، حسب هذا الرأي، في التخلص من قوانين الحتمية الكلاسيكية «الجامدة» في سبيل صد الهجوم على مهنتهم ومكانتهم.
حسب هذا الرأي (الذي ظهر عام 1971 في مقال مهم لبول فورمان)، فإن أساس التخلص من الحتمية في فيزياء الكم لم تفرضه التجربة المعملية إنما الظروف الاجتماعية. هذا خطأ فادح بالطبع إذا تعلق الأمر بمحتوى ميكانيكا الكم الرياضي، فالذي فرضه كان تفسير معطيات معملية (مثل أطياف الألوان المنبعثة من المواد عند احتراقها)، وليس الظروف الاجتماعية. بل من الحماقة اعتبار العلم الطبيعي الحديث كمنظومة اجتماعية يقوم من خلالها العلماء بفرض الحقائق عن العالم، كما اعتقد بعض مفكري ما سمي بما بعد الحداثة بعد فورمان: فرغم أنها نابعة عن عقول إنسانية تتلاقى في سياق إجماعي، ميكانيكا الكم ليست كالأساطير التقليدية؛ لأنه، بكل بساطة، لا يمكن على أساس الأخيرة بناء اللابتوب أو التابلت أو المحمول الذي سيقرأ البعض عليه هذا المقال.
لكن ماذا عن تفسير كوبنهاغن، الذي لا يعترف، من حيث المبدأ، بإمكانية معرفة أي شيء عن العالم الطبيعي غير التنبؤ احتمالياً بنتائج التجارب؟ هل تسرع مبتكروه في التخلص من عناصر الواقع المعروفة من حياتنا اليومية (ربما فعلاً لتأثرهم بمحيطهم الثقافي)؟ أينشتاين مثلاً كان رأيه أن ميكانيكا الكم نظرية ناجحة لكنها ليست كاملة؛ بمعنى أن هناك «حقيقة أعمق» تكمن خلف النجاحات، التي يمكن من ثم اشتقاقها من نظرية حتمية أدق، تعيد «عفريت لابلاس» بكامل قدراته السببية الكلاسيكية للعالم.
في هذا السياق حاول أينشتاين (مع بودولسكي وروزين) إيضاح مدى غرابة تنبؤات ميكانيكا الكم في إطار كوبنهاغن، وذلك بالإشارة لوجود حالات تبدو خلالها خاصيات الجسيمات المختلفة متشابكة ومترابطة بصرف النظر عن المسافات التي تفصلها؛ فمثل الإلكترون الذي «لا يعرف مكانه» إلا عند الرصد، لا تعرف هذه الجسيمات «هويتها»، وكأنها تتبادل الخواص بينها في حالة تراكب وتشابك لا تتلاشى إلا مع الرصد التجريبي.
لم يكن من السهل اختبار تلك الأفكار عملياً، لأنه يحتاج إلى تتبع جسيمات أولية منفردة. لكن مع تطور التكنولوجيا تمكن العلماء من تتبع تصرفات الجسيمات، ونتيجة التجارب أشارت إلى أن هناك فعلاً إمكانية لترابط «آني» بين الجسيمات، الذي يشرحه إطار كوبنهاغن بأن معرفتنا بحالة تلك الجسيمات - معرفتنا نحن، وليس «معرفة» الجسيمات لحالتها! - تأتي أصلاً متشابكة (لأن أينشتاين أشار بتحضيرها هكذا)، ولذا فإجراء التجربة على أحدها يجيب على كل الأسئلة التي يمكن الإجابة عنها بخصوصها في صفقة واحدة وآن واحد. هذا باختصار كان موضوع جائزة نوبل في الفيزياء هذا العام.
ذلك لا يعني بالضرورة غياب «الحقيقة الأعمق» التي أرادها أينشتاين. لكنه يشير إلى أن من خلال اللغة التي نستخدمها، النابعة من عالمنا اليومي «الكلاسيكي»، هذا هو كل ما يمكن أن تقوله لنا الطبيعة على المستوى الكمي عند سؤالها؛ لأن المفردات والمفاهيم التي نصف بها العالم ليست معرفة فيه إلا من خلال بحثنا عنها.
في إطار فلسفة كانط للمعرفة هذا معناه أننا لا نعرف «الشيء في ذاته»، ما نعرفه هو ما تمكننا أداتنا الذهنية والفكرية من رصده، الذي يمكن تنظيمه في نظريات يحاكي منطقها بنجاح علاقات الأشياء في العالم الطبيعي. هذا النجاح هو ما يميز المنظومة العلمية عن الأسطورة، وليس بالضرورة التعمق في معنى محتوى الوجود. في الوقت نفسه، فقابلية تلك المنظومة للتطور في ظل المستجدات، لضمان استمرار النجاح، تحرك آفاقها نحو الاتساع المستمر، ومعه يأتي الإطار الحضاري الذي ينبذ المفاهيم الساذجة عن العالم ومعرفتنا له ومكاننا فيه.
ومع اتساع التصور تأتي إمكانية استخدام ما فهماه من مساءلة الكون في سبيل إثراء حياتنا اليومية. جائزة نوبل هذا العام لم تكرم التقدم في المعضلات النظرية المتعلقة بميكانيكا الكم فحسب، إنما كذلك إفساح المجال للطفرات المتلاحقة المتصلة بتطبيقات تكنولوجية مهمة؛ كالمتبلورة في مجال الحاسبات الكمية، الذي ينذر بثورة هائلة في تكنولوجيا المعلومات، والذي تمول الأبحاث فيه شركات عملاقة، من «إي بي إم» إلى «بي إم دابليو»، وحكومات كثيرة، من إسرائيل إلى أستراليا.
في عالمنا العربي ما زال هناك التباس في فهم العلاقة بين البحث في أساسيات المعرفة والتطبيق التقني. الطريق إلى تطبيقات كالحاسبات الكمية، إذا اكتمل، سيكون قد تطرق لأسئلة تتعلق بطبيعة معرفتنا للعالم، ومعناها وحدودها وآفاقها. أسئلة تتطلب المساهمة في سؤالها والإجابة عليها إطاراً فكرياً يعترف أولاً بقيمة البحث فيها، وليس طغيان رؤية نفعية قاصرة لا تأخذ أساسيات المعرفة جدياً. بل وتقر، متخطية دروس التاريخ ومتجاهلة أدلة العصر، بإمكانية التألق في التطبيقات دون استيعاب الأساسيات، فتخسر الاثنين معاً.
* كاتب مصري