لغز ألفريد نوبل... حزين وغامض وكاره للبشر فما سرّ ذلك؟

ما وراء الصورة الشائعة لرجل الديناميت و«مخترع» الجائزة الأشهر والأرفع في العالم (1-2)

ألفريد نوبل
ألفريد نوبل
TT

لغز ألفريد نوبل... حزين وغامض وكاره للبشر فما سرّ ذلك؟

ألفريد نوبل
ألفريد نوبل

استناداً إلى رسائل ألفريد نوبل الشخصية وكتاب ابنة شقيق نوبل: مارتا نوبل ـ أولينيكوف، وسوى ذلك من مصادر تناولت حياة ألفريد نوبل، ينقّب الكاتب والمترجم السويدي بينغت يانغفيلت فيما وراء الصورة الشائعة لألفريد لنوبل بحثاً عن المجهول والمحجوب في سيرة حياة رجل الديناميت و«مخترع» الجائزة الأشهر والأرفع في العالم، التي تحمل اسمه، هذه الجائزة، التي غدت بدورها نوعاً من ديناميت، يتجدد انفجاره كلّ عام، مخلفاً أصداءً لا تخفت بسهولة. المترجم
في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) من كل عام، يتم تذكير الناس في مختلف أنحاء العالم باسم ألفريد نوبل. ما من سويدي آخر يُداني صاحب جائزة نوبل شهرة وذِكراً، مع أن «اللغز» هو الاسم الذي يقترن غالباً بألفريد نوبل. وهذا يعود، في جزء منه، إلى شخصيته المعقدة والتضارب في عمله الذي جمع فيه، بين نشر الديناميت، والكفاح في سبيل السِّلم العالمي، وفي جزء آخر إلى حياته الخاصة، فهو لم يتزوج ولم يُبدِ أي رغبة في ذلك، خلاف ما كان في سن مبكرة، وبدلاً عن ذلك تبدّى مع السنين، كمفكر وحيد، مريض، كاره للبشر.
حقاً، كان يُنظر إلى ألفريد نوبل، كلغز، منذ وقت مبكر. وهو لم يكن مخترعاً بارعاً فحسب، بل كان أيضاً شاعراً وكاتباً مسرحياً ذا مستوى عالٍ، وإن كهاوٍ. تبدأ أشهر قصائده بعبارة «أنتِ تقولين أنني لغز...»، التي كتبها عندما كان في سن الثامنة عشرة، وهي موجَّهة إلى امرأة ترى أن شخصيته غامضة. القصيدة توجد في عدة نسخ بالإنكليزية، كما توجد في نسخة بالسويدية، مما يدل على أهميتها بالنسبة له. هنا السطور الاستهلالية للقصيدة:
أنتِ تسمّينني لغزاً، لديكِ حق
لأن الحياة ليست سوى لغز مستغلق
نتلمس طريقنا من المهد إلى اللحد
غير عارفين بما سيؤول إليه الغد،
نطارد السعادة، التي غالباً، ما تُخفق
ونشتّت الحزن بأمل يخيب دائماً.
مبكراً كانت رؤية الحياة من منظور رومانسي ـ انقباضي تتملك ألفريد نوبل، لذا يمكن النظر إلى تطور حالته باتجاه بُغض البشر والنظرة السوداوية في سن النضج على أنه عملية طبيعية، نوعاً ما، كتحصيل لنزعته، وهو ما كان مؤكَّداً. لكنْ ثمّة تفسير آخر أكثر رسوخاً لما يعانيه من اكتئاب سوداوي يزداد بمرور الوقت، وهو ما يمكن اكتشافه من خلال صيغة باللغة الروسية تضمّنتها رسالة بخط ألفريد نوبل، أُهملت سهواً أو تمّ تجاهلها في السابق، عن عمد. ولوضع الرسالة في سياقها، يجب أن نبدأ ببعض المعلومات الشخصية عن نشأة ألفريد نوبل في سانت بطرسبورغ.
وُلِد الفريد نوبل في ستوكهولم عام 1833، وكان الأصغر بين ثلاثة أشقاء. والده إيمانويل كان مخترعاً ومهندساً معمارياً، وفي الرابعة من عمر ألفريد، أُجبر على ترك ستوكهولم بسبب الديون الكبيرة المتراكمة عليه وتهديده من مصلحة جباية الديون. بعد عام قضاه في دوقية فنلندا الكبرى التابعة لروسيا، انتقل إلى سان بطرسبورغ، حيث صنع لنفسه اسماً خلال وقت قصير، كمخترع أسلحة. كان اختراعه الرئيسي هو اللغم البحري، الذي اشترته الحكومة الروسية عام 1842، وقد حصل نوبل، مقابل اختراعه هذا، على مبلغ كبير جداً لدرجة أنه تمكَّن من أن يرسل وراء عائلته التي بقيت في ستوكهولم: زوجته أندرييتا، وأبناؤه روبرت ولودفيغ وألفريد. في السنوات التالية أقام إيمانويل ورشة ميكانيكية ناجحة لصناعة معدّات للاستخدام العسكري والمدني، وخلال حرب القرم 1853 ـ 1855، تلقّى طلبات كبيرة، لدرجة أنه أصبح ثرياً. وعندما انتهت الحرب ونصّبت روسيا إمبراطوراً جديداً هو الإسكندر الثاني، قامت الحكومة بفسخ العقد مع الورشة وتمّت تصفيتها. في عام 1859، أُجبر إيمانويل نوبل على الهجرة مرة أخرى، عائداً إلى السويد، هذه المرة. ومن أجل إنقاذ الورشة، تم تكليف الأبناء الثلاثة الذين بقوا في سانت بطرسبورغ بهذه المهمة، على سبيل المحاولة، لكن الجهود فشلت، وفي عام 1861 أشهرت إفلاسها. في نفس العام، انتقل شقيقه الأكبر روبرت إلى هلسنكي؛ للزواج، وبعد عامين غادر ألفريد العاصمة الروسية وأقام في ستوكهولم. بقي لودفيغ في سانت بطرسبورغ، ليبدأ ورشة عمل ميكانيكية جديدة أصبحت في سبعينيات القرن التاسع عشر واحدة من أكثر ورشات العمل نجاحاً، في روسيا. بعد حوالي عشر سنوات، عاد روبرت إلى روسيا، حيث نشط في كل من معمل مكائن لودفيغ، وفي باكو أسس شركة نفط الإخوة نوبل، التي أضحت مع الوقت واحدة من الشركات الرائدة في مجال النفط. خلال هذه الفترة، تمكّن مخترع الديناميت ألفريد من تطوير أعماله في أوروبا والولايات المتحدة، وعاد إلى روسيا في زيارتين قصيرتين فقط، بين عامي 1871 و1883، على الرغم من مناشدة لودفيغ الحثيثة له على مر السنين للقدوم والزيارة. كان ألفريد يشير إما إلى اعتلال صحته، أو إلى عبء العمل أو كليهما، موضحاً الحالة. التوضيح كان مقبولاً، فقد كان في صحة سيئة ومنهمكاً بالعمل على مدار الساعة، لكن من الصعب التخلص من فكرة أن هذه لم تكن سوى ذرائع. بالنظر إلى أن ألفريد قد أمضى عشرين عاماً من حياته في سانت بطرسبورغ، بين سن العاشرة والثلاثين، فمن الغريب أنه لم يشعر بإغراء إعادة الاتصال بأصدقائه ومعارفه القدامى، إذ لو كانت الإرادة موجودة، لتمّ التغلب على مشاكل الصحة والعمل، بكل تأكيد.


إيمانويل نوبل والد ألفريد نوبل

في عام 1952 نشرت ابنة لودفيغ؛ مارتا نوبل ـ أولينيكوف، كتاباً بعنوان «لودفيغ نوبل وعمله»، طُبع في عدد محدود جداً من النسخ، وكان في متناول عائلة نوبل فقط. (أصبح متاحاً للعموم عام 1977)، تشير فيه إلى أن انعدام رغبة ألفريد في زيارة سانت بطرسبورغ يعود إلى حقيقة أنه «حمل منذ ستينيات القرن التاسع عشر بعض الذكريات المحرجة، من هناك، وهي على أية حال، يشوبها الغموض». ربما لم يكن التحفظ في الجملة الثانوية في المقتبس السابق، صحيحاً تماماً. فمن الجائز أن الكاتبة كانت تعرف جيداً ما كانت تدور حوله «ذكريات ألفريد المحرجة». على أية حال، كان ذلك سراً عائلياً مصوناً جيداً.
من بين الإخوة الثلاثة، كان ألفريد هو الوحيد الذي لم يتزوج، ولم يكن لديه أطفال. كان لروبرت أربعة أطفال، ولودفيغ البالغ 18 عاماً، كان قد تزوج مرتين. لقد أفضت حقيقة أن ألفريد لم يتزوج، ولم يكن له علاقات حميمة معروفة مع النساء، إلى تكهنات، ومع ذلك لم يكن هناك أي مؤشر على ميول جنسية غير سوية لديه. كان الشاب ألفريد مهتماً جداً بالمرأة، على سبيل المثال، كان يتودد إلى خطيبة روبرت بحماسة شديدة أدت إلى تصدع العلاقة بين الأخوين، وعند بلوغه السادسة والعشرين، شرع بأخذ دروس في اللغة الإنكليزية في سانت بطرسبورغ، على الرغم من تمكنه من اللغة بالفعل؛ إذ كان الهدف هو التواصل مع النساء. وقد أوضح لروبرت «كيف كان يحوز على إعجاب النساء؛ لتقدمه الكبير، وللمقاطع الشعرية التي يكتبها لهن». كان يعتقد أن الشعر سيساعده على «أن يحظى بفتاة ثرية وجميلة» و«يصبح الوحيد في العائلة الذي يجعله الزواج ثرياً».
وعندما كان ألفريد يزور سانت بطرسبورغ، عام 1871 اعتقدت زوجة روبرت أنه موجود هناك لمخاطبة «شعلته القديمة»، أياً كانت، وهو ما لم يحدث. ألفريد لم يخطب ولم يتزوج، في الوقت الذي كانت علاقاته النسائية المعروفة قليلة، وهي ذات طبيعة غير جسدية، وقد اتخذت بصورة رئيسية شكل المراسلات. وهذا ينطبق أيضاً على العلاقة الوحيدة المعروفة بـ«الذوق الإيروتيكي»، تلك الخاصة بصوفي هيس، الأصغر سناً، وهي نوع من علاقة بجماليون مطبوعة بطابع «الاهتمام المميز»، وفقاً لسيرة ألفريد التي أعدَّها إيريك بيرينغرين. وبالنسبة لفيلغوت شومان، الذي كرس جهداً كبيراً في كتابين؛ في محاولة لفهم الحياة الخاصة لـ«ألفريد»، كان من الواضح أن ألفريد «يعاني جوعاً عاطفياً، طوال حياته».كان الإخوة نوبل جميعهم كُتاب رسائل كباراً. ذكر ألفريد أنه يكتب ما بين 20 و40 رسالة يومياً، على الأقل بشكل دوري. كان إخوته على شاكلته، تقريباً، في المثابرة على كتابة الرسائل، وقد بلغ عددها بالآلاف وهي محفوظة في أرشيفات مختلفة. كانت المراسلات التجارية تتم باللغات الألمانية والروسية والفرنسية والإنكليزية، بينما الرسائل المتبادلة بين أفراد العائلة كانت باللغة السويدية. كل رسائل الإخوة الثلاثة كُتبت بلغة سليمة نحوياً، غنية ومعبرة، على الرغم من أن نصيبهم من التعليم الرسمي كان لبضع سنوات فقط قبل مجيئهم إلى روسيا، حيث أكملوا تعليمهم في البيت على يد مدرس خصوصي سويدي.

* بينغت يانغفيلت: (Bengt Jangfeldt (1948. كاتب ومترجم سويدي. أستاذ في معهد الدراسات السلافية في جامعة ستوكهولم. عُرف بالعديد من كتبه المهمة، إضافةً إلى نشاطه في الترجمة عن الروسية. من بين ما صدر له من عناوين، تأليفاً وترجمة: «إيمانويل نوبل وأولاده: العبقرية السويدية في روسيا القيصرية»، «نحن وهُم ـ عن روسيا كفكرة»، «اللغة هي الإله: ملاحظات حول جوزيف برودسكي». «أوسيب ماندلستام: الكلمة والثقافة»، «مع الحياة كمقامرة: حكاية فلاديمير ماياكوفسكي ووسطه»، وقد نال عن هذا الأخير، جائزة أوغست سترندبيري لسنة 2007، وهي من الجوائز الرفيعة في السويد، إضافة إلى جوائز دولية أُخرى.

*عن صحيفة «سفينسكا داغبلاديت» السويدية SvD، والموضوع يُنشر بإذن
خاص من الكاتب.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
TT

تانيا صالح تُغنّي للأطفال وترسم لُبنانَهم الأحلى

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)
باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال تشعر بالاستراحة (صور تانيا صالح)

أمَّنت الإقامة في باريس للفنانة اللبنانية تانيا صالح «راحة بال» تُحرِّض على العطاء. تُصرُّ على المزدوجَين «...» لدى وصف الحالة، فـ«اللبناني» و«راحة البال» بمعناها الكلّي، نقيضان. تحطّ على أراضي بلادها لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه إلى الأطفال. موعد التوقيع الأول؛ الجمعة 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. والأحد (8 منه) تخصّصه لاستضافة أولاد للغناء والرسم. تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة.

تريد من الفنّ أن يُهدّئ أنين أطفال الصدمة ويرأف بالبراءة المشلَّعة (صور تانيا صالح)

وطَّد كونها أُماً علاقتها بأوجاع الطفولة تحت النار؛ من فلسطين إلى لبنان. تُخبر «الشرق الأوسط» أنها اعتادت اختراع الأغنيات من أجل أن ينام أطفالها وهم يستدعون إلى مخيّلاتهم حلاوة الحلم. لطالما تمنّت الغناء للصغار، تشبُّعاً بأمومتها وإحساسها بالرغبة في مَنْح صوتها لمَن تُركوا في البرد واشتهوا دفء الأحضان. تقول: «أصبح الأمر مُلحّاً منذ تعرُّض أطفال غزة لاستباحة العصر. لمحتُ في عيون أهاليهم عدم القدرة على فعل شيء. منذ توحُّش الحرب هناك، وتمدُّد وحشيتها إلى لبنان، شعرتُ بأنّ المسألة طارئة. عليَّ أداء دوري. لن تنفع ذرائع من نوع (غداً سأبدأ)».

غلاف الألبوم المؤلَّف من 11 أغنية (صور تانيا صالح)

وفَّر الحبُّ القديم لأغنية الطفل، عليها، الكتابةَ من الصفر. ما في الألبوم، المؤلَّف من 11 أغنية، كُتب من قبل، أو على الأقل حَضَرت فكرته. تُكمل: «لملمتُ المجموع، فشكَّل ألبوماً. وكنتُ قد أنقذتُ بعض أموالي خشية أنْ تتطاير في المهبّ، كما هي الأقدار اللبنانية، فأمّنتُ الإنتاج. عملتُ على رسومه ودخلتُ الاستوديو مع الموسيقيين. بدل الـ(CD)؛ وقد لا يصل إلى أطفال في خيامهم وآخرين في الشوارع، فضَّلتُ دفتر التلوين وفي خلفيته رمز استجابة سريعة يخوّلهم مسحه الاستماع المجاني إلى الأغنيات ومشاهدتها مرسومة، فتنتشل خيالاتهم من الأيام الصعبة».

تُخطّط تانيا صالح لجولة في بعلبك وجنوب لبنان؛ «إنْ لم تحدُث مفاجآت تُبدِّل الخطط». وتشمل الجولة مناطق حيث الأغنية قد لا يطولها الأولاد، والرسوم ليست أولوية أمام جوع المعدة. تقول: «أتطلّع إلى الأطفال فأرى تلك السنّ التي تستحقّ الأفضل. لا تهمّ الجنسية ولا الانتماءات الأخرى. أريد لموسيقاي ورسومي الوصول إلى اللبناني وغيره. على هذا المستوى من العطف، لا فارق بين أصناف الألم. ليس للأطفال ذنب. ضآلة مدّهم بالعِلم والموسيقى والرسوم، تُوجِّه مساراتهم نحو احتمالات مُظلمة. الطفل اللبناني، كما السوري والفلسطيني، جدير بالحياة».

تعود إلى لبنان لتُطلق ألبومها الجديد الموجَّه للأطفال (صور تانيا صالح)

باكتمال الألبوم واستعداد الفنانة لنشره بين الأطفال، تشعر أنها تستريح: «الآن أدّيتُ دوري». الفعل الفنّي هنا، تُحرّكه مشهديات الذاكرة. تتساءل: «كم حرباً أمضينا وكم منزلاً استعرنا لننجو؟». ترى أولاداً يعيشون ما عاشت، فيتضاعف إحساس الأسى. تذكُر أنها كانت في نحو سنتها العشرين حين توقّفت معارك الحرب الأهلية، بعد أُلفة مريرة مع أصوات الرصاص والقذائف منذ سنّ السادسة. أصابها هدوء «اليوم التالي» بوجع: «آلمني أنني لستُ أتخبَّط بالأصوات الرهيبة! لقد اعتدْتُها. أصبحتُ كمَن يُدمن مخدِّراً. تطلَّب الأمر وقتاً لاستعادة إيقاعي الطبيعي. اليوم أتساءل: ماذا عن هؤلاء الأطفال؛ في غزة وفي لبنان، القابعين تحت النار... مَن يرمِّم ما تهشَّم؟».

تريد الموسيقى والرسوم الوصول إلى الجميع (صور تانيا صالح)

سهَّلت إقامُتها الباريسية ولادةَ الألبوم المُحتفَى به في «دار المنى» بمنطقة البترون الساحلية، الجمعة والأحد، بالتعاون مع شباب «مسرح تحفة»، وهم خلف نشاطات تُبهج المكان وزواره. تقول إنّ المسافة الفاصلة عن الوطن تُعمِّق حبَّه والشعور بالمسؤولية حياله. فمَن يحترق قد يغضب ويعتب. لذا؛ تحلَّت بشيء من «راحة البال» المحرِّضة على الإبداع، فصقلت ما كتبت، ورسمت، وسجَّلت الموسيقى؛ وإنْ أمضت الليالي تُشاهد الأخبار العاجلة وهي تفِد من أرضها النازفة.

في الألبوم المُسمَّى «لعب ولاد زغار»، تغنّي لزوال «الوحش الكبير»، مُختَزِل الحروب ومآسيها. إنها حكاية طفل يشاء التخلُّص من الحرب ليكون له وطن أحلى. تقول: «أريد للأطفال أن يعلموا ماذا تعني الحروب، عوض التعتيم عليها. في طفولتي، لم يُجب أحد عن أسئلتي. لم يُخبروني شيئاً. قالوا لي أنْ أُبقي ما أراه سراً، فلا أخبره للمسلِّح إنْ طرق بابنا. هنا أفعل العكس. أُخبر الأولاد بأنّ الحروب تتطلّب شجاعة لإنهائها من دون خضوع. وأُخبرهم أنّ الأرض تستحق التمسُّك بها».

وتُعلِّم الصغار الأبجدية العربية على ألحان مألوفة، فيسهُل تقبُّل لغتهم والتغنّي بها. وفي الألبوم، حكاية عن الزراعة وأخرى عن النوم، وثالثة عن اختراع طفل فكرة الإضاءة من عمق خيمته المُظلمة. تقول إنّ الأخيرة «حقيقية؛ وقد شاهدتُ عبر (تيك توك) طفلاً من غزة يُفكّر في كيفية دحض العتمة لاستدعاء النور، فألهمني الكتابة. هذه بطولة».

من القصص، تبرُز «الشختورة» (المركب)، فتروي تانيا صالح تاريخ لبنان بسلاسة الكلمة والصورة. تشاء من هذه الحديقة أن يدوم العطر: «الألبوم ليس لتحقيق ثروة، وربما ليس لاكتساح أرقام المشاهدة. إنه شعوري بتأدية الدور. أغنياته حُرّة من زمانها. لم أعدّها لليوم فقط. أريدها على نسق (هالصيصان شو حلوين)؛ لكلّ الأيام».