مازن كيوان: أي معنى للبنان من دون الفن

من «مهرجان التانغو الدولي» المصرّ على الاستمرار
من «مهرجان التانغو الدولي» المصرّ على الاستمرار
TT

مازن كيوان: أي معنى للبنان من دون الفن

من «مهرجان التانغو الدولي» المصرّ على الاستمرار
من «مهرجان التانغو الدولي» المصرّ على الاستمرار

أربع ليالٍ، واحدة في بيروت، وثلاث في جبيل، احتفت بـ«التانغو» الأرجنتيني قبل أيام. تردّد الكوريغراف مازن كيوان؛ أيُقدم على التنظيم أم يرتدع، فالعراقيل كثيرة، يتصدّرها كفّ الدولة يدها عن الدعم. أبردَ قلبه حشدٌ أسعدته العروض وصفق للجهد، فأبعد عن باله أن النسخة السابعة الحالية ستكون الأخيرة، بعد التسرع بالقرار إثر اشتداد الاختناق. الحب شجّعه ليستمر.
تتصارع في رأسه تناقضات المشهد اللبناني: الرقص V/S طوابير ربطة الخبز! لكن هاجس الهوية الثقافية هو الغلاب، فيقف في صفه. يحرضه على العطاء، فيعطي، ولو أن الظرف يمتهن الإحباط.


الكوريغراف اللبناني مازن كيوان

على بعد خمسين متراً من قلعة جبيل ومتحف الشمع، وبجانب جامع يجاور كنيسة، أقيمت ثلاث ليال راقصة في الهواء الطلق. يشعر مازن كيوان بفخر وهو يخبر «الشرق الأوسط» أن النسخة السابعة من «مهرجان التانغو الدولي» احتضنت راقصين من 20 بلداً عربياً وغربياً. وكشيء يشبه بهجة تعتلي النبرة، تسعده إضافة أن بعضهم لم يتقاضَ أجراً، كمن يتبرع لإنقاذ رسالة ثقافية على أرض تحترق.
كانت أوقاتُ بعد الظهر في جبيل تستقطب حضوراً يستمتع بما يسميه كيوان «تانغو كافيه». فالمهرجان أيضاً ورشات عمل وتبادل تجارب. وفي بيروت، تحولت قاعة الـ«ميوزيك هول» شاهدة على قلوب تخفق على وقع كعب عالٍ تنتعله راقصة تمسك بيد شريك «التانغو» المتأنّق ببزة رسمية. «هذا وسام معنوي، ولفتة تقدير تدفعني إلى الأمام. حين رأيت كل هؤلاء، تأكدت أن المسؤولية تقتضي الثبات على وجه المدينة الثقافي. العتمة حالكة؛ لكن ما معنى لبنان حين يموت الحس الفني؟». انطلق «مهرجان التانغو الدولي» في عام 2014، وتوقف قسراً في العامين الماضيين. «ليس (كورونا) فحسب ما كبل. فالعالم بأسره ضربه (الكوفيد) ولم ينكفئ مشهده الثقافي إلا بما استحال تقديمه. نحن ضُربنا بانفجار واقتصاد، وأُرغمنا على إسكات كل شيء. نعود والعودة مكلفة. تكفّل السفارة الأرجنتينية بما تيسر لم يحل دون عناء تغطية النفقات. ليت الجهات الرسمية تؤازر المبادرات».
هذا رجاء مازن كيوان الممتنع عن طرق باب وزارة الثقافة، لعلمه أن الخيبة تختبئ وراءه: «أي مساعدات ستقدم؟ وعلى أي سعر صرف؟ لا أزال أنتظر وعداً بتسديد مساعدة عمره سنوات. إصراراً على حياة نشعر بجدواها في المواظبة على الرقص، سنظل نبحث عن حل».
يرادف الوجود عند مازن كيوان النشاط الفني المعاند لليأس العام. يتساءل عن عيش يستحيل اكتماله بالطعام والشراب وحدهما، فلا بد مما يمس الروح: «إنه الفن. إنهما الرقص والتانغو؛ سر السعادة». ليس مرد ذلك إنكاره جهنمية ما يجري في السياسة والمال والأخلاق. لكن يشير إلى «ميسورين»، هم أيضاً تضرّروا بالانفجار، واصطفّوا على محطات البنزين، ولا تُفاجئهم الكهرباء سوى بزيارات نادرة؛ مع ذلك، لا يفوِّتون مهرجاناً، ويتشبثون بالفن للنجاة: «هم ركيزة الدعم، وعلينا ألا نحرمهم حق شراء بطاقة لمشاهدة عرض راقٍ».
أن يرى راقصون من العالم في لبنان مشهداً مغايراً للنفايات في الشوارع الذائعة الصيت على التلفزيونات، أو هول الانفجار، وغرق البؤساء في المراكب؛ ويُطلعوا متابعيهم في مواقع التواصل بفيديوهات وصور عن شعب يعشق الحياة، وفنانين يرفضون الهزيمة، فذلك بنظر مازن كيوان نضال ثقافي: «الفنانون أروع سفراء».
ماذا إن أصغينا إلى فلسفة «التانغو» من وجهته؟ دعكم ممن لا يرون سوى دعسات إلى الأمام وأخرى إلى الخلف. هنا شيء آخر. روح وجسد؛ تناغم ونغمات. يشعر بتطايُر المرء نحو الفضاء المتسع، وهو يترجم حب الرقص. في المهرجان، وبينما أغنية «أعطني الناي وغنِّ»، كلمات جبران خليل جبران، تتصاعد بصوت الفنانة ريم الشريف، أمسك يدها بدقيقة راقصة، وأديا ما سحر العين. يريد أن يقول الراقص والراقصة معاً: «هذه لحظات من العمر».
يتغزّل بـ«التانغو» على أنه فن يمقت الرمادية، ويعشق الأبيض والأسود: «لونان ينسجمان تعبيراً عن طاقة الرجل والمرأة؛ بذرة الوجود. من انسجامهما تولد الرقصة. لكلٍّ دوره فيحترمه الآخر بما يحقق المساواة». ماذا عما يُحكى عن «ذكورية» الرقصة لكون القيادة من نصيب الرجل؟ يردّ بما يدحض الادعاء: «الرجل يهتم بشريكته بما هو لائق ومنظم. تُلهمه ليكون قائد رقصة تمنحهما الأهمية ذاتها. الشريكان متساويان في دورين مختلفين».
يشدد على «قمة الأناقة»، قاصداً بها الثياب والمعاملة والإحساس بالآخر. يحيا رسامٌ بألوانه وشاعرٌ بكثافة قصيدته؛ لتكون رهافة الراقص ولغة جسده خبز وجوده. يختار مصمم الرقص والمُحكّم في برنامج «رقص النجوم» أرقى مزايا «التانغو» للإشادة بها: «رسالة سلام تجمع البشر».


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
TT

هاني شاكر في بيروت... الأحزان المُعتَّقة تمسحها ضحكة

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)
بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

القبلات المتطايرة التي تدفّقت من هاني شاكر إلى أحبّته طوال حفل وداع الصيف في لبنان، كانت من القلب. يعلم أنه مُقدَّر ومُنتَظر، والآتون من أجله يفضّلونه جداً على أمزجة الغناء الأخرى. وهو من قلّة تُطالَب بأغنيات الألم، في حين يتجنَّب فنانون الإفراط في مغنى الأوجاع لضمان تفاعل الجمهور. كان لافتاً أن تُفجّر أغنية «لو بتحبّ حقيقي صحيح»، مثلاً، وهو يختمها بـ«وأنا بنهار»، مزاج صالة «الأطلال بلازا» الممتلئة بقلوب تخفق له. رقص الحاضرون على الجراح. بارعٌ هاني شاكر في إشعالها بعد ظنّ أنها انطفأت.

بارعٌ هاني شاكر في إشعال الجراح بعد ظنّ بأنها انطفأت (الشرق الأوسط)

تغلَّب على عطل في هندسة الصوت، وقدَّم ما يُدهش. كان أقوى مما قد يَحدُث ويصيب بالتشتُّت. قبض على مزاج الناس باحتراف الكبار، وأنساهم خللاً طرأ رغم حُسن تنظيم شركة «عكنان» وجهود المتعهّد خضر عكنان لمستوى يليق. سيطر تماماً، بصوت لا يزال متّقداً رغم الزمن، وأرشيف من الذهب الخالص.

أُدخل قالب حلوى للاحتفاء بأغنيته الجديدة «يا ويل حالي» باللهجة اللبنانية في بيروت التي تُبادله الحبّ. قبل لقائه بالآتين من أجله، كرَّرت شاشة كبيرة بثَّها بفيديو كليبها المُصوَّر. أعادتها حتى حُفظت. وحين افتتح بها أمسيته، بدت مألوفة ولطيفة. ضجَّ صيف لبنان بحفلاته، وقدَّم على أرضه حلاوة الأوقات، فكان الغناء بلهجته وفاءً لجمهور وفيّ.

بقيادة المايسترو بسام بدّور، عزفت الفرقة ألحان العذاب. «معقول نتقابل تاني» و«نسيانك صعب أكيد»، وروائع لا يلفحها غبار. الأغنية تطول ليتحقّق جَرْف الذكريات. وكلما امتّدت دقائقها، نكشت في الماضي. يوم كان هاني شاكر فنان الآهات المستترة والمعلنة، وأنّات الداخل وكثافة طبقاته، وعبق الورد رغم الجفاف والتخلّي عن البتلات. حين غنّى «بعد ما دابت أحلامي... بعد ما شابت أيامي... ألقاقي هنا قدامي»، طرق الأبواب الموصودة؛ تلك التي يخالها المرء صدأت حين ضاعت مفاتيحها، وهشَّم الهواء البارد خشبها وحديدها. يطرقها بأغنيات لا يهمّ إن مرَّ عُمر ولم تُسمَع. يكفيها أنها لا تُنسى، بل تحضُر مثل العصف، فيهبّ مُحدِثاً فوضى داخلية، ومُخربطاً مشاعر كوَقْع الأطفال على ما تظنّه الأمهات قد ترتَّب واتّخذ شكله المناسب.

هاني شاكر مُنتَظر والآتون من أجله يفضّلونه جداً (الشرق الأوسط)

تتطاير القبلات من فنان يحترم ناسه، ويستعدّ جيداً من أجلهم. لا تغادره الابتسامة، فيشعر مَن يُشاهده بأنه قريب ودافئ. فنانُ الغناء الحزين يضحك لإدراكه أنّ الحياة خليط أفراح ومآسٍ، ولمّا جرّبته بامتحانها الأقسى، وعصرت قلبه بالفراق، درّبته على النهوض. همست له أن يغنّي للجرح ليُشفى، وللندبة فتتوارى قليلاً. ولا بأس إن اتّسم الغناء بالأحزان، فهي وعي إنساني، وسموّ روحي، ومسار نحو تقدير البهجات. ابتسامة هاني شاكر المتألِّمة دواخلَه، إصرار وعناد.

تراءى الفنان المصري تجسيداً للذاكرة لو كان لها شكل. هكذا هي؛ تضحك وتبكي، تُستعاد فجأة على هيئة جَرْف، ثم تهمد مثل ورقة شجر لا تملك الفرار من مصيرها الأخير على عتبة الخريف الآتي. «بحبك يا هاني»، تكرَّرت صرخات نسائية، وردَّ بالحبّ. يُذكِّر جمهوره بغلبة السيدات المفتتنات بأغنياته، وبما تُحرِّك بهنّ، بجمهور كاظم الساهر. للاثنين سطوة نسائية تملك جرأة الصراخ من أجلهما، والبوح بالمشاعر أمام الحشد الحاضر.

نوَّع، فغنّى الوجه المشرق للعلاقات: «بحبك يا غالي»، و«حنعيش»، و«كدة برضو يا قمر». شيءٌ من التلصُّص إلى الوجوه، أكّد لصاحبة السطور الحبَّ الكبير للرجل. الجميع مأخوذ، يغنّي كأنه طير أُفلت من قفصه. ربما هو قفص الماضي حين ننظر إليه، فيتراءى رماداً. لكنّ الرماد وجعٌ أيضاً لأنه مصير الجمر. وهاني شاكر يغنّي لجمرنا وبقاياه، «يا ريتك معايا»، و«أصاحب مين»؛ ففي الأولى «نلفّ الدنيا دي يا عين ومعانا الهوى»، وفي الثانية «عيونك هم أصحابي وعمري وكل أحبابي»، لتبقى «مشتريكي ما تبعيش» بديع ما يُطرب.

ضجَّ صيف لبنان بحفلاته وقدَّم على أرضه حلاوة الأوقات (الشرق الأوسط)

استعار من فيروز «بحبك يا لبنان» وغنّاها. بعضٌ يُساير، لكنّ هاني شاكر صادق. ليس شاقاً كشفُ الصدق، فعكسُه فظٌّ وساطع. ردَّد موال «لبنان أرض المحبّة»، وأكمله بـ«كيف ما كنت بحبك». وكان لا مفرّ من الاستجابة لنداء تكرَّر. طالبوه مراراً بـ«علِّي الضحكاية»، لكنه اختارها للختام. توَّج بها باقة الأحزان، كإعلان هزيمة الزعل بالضحكاية العالية.