الصعق الفكري وتاريخ المستقبل!

ينظر العالم  إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)
ينظر العالم إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)
TT

الصعق الفكري وتاريخ المستقبل!

ينظر العالم  إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)
ينظر العالم إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)

نعم... لدينا حلم قديم ومتجدد دوماً، في أن نكون شيئاً آخر غير ما نحن عليه.
ولعل هذا هو أحد أسباب جاذبية الحركات العابرة للإنسانية اليوم، لا سيما حركة «ما بعد الإنسانية»، التي تلقي اهتماماً كبيراً على المستوى الشعبي والنخب الفكرية والعلمية ورجال المال والأعمال في مناطق مختلفة من العالم**. ومع ذلك، فإن ردود الفعل على توجهاتها وأهدافها تتدرج من التفاؤل المبهج إلى التشاؤم البائس.
على حين تبنت أغلب اليوتوبيات والآيديولوجيات في القرون السابقة فكرة «الإنسان الجديد»، وطرحت رؤى مبتكرة لما اعتبرته نوعاً أفضل وأكثر أخلاقية وسعادة للإنسانية، عبر وسائل سياسية واجتماعية، فإن حركة «ما بعد الإنسانية» في القرن الحادي والعشرين تعتمد أساساً على «تحسين» وتعزيز الطبيعة البشرية باستخدام آليات جديدة مثل «تقنية الجينات» والأدوية الذكية وزراعة الأعضاء والروبوتات ودمج الإنسان مع الآلة، فقد يصبح الكومبيوتر في غضون سنوات قليلة «بديلاً للوعي الإنساني، أو كامتداد له»، حسب معظم المنظرين المتفائلين اليوم.
وينظر العالم إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً، من زاويتين متقابلتين: الأولى ترفض الفكرة من الأساس وتراها كابوساً مثيراً للفزع؛ لأنه «لا يوجد أفضل من الإنسان الحالي الذي عليه الارتقاء نحو إنسانيته».
والرؤية الأخرى تؤكد أنها أمر واقع لا فكاك منه. صحيح أن الإنسان الحالي ما زال يحتفظ بهويته الإنسانية «الخالصة» وقيمه الأخلاقية التقليدية، ولكنه يوشك على التحرك باتجاه الإنسان المعزز، من خلال التدخل الجيني والطب الحيوي والأجهزة القابلة للارتداء بهدف تعزيز قدراته الجسدية والعقلية.
(2)
السؤال الذي طرحه فرنسيس فوكوياما في مقاله «ما بعد الإنسانية»، في مجلة «السياسة الخارجية» عام 2004، هو الأهم حتى الآن؛ لأنه لامس الجدار المكهرب لمخاوف المستقبل، بقوله «إذا بدأنا في تحويل أنفسنا إلى شيء أعلى، فما هي الحقوق التي ستدعيها (وتمتلكها) هذه الكائنات المعززة، مقارنة بأولئك الذين تخلفوا عن الركب؟».
مقال فوكوياما - ربما - جاء رداً على ما أثير حول ورقة بحثية عام 2001 لأبرز رواد حركة ما بعد الإنسانية، الفيلسوف السويدي نيك بوستروم (14 صفحة) بعنوان «هل نحيا في محاكاة كومبيوتر؟»، وكانت أشبه بـ«الصعق الفكري» الذي نبّه الأذهان إلى أن «العقل الإنساني» يشبه قصيدة الشعر، سواء كتبت على الرق أو الحجر أو الورق، فإنها تحمل نفس المعنى، فما الذي يمنع مع التطور الهائل لقوة الكومبيوتر والذكاء الصناعي والمعلوماتية وعلم الأعصاب وفلسفة العقل*** من محاكاة «خريطة الدماغ الإنساني بالكامل» وتحميلها في أدمغة صناعية؟ إذ يأمل العلماء في تطوير وسيلة مبتكرة لنقل الوعي الإنساني إلى صورة ثلاثية الأبعاد، عبر تحميل الدماغ على جهاز كومبيوتر، قبل عام 2045. (تعرف بمبادرة 2045).
وإذا قُدّر لهذه المبادرة النجاح، فهل من الممكن أن يتواصل مع «أدمغتنا الصناعية» الأحفاد المعززون في المستقبل، بوسائل إلكترونية حديثة، لتحقيق نوع من الخبرة و«الحكمة الجماعية»، تفوق الحكمة الإنسانية الحالية، وتعلو عليها؟
(3)
أغلب رواد حركة ما بعد الإنسانية، يرون أن الإنسان في حالته البيولوجية الراهنة، هو في مرحلة مبكرة نسبياً من تحوله التطوري. وبالتالي، فإنه قابل للتحسين (التعزيز)، بل والاستبدال التدريجي أيضاً، ليصبح كائناً تكنولوجياً يجمع في جوفه بين ما هو طبيعي وما هو تكنولوجي. وفقاً لهذه النظرة «اليوتوبية» المتفائلة، فإن الألم والتعاسة وحتى الموت هي حالات قاصرة، الوقت كفيل بتجاوزها.
لكن نقاد هذه الحركة يجمعون على أننا: لا نعرف بعد ماهية هذا التعزيز المزعوم، فضلاً عن حدوده. فما الذي يعنيه كونك أطول عمراً وأقوى بدنياً وأذكى عقلياً، طالما لا يتوافر لدينا المعيار الذي نقيس عليه؟
وعلى سبيل المثال، لدينا حالياً النموذج الطبيعي الذي نتبعه لعلاج ما قد تلف في جسم الإنسان. فقد نعيد الذراع المكسورة استناداً إلى ذراع طبيعية سليمة تعمل بكفاءة. وقس على ذلك بقية أعضاء الإنسان؛ لأن الطبيعة توفر لنا – من باطنها - النموذج الأساسي لحدود التعزيز الطبيعي.
أضف إلى ذلك أننا لا نعرف من أين يستمد الإنسان الجديد المعزز «أخلاقياته»؟
إن «عدم اليقين» بشأن فوائد وأضرار «التعزيز» هو أهم ملامح خريطة ما بعد الإنسانية «النقدية» اليوم، وتتخذ ثلاثة مسارات: الأول، متسامح يرى أن تكون هناك قيود قليلة على التعزيز، ويقدم حججاً قوية للفوائد المحتملة (لا سيما صحة الإنسان ورفاهيته). الثاني يرى أن تكون هناك قيود أكثر ويسوق حججاً دينية وغير دينية حول الكرامة الإنسانية. والثالث لا يقف ضد التعزيز من حيث المبدأ، لكنه يطرح بعض المخاوف، منها أن «التعزيز» لن يكون متاحاً للجميع وبالتساوي على كوكب الأرض، وبالتالي قد يسير في عكس الاتجاه الذي يهدف إليه أنصاره، بمعنى أن «التعزيز» قد يعزز (فقط!) التفاوت والظلم والصراع بين الأفراد والطبقات والشعوب.
من جهة ثانية، فإن «التعزيز» قد يغير فهمنا الإنساني حول ما اصطلح عليه حول «الاجتهاد والسعي» والتميز والازدهار، فماذا يعني أن تكون متميزاً في المستقبل؟ وهي إشكالية تمس سلوك الأفراد والممارسات الاجتماعية والعلاقات الدولية بالمثل، لا سيما أن من يملك مصادر «التعزيز» وإمكانياته سوف يملك مصادر القوة!
(4)
أول من تنبه إلى أن «المشكلات التكنولوجية الجديدة في حاجة إلى معالجة أنثروبولوجية فلسفية جديدة»، كان الفيلسوف الروسي نقولاي بيريائف (وُلد في كييف في أوكرانيا عام 1874). لكن الاستجابة لهذه الشذرة تأخرت 85 عاماً، حيث صدر في مايو (أيار) الماضي 2022 كتاب مهم حول «الإنسان الأعلى»**** للباحثة الألمانية آنا بوزبو،
وهو أول دراسة فلسفية تهدف إلى تطوير نهج جديد لأنثروبولوجيا التكنولوجيا، حيث تشارك مع شخصيات بارزة في هذا المجال، أمثال نيك بوستروم، وديفيد بيرس، وناتاشا فيتا مور، وغيرهم.
ترى بوزيو، أن حركة ما بعد الإنسانية تحوي تناقضاً يصعب حله «رؤية اختزالية للإنسان» (ص - 227)، و«فهم مزدوج للطبيعة الإنسانية» (ص 229)، وكلاهما يمنح الأولوية للدماغ والعمليات المعرفية على التكوين الطبيعي للإنسان؛ لذا تنظر الحركة إلى الجسد الإنساني على أنه قابل للاستبدال عن طريق التكنولوجيا.
لكن اختزال الأشخاص وتجاربهم الجسدية والعقلية يجعل منهم مجرد أدوات تقوم بعمليات آلية لمعالجة المعلومات، وبهذه الطريقة تصبح المعلومات هي «العامل الرئيسي» (ص - 264). ولأنها تقصي الأشخاص الطبيعيين «الحقيقيين» خارج مجالها، وتمنح الأولوية للتكنولوجيا على حساب المشاعر والعواطف الإنسانية فإنها تتناقض مع أهدافها المعلنة، وهي «تحرير الإنسان من قيوده الطبيعية».
إن حركة ما بعد الإنسانية – حسب بوزيو - لا تطرح أي موقف أساسي «يؤكد إنسانية الإنسان» (ص - 227)، وبالتالي لا تساهم في تقديم «تصور متماسك، دينامي وطليعي للإنسان في المستقبل» (ص - 348).
(5)
سواء كانت حركة ما بعد الإنسانية مجرد أضغاث أحلام أو إحدى حقائق الغد، علينا الاستعداد للتعامل معها؛ لأننا نواجه إشكالية غير مسبوقة، حيث لا يدور الصراع بين العلم والدين، أو الفلسفة واللاهوت، وإنما يدور أساساً بين العلماء أنفسهم والفلاسفة وأقرانهم، ووسط اللاهوتيين على تنوعهم.
الأهم هو أن «المال» ونظرية المعرفة في وادي السيلكون أصبحت – للمرة الأولى - لاعباً جديداً في هذا المضمار.
الملاحظة الثانية، حتى الآن يتحدث الجميع بعضهم عن بعض، وليس بعضهم مع بعض، لكنها مسألة وقت، وربما كانت هذه فرصة لنا، بأن ننخرط (ونشتبك) مبكراً مع هذه الإشكالية الزاحفة على تخومنا؟ لا أن نكتفي بالمتابعة فقط، أو نتقمص دور اللاعب الجالس على دكة الاحتياط الذي ينتقد فريقه دون أن يؤثر في نتيجة المباراة!
لا تنقصنا الإرادة السياسية الواعية ولا الشباب الطموح المتمكن من أدواته علمياً ولا المال ورواد الأعمال، فضلاً عن أساتذة الجامعات ومراكز الأبحاث، وأعني تحديداً المملكة العربية السعودية.
كيف نجتذب هذا الزخم العالمي باتجاهنا؟.. كيف نصبح أحد مراكز صناعة المستقبل في الشرق الأوسط؟
- باحث مصري
** «وول ستريت» و«وادي السيلكون» ورواد الأعمال (من ديمتري إيتسكوف الروسي إلى الأميركي إيلون موسك)، مروراً بأغلب رواد الأعمال في العالم، مهتمون بمسألة دمج الدماغ الإنساني بالكومبيوتر، ناهيك بالاستثمارات الضخمة: مختبرات وأبحاث واستشارات علمية، وصناعات جديدة في مجال الأدوية الذكية والمعززات المعرفية.
وقدّر أحد التقارير المنشورة في يونيو (حزيران) 2022 القيمة العالمية لأحد المنشطات الذهنية في عام 2026 بمبلغ 6.61 مليار دولار (سعر التقرير المكون من 175 صفحة،
يبدأ من 4000 دولار أميركي!).
*** وداعاً ديكارت، كوسمولوجيا جديدة للعقل الإنساني، المؤلف: كيث ديفلين، ترجمة: د. عصام عبد الله، الناشر: كتاب المجلة العربية (1)، المملكة العربية السعودية 1435هـ – 2014م.
•****Über - Menschen: Philosophische Auseinandersetzung mit der Anthropologie des Transhumanismus (Edition Moderne Postmoderne، by Anna Puzio، Publisher، ‎ Transcript; 1st edition
(May 2022).


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.