الصعق الفكري وتاريخ المستقبل!

ينظر العالم  إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)
ينظر العالم إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)
TT

الصعق الفكري وتاريخ المستقبل!

ينظر العالم  إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)
ينظر العالم إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً من زاويتين متقابلتين (إ.ب.أ)

نعم... لدينا حلم قديم ومتجدد دوماً، في أن نكون شيئاً آخر غير ما نحن عليه.
ولعل هذا هو أحد أسباب جاذبية الحركات العابرة للإنسانية اليوم، لا سيما حركة «ما بعد الإنسانية»، التي تلقي اهتماماً كبيراً على المستوى الشعبي والنخب الفكرية والعلمية ورجال المال والأعمال في مناطق مختلفة من العالم**. ومع ذلك، فإن ردود الفعل على توجهاتها وأهدافها تتدرج من التفاؤل المبهج إلى التشاؤم البائس.
على حين تبنت أغلب اليوتوبيات والآيديولوجيات في القرون السابقة فكرة «الإنسان الجديد»، وطرحت رؤى مبتكرة لما اعتبرته نوعاً أفضل وأكثر أخلاقية وسعادة للإنسانية، عبر وسائل سياسية واجتماعية، فإن حركة «ما بعد الإنسانية» في القرن الحادي والعشرين تعتمد أساساً على «تحسين» وتعزيز الطبيعة البشرية باستخدام آليات جديدة مثل «تقنية الجينات» والأدوية الذكية وزراعة الأعضاء والروبوتات ودمج الإنسان مع الآلة، فقد يصبح الكومبيوتر في غضون سنوات قليلة «بديلاً للوعي الإنساني، أو كامتداد له»، حسب معظم المنظرين المتفائلين اليوم.
وينظر العالم إلى فكرة الإنسان المعزز تكنولوجياً، من زاويتين متقابلتين: الأولى ترفض الفكرة من الأساس وتراها كابوساً مثيراً للفزع؛ لأنه «لا يوجد أفضل من الإنسان الحالي الذي عليه الارتقاء نحو إنسانيته».
والرؤية الأخرى تؤكد أنها أمر واقع لا فكاك منه. صحيح أن الإنسان الحالي ما زال يحتفظ بهويته الإنسانية «الخالصة» وقيمه الأخلاقية التقليدية، ولكنه يوشك على التحرك باتجاه الإنسان المعزز، من خلال التدخل الجيني والطب الحيوي والأجهزة القابلة للارتداء بهدف تعزيز قدراته الجسدية والعقلية.
(2)
السؤال الذي طرحه فرنسيس فوكوياما في مقاله «ما بعد الإنسانية»، في مجلة «السياسة الخارجية» عام 2004، هو الأهم حتى الآن؛ لأنه لامس الجدار المكهرب لمخاوف المستقبل، بقوله «إذا بدأنا في تحويل أنفسنا إلى شيء أعلى، فما هي الحقوق التي ستدعيها (وتمتلكها) هذه الكائنات المعززة، مقارنة بأولئك الذين تخلفوا عن الركب؟».
مقال فوكوياما - ربما - جاء رداً على ما أثير حول ورقة بحثية عام 2001 لأبرز رواد حركة ما بعد الإنسانية، الفيلسوف السويدي نيك بوستروم (14 صفحة) بعنوان «هل نحيا في محاكاة كومبيوتر؟»، وكانت أشبه بـ«الصعق الفكري» الذي نبّه الأذهان إلى أن «العقل الإنساني» يشبه قصيدة الشعر، سواء كتبت على الرق أو الحجر أو الورق، فإنها تحمل نفس المعنى، فما الذي يمنع مع التطور الهائل لقوة الكومبيوتر والذكاء الصناعي والمعلوماتية وعلم الأعصاب وفلسفة العقل*** من محاكاة «خريطة الدماغ الإنساني بالكامل» وتحميلها في أدمغة صناعية؟ إذ يأمل العلماء في تطوير وسيلة مبتكرة لنقل الوعي الإنساني إلى صورة ثلاثية الأبعاد، عبر تحميل الدماغ على جهاز كومبيوتر، قبل عام 2045. (تعرف بمبادرة 2045).
وإذا قُدّر لهذه المبادرة النجاح، فهل من الممكن أن يتواصل مع «أدمغتنا الصناعية» الأحفاد المعززون في المستقبل، بوسائل إلكترونية حديثة، لتحقيق نوع من الخبرة و«الحكمة الجماعية»، تفوق الحكمة الإنسانية الحالية، وتعلو عليها؟
(3)
أغلب رواد حركة ما بعد الإنسانية، يرون أن الإنسان في حالته البيولوجية الراهنة، هو في مرحلة مبكرة نسبياً من تحوله التطوري. وبالتالي، فإنه قابل للتحسين (التعزيز)، بل والاستبدال التدريجي أيضاً، ليصبح كائناً تكنولوجياً يجمع في جوفه بين ما هو طبيعي وما هو تكنولوجي. وفقاً لهذه النظرة «اليوتوبية» المتفائلة، فإن الألم والتعاسة وحتى الموت هي حالات قاصرة، الوقت كفيل بتجاوزها.
لكن نقاد هذه الحركة يجمعون على أننا: لا نعرف بعد ماهية هذا التعزيز المزعوم، فضلاً عن حدوده. فما الذي يعنيه كونك أطول عمراً وأقوى بدنياً وأذكى عقلياً، طالما لا يتوافر لدينا المعيار الذي نقيس عليه؟
وعلى سبيل المثال، لدينا حالياً النموذج الطبيعي الذي نتبعه لعلاج ما قد تلف في جسم الإنسان. فقد نعيد الذراع المكسورة استناداً إلى ذراع طبيعية سليمة تعمل بكفاءة. وقس على ذلك بقية أعضاء الإنسان؛ لأن الطبيعة توفر لنا – من باطنها - النموذج الأساسي لحدود التعزيز الطبيعي.
أضف إلى ذلك أننا لا نعرف من أين يستمد الإنسان الجديد المعزز «أخلاقياته»؟
إن «عدم اليقين» بشأن فوائد وأضرار «التعزيز» هو أهم ملامح خريطة ما بعد الإنسانية «النقدية» اليوم، وتتخذ ثلاثة مسارات: الأول، متسامح يرى أن تكون هناك قيود قليلة على التعزيز، ويقدم حججاً قوية للفوائد المحتملة (لا سيما صحة الإنسان ورفاهيته). الثاني يرى أن تكون هناك قيود أكثر ويسوق حججاً دينية وغير دينية حول الكرامة الإنسانية. والثالث لا يقف ضد التعزيز من حيث المبدأ، لكنه يطرح بعض المخاوف، منها أن «التعزيز» لن يكون متاحاً للجميع وبالتساوي على كوكب الأرض، وبالتالي قد يسير في عكس الاتجاه الذي يهدف إليه أنصاره، بمعنى أن «التعزيز» قد يعزز (فقط!) التفاوت والظلم والصراع بين الأفراد والطبقات والشعوب.
من جهة ثانية، فإن «التعزيز» قد يغير فهمنا الإنساني حول ما اصطلح عليه حول «الاجتهاد والسعي» والتميز والازدهار، فماذا يعني أن تكون متميزاً في المستقبل؟ وهي إشكالية تمس سلوك الأفراد والممارسات الاجتماعية والعلاقات الدولية بالمثل، لا سيما أن من يملك مصادر «التعزيز» وإمكانياته سوف يملك مصادر القوة!
(4)
أول من تنبه إلى أن «المشكلات التكنولوجية الجديدة في حاجة إلى معالجة أنثروبولوجية فلسفية جديدة»، كان الفيلسوف الروسي نقولاي بيريائف (وُلد في كييف في أوكرانيا عام 1874). لكن الاستجابة لهذه الشذرة تأخرت 85 عاماً، حيث صدر في مايو (أيار) الماضي 2022 كتاب مهم حول «الإنسان الأعلى»**** للباحثة الألمانية آنا بوزبو،
وهو أول دراسة فلسفية تهدف إلى تطوير نهج جديد لأنثروبولوجيا التكنولوجيا، حيث تشارك مع شخصيات بارزة في هذا المجال، أمثال نيك بوستروم، وديفيد بيرس، وناتاشا فيتا مور، وغيرهم.
ترى بوزيو، أن حركة ما بعد الإنسانية تحوي تناقضاً يصعب حله «رؤية اختزالية للإنسان» (ص - 227)، و«فهم مزدوج للطبيعة الإنسانية» (ص 229)، وكلاهما يمنح الأولوية للدماغ والعمليات المعرفية على التكوين الطبيعي للإنسان؛ لذا تنظر الحركة إلى الجسد الإنساني على أنه قابل للاستبدال عن طريق التكنولوجيا.
لكن اختزال الأشخاص وتجاربهم الجسدية والعقلية يجعل منهم مجرد أدوات تقوم بعمليات آلية لمعالجة المعلومات، وبهذه الطريقة تصبح المعلومات هي «العامل الرئيسي» (ص - 264). ولأنها تقصي الأشخاص الطبيعيين «الحقيقيين» خارج مجالها، وتمنح الأولوية للتكنولوجيا على حساب المشاعر والعواطف الإنسانية فإنها تتناقض مع أهدافها المعلنة، وهي «تحرير الإنسان من قيوده الطبيعية».
إن حركة ما بعد الإنسانية – حسب بوزيو - لا تطرح أي موقف أساسي «يؤكد إنسانية الإنسان» (ص - 227)، وبالتالي لا تساهم في تقديم «تصور متماسك، دينامي وطليعي للإنسان في المستقبل» (ص - 348).
(5)
سواء كانت حركة ما بعد الإنسانية مجرد أضغاث أحلام أو إحدى حقائق الغد، علينا الاستعداد للتعامل معها؛ لأننا نواجه إشكالية غير مسبوقة، حيث لا يدور الصراع بين العلم والدين، أو الفلسفة واللاهوت، وإنما يدور أساساً بين العلماء أنفسهم والفلاسفة وأقرانهم، ووسط اللاهوتيين على تنوعهم.
الأهم هو أن «المال» ونظرية المعرفة في وادي السيلكون أصبحت – للمرة الأولى - لاعباً جديداً في هذا المضمار.
الملاحظة الثانية، حتى الآن يتحدث الجميع بعضهم عن بعض، وليس بعضهم مع بعض، لكنها مسألة وقت، وربما كانت هذه فرصة لنا، بأن ننخرط (ونشتبك) مبكراً مع هذه الإشكالية الزاحفة على تخومنا؟ لا أن نكتفي بالمتابعة فقط، أو نتقمص دور اللاعب الجالس على دكة الاحتياط الذي ينتقد فريقه دون أن يؤثر في نتيجة المباراة!
لا تنقصنا الإرادة السياسية الواعية ولا الشباب الطموح المتمكن من أدواته علمياً ولا المال ورواد الأعمال، فضلاً عن أساتذة الجامعات ومراكز الأبحاث، وأعني تحديداً المملكة العربية السعودية.
كيف نجتذب هذا الزخم العالمي باتجاهنا؟.. كيف نصبح أحد مراكز صناعة المستقبل في الشرق الأوسط؟
- باحث مصري
** «وول ستريت» و«وادي السيلكون» ورواد الأعمال (من ديمتري إيتسكوف الروسي إلى الأميركي إيلون موسك)، مروراً بأغلب رواد الأعمال في العالم، مهتمون بمسألة دمج الدماغ الإنساني بالكومبيوتر، ناهيك بالاستثمارات الضخمة: مختبرات وأبحاث واستشارات علمية، وصناعات جديدة في مجال الأدوية الذكية والمعززات المعرفية.
وقدّر أحد التقارير المنشورة في يونيو (حزيران) 2022 القيمة العالمية لأحد المنشطات الذهنية في عام 2026 بمبلغ 6.61 مليار دولار (سعر التقرير المكون من 175 صفحة،
يبدأ من 4000 دولار أميركي!).
*** وداعاً ديكارت، كوسمولوجيا جديدة للعقل الإنساني، المؤلف: كيث ديفلين، ترجمة: د. عصام عبد الله، الناشر: كتاب المجلة العربية (1)، المملكة العربية السعودية 1435هـ – 2014م.
•****Über - Menschen: Philosophische Auseinandersetzung mit der Anthropologie des Transhumanismus (Edition Moderne Postmoderne، by Anna Puzio، Publisher، ‎ Transcript; 1st edition
(May 2022).


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.