لماذا يتراجع المفكرون العرب عن أطروحاتهم الحداثية ومواقفهم التقدمية؟

لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
TT

لماذا يتراجع المفكرون العرب عن أطروحاتهم الحداثية ومواقفهم التقدمية؟

لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)

ثمة ظاهرة ثقافية عربية يمكن ملاحظتها بالعين المجردة، تتمثل في التحولات الفكرية التي خاضها آباء الفكر النهضوي وأرباب مشروعات التجديد الثقافي، خصوصاً من الجيلين الثاني والثالث (يمكن نسبة الجيل الأول إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والجيل الثاني إلى الفترة بين أوائل القرن العشرين وأربعيناته، أما الجيل الثالث فيمتد بين أربعيناته وتسعيناته). فبينما لم تكن الظاهرة واضحة لدى الجيل الأول، فقد تبدت جلية لدى الجيلين الأخيرين، اللذين قدم بعض رموزهما ما يشبه الاعتذار عن أطروحات التجديد الجذري التي صدرت عنهم في مراحل شبابهم، ونادت بالانضواء الصريح في الحداثة الفكرية، قبل أن يهدأ بركان الثورة ويعودون للتصالح مع السائد من بنى رمزية يتمركز المقدس في قلبها، وأفكار يتزايد حضور الموروث فيها. فمن الوضعية المنطقية، مثلاً، جرى الانتقال إلى النزعة التوفيقية. ومن نقد العقل العربي جرى الانتقال إلى تفسير القرآن. ومن تبجيل الغرب إلى حد التغريب، جرت محاولات لاكتشاف الشرق. ومن اليسار الماركسي جرى التحول إلى اليسار الإسلامي... إلخ. غير أن عمق تلك المراجعات، وأشكال الإفصاح عنها، اختلفا كثيراً بين هؤلاء المفكرين، فبعضها كان هادئاً ومنطقياً، وبعضها الآخر كان أشبه بانقلاب على الذات، اتسم بالعنف والراديكالية، الأمر الذي نفسره باختلاف دوافعهم التي نتوقف عند الأربعة الرئيسية منها:
الدافـع الأول معرفي، يتعلق إجمالاً بتراكم الخبرات الفكرية لدى المبدع مع كر سنوات العمر، الأمر الذي يدفع به إلى تعديل، بطيء وعميق، في رؤاه ومواقفه من القضايا الكبرى كالنهضة والحداثة والهوية، يميل به نحو الاعتدال، ما قد يعد دليلاً على نضوجه العقلي. هنا تكون المراجعات عميقة ومسؤولة، تجري على مهل، والأغلب أن تتوزع على مراحل تاريخية طويلة نسبياً، تكاد تكون أولاها غير ملحوظة أو مُعبر عنها صراحة، حيث تدور المراجعات في ذهن وخاطر المفكر نفسه، وإن أمكن لناقديه ومتابعي فكره أن يرصدوها، قبل أن تخرج في مراحلها التالية إلى العلن لتدور بينه وبين محيطه الثقافي. وفي كل الأحوال تبدو تلك المراجعات طبيعية ومقبولة، يتبنى معها المفكر المواقف الأكثر تركيباً ونسبية، مبتعداً بدرجة أو بأخرى عن الأفكار الأكثر راديكالية وإطلاقية، التي غالباً ما تجذبه وهو شاب، وهو أمر مفهوم يرتبط بمفهوم الحقيقة نفسه، باعتباره مفهوماً إنسانياً وتاريخياً، سواء تعلق بالعالم الطبيعي أو الواقع الاجتماعي، فمن كان يتصور في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم التاسع عشر، أن تقوم الفيزياء النسبية لأينشتين وماكس بلانك وفيرنر هيزنبرغ وما صاغته من رؤى للعالم تتسم بالديناميكية والاحتمالية، بتهديم قلاع الفيزياء الاستاتيكية لنيوتن وجاليليو، وما صاغته من رؤى للعالم تتسم بالسكونية والحتمية. بل إن تلك المراجعات تكون أحياناً مطلوبة، فليس متصوراً أن يولد المفكر مكتملاً، وأن يبقى قائماً على أفكاره الأولى، عصياً على التطور، ومن ثم فقد ينظر إليها كمعلم على حيوية الفكر الإنساني، وعلى موضوعية المفكر نفسه، الذي لا يمكن أن نطالبه بكتمان ما يمور بداخله من تحولات أو إدارة ظهره لما يتراكم في وعيه من خبرات.
والدافع الثاني وجـودي، حيث يسعى المفكر إلى التوافق مع المكونات الأساسية لهويته كلما طال به العمر وأشرف على الرحيل، بتأثير الخوف من الفناء. فرغم خضوع الإنسان، مثل جميع الكائنات، لقانون العدم، فإن ميزته الكبرى تكمن في أنه وحده يعي ذلك القانون، ويدرك المعنى الكامن وراءه، يعرف مغزى الموت ويستعد للقائه، سواء بثقة وهدوء أو بهلع وخوف. وربما يتعمق هذا الشعور عندما يرتبط بالرؤية الوجودية للأديان التوحيدية، وفي قلبها الإسلام، فجلها تربط نهاية التاريخ/ عالم الشهادة بحدث قيامي يمثل بداية لعالم الغيب، ويتمحور حوله مفهوم الخلاص الذاتي. في هذا السياق يمكن فهم النزوع إلى التصالح مع الدين، ولن نقول العودة إليه، لدى العديد من المفكرين في مرحلة العمر المتأخر، التي يبدو فيها الناس أكثر حرصاً على الإعداد لما بعد الحياة أكثر من التأسيس للحياة نفسها، وإن كانوا لا يقولون ذلك صراحة، بل يمارسونه من خلال آليات ذهنية نفسية، دفاعية وهروبية، يقومون معها بإعادة قراءة الماضي (التراث)، على ضوء هواجس المستقبل (العدم)، مع ما يقتضيه ذلك من القيام بتأويلات جديدة لمواقف فكرية كانوا قد عبروا عنها أو لأحداث تاريخية كانوا قد تمثلوها، ما يجعلهم أكثر توافقاً مع منطق أديانهم ومقتضى إيمانهم.
والدافـع الثالث سياسي يتعلق بموجات التحول العالمي، حيث أثارت نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروز الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى من داخل فضاء الحداثة الفكرية، ولكن من خارج إطار الليبرالية الغربية، أحلام الكثيرين من مثقفي العالم وشبابه، إمكانية نشوء عالم جديد خارج إطار المركزية الغربية، فانطلقت في كل أنحاء العالم موجة إعجاب بالماركسية، حيث بدا النموذج من بعيد ومن الخارج، جاذباً وجذاباً. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي بعد سبعة عقود تقريباً كان ذلك إيذاناً بهزيمة التجربة عالمياً، والنموذج إنسانياً. ولم يكن غريباً، والحال هكذا، أن تحدث مراجعات كبرى، وأن تشهد الثقافة العربية نكوص مثقفين كثر إلى مواقف رجعية قياساً إلى مواقفهم الأولى/ التقدمية، فتحرك البعض، مثلاً، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن القومية العربية إلى الإسلام السياسي، الذي وجدوا فيه طوق نجاة يمدهم بـعقيدة فكرية اعتادوا أن يقتاتوا عليها، وإن اختلف محتواها هذه المرة، فالوعي الشمولي ذو بنية متشابهة جوهرياً، وإن اختلفت ظاهرياً بين الآيديولوجي والديني. وحتى أولئك المفكرين القلائل الذين نجحوا في التخلص من النسق الاعتقادي والاندماج في الفكر الليبرالي، القائم على الفردنة والتنوع وقبول الاختلاف، فقد وقع بعضهم، في ظل غمرة حماسه وحرارة تحوله، في خطأ الأدلجة والقبول المطلق بالنموذج الليبرالي الغربي، إلى درجة الدفاع عن احتلال أميركا للعراق ومحاولة تسويغ ما أسمى بديمقراطية الدبابات.
أما الدافع الرابع فيراوح بين الانتهازية واليأس، فثمة من تحولوا جذرياً عن مواقف فكرية قديمة، وهاجموا سلطات سياسية كانوا قد ترعرعوا في ظلها واستمتعوا برعايتها، بذريعة أنهم لم يعرفوا خطاياها، وأنهم استعادوا للتو وعيهم المفقود، رغم أن ذلك لم يكن سوى استمارة التحاق بالحكم الجديد والتمتع بمظلة رعايته. وقد يحدث هذا الانقلاب أحياناً مدعوماً بقوة دفع اليأس، بعد هزيمة الأفكار الكبرى التي دافع عنها المفكر أو إخفاق التجربة السياسية التي تحمس لها. ومن ثم يبدأ في التكيف مع الواقع واللعب على المضمون، وانتهاز الفرصة لتحقيق مصالح شخصية بذريعة الواقعية، بعد أن فات قطار العمر دون تحقق الأحلام الكبرى، فإذا به يعيد تشكيل مواقفه الفردية التي ربما تعرض للإيذاء أو الإهمال بسببها. ولعل هذا هو حال المفكر الذي تشكل الأيديولوجية المكون الأساسي في تكوينه قياساً إلى المكون المعرفي، فالمثقف الحقيقي، ذو العقل النقدي، الطامح إلى مقاربة الحقيقة، لا يقع بسهولة في أسر الانتهازية واليأس.
وهكذا يتبدى مدى تعقيد وتشابك الدوافع الكامنة خلف ظاهرة التحولات الفكرية لدى مثقفين عرب كثر، لا يجب وضعهم جميعاً في سلة واحدة، بغية هجائهم، ولا حتى بهدف تقريظهم، بل لا بد من إعادة فحص أفكارهم ونقد تحولاتهم، للكشف عن مضموناتها المعرفية وسياقاتها التاريخية، ما يعطينا فهماً أفضل لحركة تاريخنا الفكري، وجدلية تطورنا الثقافي، وربما يجيب عن أحد أهم أسئلتنا: لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن، ولماذا ظلت أسئلته المطروحة عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين حول الهوية والنهضة والحداثة، هي نفسها عند مطلع الحادي والعشرين؟ غير أن لهذا حديثاً آخر يطول.
- كاتب وباحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».