لماذا يتراجع المفكرون العرب عن أطروحاتهم الحداثية ومواقفهم التقدمية؟

لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
TT

لماذا يتراجع المفكرون العرب عن أطروحاتهم الحداثية ومواقفهم التقدمية؟

لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)

ثمة ظاهرة ثقافية عربية يمكن ملاحظتها بالعين المجردة، تتمثل في التحولات الفكرية التي خاضها آباء الفكر النهضوي وأرباب مشروعات التجديد الثقافي، خصوصاً من الجيلين الثاني والثالث (يمكن نسبة الجيل الأول إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والجيل الثاني إلى الفترة بين أوائل القرن العشرين وأربعيناته، أما الجيل الثالث فيمتد بين أربعيناته وتسعيناته). فبينما لم تكن الظاهرة واضحة لدى الجيل الأول، فقد تبدت جلية لدى الجيلين الأخيرين، اللذين قدم بعض رموزهما ما يشبه الاعتذار عن أطروحات التجديد الجذري التي صدرت عنهم في مراحل شبابهم، ونادت بالانضواء الصريح في الحداثة الفكرية، قبل أن يهدأ بركان الثورة ويعودون للتصالح مع السائد من بنى رمزية يتمركز المقدس في قلبها، وأفكار يتزايد حضور الموروث فيها. فمن الوضعية المنطقية، مثلاً، جرى الانتقال إلى النزعة التوفيقية. ومن نقد العقل العربي جرى الانتقال إلى تفسير القرآن. ومن تبجيل الغرب إلى حد التغريب، جرت محاولات لاكتشاف الشرق. ومن اليسار الماركسي جرى التحول إلى اليسار الإسلامي... إلخ. غير أن عمق تلك المراجعات، وأشكال الإفصاح عنها، اختلفا كثيراً بين هؤلاء المفكرين، فبعضها كان هادئاً ومنطقياً، وبعضها الآخر كان أشبه بانقلاب على الذات، اتسم بالعنف والراديكالية، الأمر الذي نفسره باختلاف دوافعهم التي نتوقف عند الأربعة الرئيسية منها:
الدافـع الأول معرفي، يتعلق إجمالاً بتراكم الخبرات الفكرية لدى المبدع مع كر سنوات العمر، الأمر الذي يدفع به إلى تعديل، بطيء وعميق، في رؤاه ومواقفه من القضايا الكبرى كالنهضة والحداثة والهوية، يميل به نحو الاعتدال، ما قد يعد دليلاً على نضوجه العقلي. هنا تكون المراجعات عميقة ومسؤولة، تجري على مهل، والأغلب أن تتوزع على مراحل تاريخية طويلة نسبياً، تكاد تكون أولاها غير ملحوظة أو مُعبر عنها صراحة، حيث تدور المراجعات في ذهن وخاطر المفكر نفسه، وإن أمكن لناقديه ومتابعي فكره أن يرصدوها، قبل أن تخرج في مراحلها التالية إلى العلن لتدور بينه وبين محيطه الثقافي. وفي كل الأحوال تبدو تلك المراجعات طبيعية ومقبولة، يتبنى معها المفكر المواقف الأكثر تركيباً ونسبية، مبتعداً بدرجة أو بأخرى عن الأفكار الأكثر راديكالية وإطلاقية، التي غالباً ما تجذبه وهو شاب، وهو أمر مفهوم يرتبط بمفهوم الحقيقة نفسه، باعتباره مفهوماً إنسانياً وتاريخياً، سواء تعلق بالعالم الطبيعي أو الواقع الاجتماعي، فمن كان يتصور في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم التاسع عشر، أن تقوم الفيزياء النسبية لأينشتين وماكس بلانك وفيرنر هيزنبرغ وما صاغته من رؤى للعالم تتسم بالديناميكية والاحتمالية، بتهديم قلاع الفيزياء الاستاتيكية لنيوتن وجاليليو، وما صاغته من رؤى للعالم تتسم بالسكونية والحتمية. بل إن تلك المراجعات تكون أحياناً مطلوبة، فليس متصوراً أن يولد المفكر مكتملاً، وأن يبقى قائماً على أفكاره الأولى، عصياً على التطور، ومن ثم فقد ينظر إليها كمعلم على حيوية الفكر الإنساني، وعلى موضوعية المفكر نفسه، الذي لا يمكن أن نطالبه بكتمان ما يمور بداخله من تحولات أو إدارة ظهره لما يتراكم في وعيه من خبرات.
والدافع الثاني وجـودي، حيث يسعى المفكر إلى التوافق مع المكونات الأساسية لهويته كلما طال به العمر وأشرف على الرحيل، بتأثير الخوف من الفناء. فرغم خضوع الإنسان، مثل جميع الكائنات، لقانون العدم، فإن ميزته الكبرى تكمن في أنه وحده يعي ذلك القانون، ويدرك المعنى الكامن وراءه، يعرف مغزى الموت ويستعد للقائه، سواء بثقة وهدوء أو بهلع وخوف. وربما يتعمق هذا الشعور عندما يرتبط بالرؤية الوجودية للأديان التوحيدية، وفي قلبها الإسلام، فجلها تربط نهاية التاريخ/ عالم الشهادة بحدث قيامي يمثل بداية لعالم الغيب، ويتمحور حوله مفهوم الخلاص الذاتي. في هذا السياق يمكن فهم النزوع إلى التصالح مع الدين، ولن نقول العودة إليه، لدى العديد من المفكرين في مرحلة العمر المتأخر، التي يبدو فيها الناس أكثر حرصاً على الإعداد لما بعد الحياة أكثر من التأسيس للحياة نفسها، وإن كانوا لا يقولون ذلك صراحة، بل يمارسونه من خلال آليات ذهنية نفسية، دفاعية وهروبية، يقومون معها بإعادة قراءة الماضي (التراث)، على ضوء هواجس المستقبل (العدم)، مع ما يقتضيه ذلك من القيام بتأويلات جديدة لمواقف فكرية كانوا قد عبروا عنها أو لأحداث تاريخية كانوا قد تمثلوها، ما يجعلهم أكثر توافقاً مع منطق أديانهم ومقتضى إيمانهم.
والدافـع الثالث سياسي يتعلق بموجات التحول العالمي، حيث أثارت نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروز الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى من داخل فضاء الحداثة الفكرية، ولكن من خارج إطار الليبرالية الغربية، أحلام الكثيرين من مثقفي العالم وشبابه، إمكانية نشوء عالم جديد خارج إطار المركزية الغربية، فانطلقت في كل أنحاء العالم موجة إعجاب بالماركسية، حيث بدا النموذج من بعيد ومن الخارج، جاذباً وجذاباً. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي بعد سبعة عقود تقريباً كان ذلك إيذاناً بهزيمة التجربة عالمياً، والنموذج إنسانياً. ولم يكن غريباً، والحال هكذا، أن تحدث مراجعات كبرى، وأن تشهد الثقافة العربية نكوص مثقفين كثر إلى مواقف رجعية قياساً إلى مواقفهم الأولى/ التقدمية، فتحرك البعض، مثلاً، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن القومية العربية إلى الإسلام السياسي، الذي وجدوا فيه طوق نجاة يمدهم بـعقيدة فكرية اعتادوا أن يقتاتوا عليها، وإن اختلف محتواها هذه المرة، فالوعي الشمولي ذو بنية متشابهة جوهرياً، وإن اختلفت ظاهرياً بين الآيديولوجي والديني. وحتى أولئك المفكرين القلائل الذين نجحوا في التخلص من النسق الاعتقادي والاندماج في الفكر الليبرالي، القائم على الفردنة والتنوع وقبول الاختلاف، فقد وقع بعضهم، في ظل غمرة حماسه وحرارة تحوله، في خطأ الأدلجة والقبول المطلق بالنموذج الليبرالي الغربي، إلى درجة الدفاع عن احتلال أميركا للعراق ومحاولة تسويغ ما أسمى بديمقراطية الدبابات.
أما الدافع الرابع فيراوح بين الانتهازية واليأس، فثمة من تحولوا جذرياً عن مواقف فكرية قديمة، وهاجموا سلطات سياسية كانوا قد ترعرعوا في ظلها واستمتعوا برعايتها، بذريعة أنهم لم يعرفوا خطاياها، وأنهم استعادوا للتو وعيهم المفقود، رغم أن ذلك لم يكن سوى استمارة التحاق بالحكم الجديد والتمتع بمظلة رعايته. وقد يحدث هذا الانقلاب أحياناً مدعوماً بقوة دفع اليأس، بعد هزيمة الأفكار الكبرى التي دافع عنها المفكر أو إخفاق التجربة السياسية التي تحمس لها. ومن ثم يبدأ في التكيف مع الواقع واللعب على المضمون، وانتهاز الفرصة لتحقيق مصالح شخصية بذريعة الواقعية، بعد أن فات قطار العمر دون تحقق الأحلام الكبرى، فإذا به يعيد تشكيل مواقفه الفردية التي ربما تعرض للإيذاء أو الإهمال بسببها. ولعل هذا هو حال المفكر الذي تشكل الأيديولوجية المكون الأساسي في تكوينه قياساً إلى المكون المعرفي، فالمثقف الحقيقي، ذو العقل النقدي، الطامح إلى مقاربة الحقيقة، لا يقع بسهولة في أسر الانتهازية واليأس.
وهكذا يتبدى مدى تعقيد وتشابك الدوافع الكامنة خلف ظاهرة التحولات الفكرية لدى مثقفين عرب كثر، لا يجب وضعهم جميعاً في سلة واحدة، بغية هجائهم، ولا حتى بهدف تقريظهم، بل لا بد من إعادة فحص أفكارهم ونقد تحولاتهم، للكشف عن مضموناتها المعرفية وسياقاتها التاريخية، ما يعطينا فهماً أفضل لحركة تاريخنا الفكري، وجدلية تطورنا الثقافي، وربما يجيب عن أحد أهم أسئلتنا: لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن، ولماذا ظلت أسئلته المطروحة عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين حول الهوية والنهضة والحداثة، هي نفسها عند مطلع الحادي والعشرين؟ غير أن لهذا حديثاً آخر يطول.
- كاتب وباحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».