لماذا يتراجع المفكرون العرب عن أطروحاتهم الحداثية ومواقفهم التقدمية؟

لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
TT

لماذا يتراجع المفكرون العرب عن أطروحاتهم الحداثية ومواقفهم التقدمية؟

لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)

ثمة ظاهرة ثقافية عربية يمكن ملاحظتها بالعين المجردة، تتمثل في التحولات الفكرية التي خاضها آباء الفكر النهضوي وأرباب مشروعات التجديد الثقافي، خصوصاً من الجيلين الثاني والثالث (يمكن نسبة الجيل الأول إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والجيل الثاني إلى الفترة بين أوائل القرن العشرين وأربعيناته، أما الجيل الثالث فيمتد بين أربعيناته وتسعيناته). فبينما لم تكن الظاهرة واضحة لدى الجيل الأول، فقد تبدت جلية لدى الجيلين الأخيرين، اللذين قدم بعض رموزهما ما يشبه الاعتذار عن أطروحات التجديد الجذري التي صدرت عنهم في مراحل شبابهم، ونادت بالانضواء الصريح في الحداثة الفكرية، قبل أن يهدأ بركان الثورة ويعودون للتصالح مع السائد من بنى رمزية يتمركز المقدس في قلبها، وأفكار يتزايد حضور الموروث فيها. فمن الوضعية المنطقية، مثلاً، جرى الانتقال إلى النزعة التوفيقية. ومن نقد العقل العربي جرى الانتقال إلى تفسير القرآن. ومن تبجيل الغرب إلى حد التغريب، جرت محاولات لاكتشاف الشرق. ومن اليسار الماركسي جرى التحول إلى اليسار الإسلامي... إلخ. غير أن عمق تلك المراجعات، وأشكال الإفصاح عنها، اختلفا كثيراً بين هؤلاء المفكرين، فبعضها كان هادئاً ومنطقياً، وبعضها الآخر كان أشبه بانقلاب على الذات، اتسم بالعنف والراديكالية، الأمر الذي نفسره باختلاف دوافعهم التي نتوقف عند الأربعة الرئيسية منها:
الدافـع الأول معرفي، يتعلق إجمالاً بتراكم الخبرات الفكرية لدى المبدع مع كر سنوات العمر، الأمر الذي يدفع به إلى تعديل، بطيء وعميق، في رؤاه ومواقفه من القضايا الكبرى كالنهضة والحداثة والهوية، يميل به نحو الاعتدال، ما قد يعد دليلاً على نضوجه العقلي. هنا تكون المراجعات عميقة ومسؤولة، تجري على مهل، والأغلب أن تتوزع على مراحل تاريخية طويلة نسبياً، تكاد تكون أولاها غير ملحوظة أو مُعبر عنها صراحة، حيث تدور المراجعات في ذهن وخاطر المفكر نفسه، وإن أمكن لناقديه ومتابعي فكره أن يرصدوها، قبل أن تخرج في مراحلها التالية إلى العلن لتدور بينه وبين محيطه الثقافي. وفي كل الأحوال تبدو تلك المراجعات طبيعية ومقبولة، يتبنى معها المفكر المواقف الأكثر تركيباً ونسبية، مبتعداً بدرجة أو بأخرى عن الأفكار الأكثر راديكالية وإطلاقية، التي غالباً ما تجذبه وهو شاب، وهو أمر مفهوم يرتبط بمفهوم الحقيقة نفسه، باعتباره مفهوماً إنسانياً وتاريخياً، سواء تعلق بالعالم الطبيعي أو الواقع الاجتماعي، فمن كان يتصور في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم التاسع عشر، أن تقوم الفيزياء النسبية لأينشتين وماكس بلانك وفيرنر هيزنبرغ وما صاغته من رؤى للعالم تتسم بالديناميكية والاحتمالية، بتهديم قلاع الفيزياء الاستاتيكية لنيوتن وجاليليو، وما صاغته من رؤى للعالم تتسم بالسكونية والحتمية. بل إن تلك المراجعات تكون أحياناً مطلوبة، فليس متصوراً أن يولد المفكر مكتملاً، وأن يبقى قائماً على أفكاره الأولى، عصياً على التطور، ومن ثم فقد ينظر إليها كمعلم على حيوية الفكر الإنساني، وعلى موضوعية المفكر نفسه، الذي لا يمكن أن نطالبه بكتمان ما يمور بداخله من تحولات أو إدارة ظهره لما يتراكم في وعيه من خبرات.
والدافع الثاني وجـودي، حيث يسعى المفكر إلى التوافق مع المكونات الأساسية لهويته كلما طال به العمر وأشرف على الرحيل، بتأثير الخوف من الفناء. فرغم خضوع الإنسان، مثل جميع الكائنات، لقانون العدم، فإن ميزته الكبرى تكمن في أنه وحده يعي ذلك القانون، ويدرك المعنى الكامن وراءه، يعرف مغزى الموت ويستعد للقائه، سواء بثقة وهدوء أو بهلع وخوف. وربما يتعمق هذا الشعور عندما يرتبط بالرؤية الوجودية للأديان التوحيدية، وفي قلبها الإسلام، فجلها تربط نهاية التاريخ/ عالم الشهادة بحدث قيامي يمثل بداية لعالم الغيب، ويتمحور حوله مفهوم الخلاص الذاتي. في هذا السياق يمكن فهم النزوع إلى التصالح مع الدين، ولن نقول العودة إليه، لدى العديد من المفكرين في مرحلة العمر المتأخر، التي يبدو فيها الناس أكثر حرصاً على الإعداد لما بعد الحياة أكثر من التأسيس للحياة نفسها، وإن كانوا لا يقولون ذلك صراحة، بل يمارسونه من خلال آليات ذهنية نفسية، دفاعية وهروبية، يقومون معها بإعادة قراءة الماضي (التراث)، على ضوء هواجس المستقبل (العدم)، مع ما يقتضيه ذلك من القيام بتأويلات جديدة لمواقف فكرية كانوا قد عبروا عنها أو لأحداث تاريخية كانوا قد تمثلوها، ما يجعلهم أكثر توافقاً مع منطق أديانهم ومقتضى إيمانهم.
والدافـع الثالث سياسي يتعلق بموجات التحول العالمي، حيث أثارت نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروز الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى من داخل فضاء الحداثة الفكرية، ولكن من خارج إطار الليبرالية الغربية، أحلام الكثيرين من مثقفي العالم وشبابه، إمكانية نشوء عالم جديد خارج إطار المركزية الغربية، فانطلقت في كل أنحاء العالم موجة إعجاب بالماركسية، حيث بدا النموذج من بعيد ومن الخارج، جاذباً وجذاباً. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي بعد سبعة عقود تقريباً كان ذلك إيذاناً بهزيمة التجربة عالمياً، والنموذج إنسانياً. ولم يكن غريباً، والحال هكذا، أن تحدث مراجعات كبرى، وأن تشهد الثقافة العربية نكوص مثقفين كثر إلى مواقف رجعية قياساً إلى مواقفهم الأولى/ التقدمية، فتحرك البعض، مثلاً، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن القومية العربية إلى الإسلام السياسي، الذي وجدوا فيه طوق نجاة يمدهم بـعقيدة فكرية اعتادوا أن يقتاتوا عليها، وإن اختلف محتواها هذه المرة، فالوعي الشمولي ذو بنية متشابهة جوهرياً، وإن اختلفت ظاهرياً بين الآيديولوجي والديني. وحتى أولئك المفكرين القلائل الذين نجحوا في التخلص من النسق الاعتقادي والاندماج في الفكر الليبرالي، القائم على الفردنة والتنوع وقبول الاختلاف، فقد وقع بعضهم، في ظل غمرة حماسه وحرارة تحوله، في خطأ الأدلجة والقبول المطلق بالنموذج الليبرالي الغربي، إلى درجة الدفاع عن احتلال أميركا للعراق ومحاولة تسويغ ما أسمى بديمقراطية الدبابات.
أما الدافع الرابع فيراوح بين الانتهازية واليأس، فثمة من تحولوا جذرياً عن مواقف فكرية قديمة، وهاجموا سلطات سياسية كانوا قد ترعرعوا في ظلها واستمتعوا برعايتها، بذريعة أنهم لم يعرفوا خطاياها، وأنهم استعادوا للتو وعيهم المفقود، رغم أن ذلك لم يكن سوى استمارة التحاق بالحكم الجديد والتمتع بمظلة رعايته. وقد يحدث هذا الانقلاب أحياناً مدعوماً بقوة دفع اليأس، بعد هزيمة الأفكار الكبرى التي دافع عنها المفكر أو إخفاق التجربة السياسية التي تحمس لها. ومن ثم يبدأ في التكيف مع الواقع واللعب على المضمون، وانتهاز الفرصة لتحقيق مصالح شخصية بذريعة الواقعية، بعد أن فات قطار العمر دون تحقق الأحلام الكبرى، فإذا به يعيد تشكيل مواقفه الفردية التي ربما تعرض للإيذاء أو الإهمال بسببها. ولعل هذا هو حال المفكر الذي تشكل الأيديولوجية المكون الأساسي في تكوينه قياساً إلى المكون المعرفي، فالمثقف الحقيقي، ذو العقل النقدي، الطامح إلى مقاربة الحقيقة، لا يقع بسهولة في أسر الانتهازية واليأس.
وهكذا يتبدى مدى تعقيد وتشابك الدوافع الكامنة خلف ظاهرة التحولات الفكرية لدى مثقفين عرب كثر، لا يجب وضعهم جميعاً في سلة واحدة، بغية هجائهم، ولا حتى بهدف تقريظهم، بل لا بد من إعادة فحص أفكارهم ونقد تحولاتهم، للكشف عن مضموناتها المعرفية وسياقاتها التاريخية، ما يعطينا فهماً أفضل لحركة تاريخنا الفكري، وجدلية تطورنا الثقافي، وربما يجيب عن أحد أهم أسئلتنا: لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن، ولماذا ظلت أسئلته المطروحة عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين حول الهوية والنهضة والحداثة، هي نفسها عند مطلع الحادي والعشرين؟ غير أن لهذا حديثاً آخر يطول.
- كاتب وباحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!