لماذا يتراجع المفكرون العرب عن أطروحاتهم الحداثية ومواقفهم التقدمية؟

لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
TT

لماذا يتراجع المفكرون العرب عن أطروحاتهم الحداثية ومواقفهم التقدمية؟

لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)
لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن؟ (رويترز)

ثمة ظاهرة ثقافية عربية يمكن ملاحظتها بالعين المجردة، تتمثل في التحولات الفكرية التي خاضها آباء الفكر النهضوي وأرباب مشروعات التجديد الثقافي، خصوصاً من الجيلين الثاني والثالث (يمكن نسبة الجيل الأول إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والجيل الثاني إلى الفترة بين أوائل القرن العشرين وأربعيناته، أما الجيل الثالث فيمتد بين أربعيناته وتسعيناته). فبينما لم تكن الظاهرة واضحة لدى الجيل الأول، فقد تبدت جلية لدى الجيلين الأخيرين، اللذين قدم بعض رموزهما ما يشبه الاعتذار عن أطروحات التجديد الجذري التي صدرت عنهم في مراحل شبابهم، ونادت بالانضواء الصريح في الحداثة الفكرية، قبل أن يهدأ بركان الثورة ويعودون للتصالح مع السائد من بنى رمزية يتمركز المقدس في قلبها، وأفكار يتزايد حضور الموروث فيها. فمن الوضعية المنطقية، مثلاً، جرى الانتقال إلى النزعة التوفيقية. ومن نقد العقل العربي جرى الانتقال إلى تفسير القرآن. ومن تبجيل الغرب إلى حد التغريب، جرت محاولات لاكتشاف الشرق. ومن اليسار الماركسي جرى التحول إلى اليسار الإسلامي... إلخ. غير أن عمق تلك المراجعات، وأشكال الإفصاح عنها، اختلفا كثيراً بين هؤلاء المفكرين، فبعضها كان هادئاً ومنطقياً، وبعضها الآخر كان أشبه بانقلاب على الذات، اتسم بالعنف والراديكالية، الأمر الذي نفسره باختلاف دوافعهم التي نتوقف عند الأربعة الرئيسية منها:
الدافـع الأول معرفي، يتعلق إجمالاً بتراكم الخبرات الفكرية لدى المبدع مع كر سنوات العمر، الأمر الذي يدفع به إلى تعديل، بطيء وعميق، في رؤاه ومواقفه من القضايا الكبرى كالنهضة والحداثة والهوية، يميل به نحو الاعتدال، ما قد يعد دليلاً على نضوجه العقلي. هنا تكون المراجعات عميقة ومسؤولة، تجري على مهل، والأغلب أن تتوزع على مراحل تاريخية طويلة نسبياً، تكاد تكون أولاها غير ملحوظة أو مُعبر عنها صراحة، حيث تدور المراجعات في ذهن وخاطر المفكر نفسه، وإن أمكن لناقديه ومتابعي فكره أن يرصدوها، قبل أن تخرج في مراحلها التالية إلى العلن لتدور بينه وبين محيطه الثقافي. وفي كل الأحوال تبدو تلك المراجعات طبيعية ومقبولة، يتبنى معها المفكر المواقف الأكثر تركيباً ونسبية، مبتعداً بدرجة أو بأخرى عن الأفكار الأكثر راديكالية وإطلاقية، التي غالباً ما تجذبه وهو شاب، وهو أمر مفهوم يرتبط بمفهوم الحقيقة نفسه، باعتباره مفهوماً إنسانياً وتاريخياً، سواء تعلق بالعالم الطبيعي أو الواقع الاجتماعي، فمن كان يتصور في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم التاسع عشر، أن تقوم الفيزياء النسبية لأينشتين وماكس بلانك وفيرنر هيزنبرغ وما صاغته من رؤى للعالم تتسم بالديناميكية والاحتمالية، بتهديم قلاع الفيزياء الاستاتيكية لنيوتن وجاليليو، وما صاغته من رؤى للعالم تتسم بالسكونية والحتمية. بل إن تلك المراجعات تكون أحياناً مطلوبة، فليس متصوراً أن يولد المفكر مكتملاً، وأن يبقى قائماً على أفكاره الأولى، عصياً على التطور، ومن ثم فقد ينظر إليها كمعلم على حيوية الفكر الإنساني، وعلى موضوعية المفكر نفسه، الذي لا يمكن أن نطالبه بكتمان ما يمور بداخله من تحولات أو إدارة ظهره لما يتراكم في وعيه من خبرات.
والدافع الثاني وجـودي، حيث يسعى المفكر إلى التوافق مع المكونات الأساسية لهويته كلما طال به العمر وأشرف على الرحيل، بتأثير الخوف من الفناء. فرغم خضوع الإنسان، مثل جميع الكائنات، لقانون العدم، فإن ميزته الكبرى تكمن في أنه وحده يعي ذلك القانون، ويدرك المعنى الكامن وراءه، يعرف مغزى الموت ويستعد للقائه، سواء بثقة وهدوء أو بهلع وخوف. وربما يتعمق هذا الشعور عندما يرتبط بالرؤية الوجودية للأديان التوحيدية، وفي قلبها الإسلام، فجلها تربط نهاية التاريخ/ عالم الشهادة بحدث قيامي يمثل بداية لعالم الغيب، ويتمحور حوله مفهوم الخلاص الذاتي. في هذا السياق يمكن فهم النزوع إلى التصالح مع الدين، ولن نقول العودة إليه، لدى العديد من المفكرين في مرحلة العمر المتأخر، التي يبدو فيها الناس أكثر حرصاً على الإعداد لما بعد الحياة أكثر من التأسيس للحياة نفسها، وإن كانوا لا يقولون ذلك صراحة، بل يمارسونه من خلال آليات ذهنية نفسية، دفاعية وهروبية، يقومون معها بإعادة قراءة الماضي (التراث)، على ضوء هواجس المستقبل (العدم)، مع ما يقتضيه ذلك من القيام بتأويلات جديدة لمواقف فكرية كانوا قد عبروا عنها أو لأحداث تاريخية كانوا قد تمثلوها، ما يجعلهم أكثر توافقاً مع منطق أديانهم ومقتضى إيمانهم.
والدافـع الثالث سياسي يتعلق بموجات التحول العالمي، حيث أثارت نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروز الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى من داخل فضاء الحداثة الفكرية، ولكن من خارج إطار الليبرالية الغربية، أحلام الكثيرين من مثقفي العالم وشبابه، إمكانية نشوء عالم جديد خارج إطار المركزية الغربية، فانطلقت في كل أنحاء العالم موجة إعجاب بالماركسية، حيث بدا النموذج من بعيد ومن الخارج، جاذباً وجذاباً. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي بعد سبعة عقود تقريباً كان ذلك إيذاناً بهزيمة التجربة عالمياً، والنموذج إنسانياً. ولم يكن غريباً، والحال هكذا، أن تحدث مراجعات كبرى، وأن تشهد الثقافة العربية نكوص مثقفين كثر إلى مواقف رجعية قياساً إلى مواقفهم الأولى/ التقدمية، فتحرك البعض، مثلاً، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن القومية العربية إلى الإسلام السياسي، الذي وجدوا فيه طوق نجاة يمدهم بـعقيدة فكرية اعتادوا أن يقتاتوا عليها، وإن اختلف محتواها هذه المرة، فالوعي الشمولي ذو بنية متشابهة جوهرياً، وإن اختلفت ظاهرياً بين الآيديولوجي والديني. وحتى أولئك المفكرين القلائل الذين نجحوا في التخلص من النسق الاعتقادي والاندماج في الفكر الليبرالي، القائم على الفردنة والتنوع وقبول الاختلاف، فقد وقع بعضهم، في ظل غمرة حماسه وحرارة تحوله، في خطأ الأدلجة والقبول المطلق بالنموذج الليبرالي الغربي، إلى درجة الدفاع عن احتلال أميركا للعراق ومحاولة تسويغ ما أسمى بديمقراطية الدبابات.
أما الدافع الرابع فيراوح بين الانتهازية واليأس، فثمة من تحولوا جذرياً عن مواقف فكرية قديمة، وهاجموا سلطات سياسية كانوا قد ترعرعوا في ظلها واستمتعوا برعايتها، بذريعة أنهم لم يعرفوا خطاياها، وأنهم استعادوا للتو وعيهم المفقود، رغم أن ذلك لم يكن سوى استمارة التحاق بالحكم الجديد والتمتع بمظلة رعايته. وقد يحدث هذا الانقلاب أحياناً مدعوماً بقوة دفع اليأس، بعد هزيمة الأفكار الكبرى التي دافع عنها المفكر أو إخفاق التجربة السياسية التي تحمس لها. ومن ثم يبدأ في التكيف مع الواقع واللعب على المضمون، وانتهاز الفرصة لتحقيق مصالح شخصية بذريعة الواقعية، بعد أن فات قطار العمر دون تحقق الأحلام الكبرى، فإذا به يعيد تشكيل مواقفه الفردية التي ربما تعرض للإيذاء أو الإهمال بسببها. ولعل هذا هو حال المفكر الذي تشكل الأيديولوجية المكون الأساسي في تكوينه قياساً إلى المكون المعرفي، فالمثقف الحقيقي، ذو العقل النقدي، الطامح إلى مقاربة الحقيقة، لا يقع بسهولة في أسر الانتهازية واليأس.
وهكذا يتبدى مدى تعقيد وتشابك الدوافع الكامنة خلف ظاهرة التحولات الفكرية لدى مثقفين عرب كثر، لا يجب وضعهم جميعاً في سلة واحدة، بغية هجائهم، ولا حتى بهدف تقريظهم، بل لا بد من إعادة فحص أفكارهم ونقد تحولاتهم، للكشف عن مضموناتها المعرفية وسياقاتها التاريخية، ما يعطينا فهماً أفضل لحركة تاريخنا الفكري، وجدلية تطورنا الثقافي، وربما يجيب عن أحد أهم أسئلتنا: لماذا راوح الفكر العربي في مكانه طيلة أكثر من قرن، ولماذا ظلت أسئلته المطروحة عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين حول الهوية والنهضة والحداثة، هي نفسها عند مطلع الحادي والعشرين؟ غير أن لهذا حديثاً آخر يطول.
- كاتب وباحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.