مجلس الصحافة المغربي... ولاية أولى تحت المحك

في أفق تجديد هياكله نهاية 2022

نور الدين مفتاح
نور الدين مفتاح
TT

مجلس الصحافة المغربي... ولاية أولى تحت المحك

نور الدين مفتاح
نور الدين مفتاح

في أفق تجديد هياكل المجلس الوطني للصحافة بالمغرب - المقرر نهاية السنة الحالية - تكون هذه التجربة الأولى في مجال التنظيم الذاتي محكا حقيقيا للوقوف على ما راكمته من إيجابيات وما أفرزته من سلبيات، وهذا مع الأخذ في الاعتبار التحولات الإعلامية على المستوى الوطني والدولي، والمتغيرات التي تعرفها الممارسة الصحافية وسط تحديات ورهانات الثورة التكنولوجية وتأثيراتها على مستقبل أداء مهنة الصحافة والإعلام وصناعتها.
يعتبر المجلس الوطني للصحافة في المغرب مؤسسة وطنية مستقلة، أنيط بها مهام التنظيم الذاتي لقطاع الصحافة والنشر، ومنح بطاقة الصحافة المهنية، ووضع ميثاق أخلاقيات المهنة، والقيام بدور التحكيم والوساطة في النزاعات القائمة بين المهنيين أو بين هؤلاء والأغيار. ويضاف إلى ذلك إبداء الرأي بشأن مشاريع القوانين والمراسيم المتعلقة بالمهنة أو بممارستها، واقتراح الإجراءات التي من شأنها تطوير قطاع الصحافة والنشر وإعداد الدراسات المرتبطة بهما وبمخططات تأهيل القطاع.
يونس مجاهد، رئيس المجلس الوطني للصحافة، لفت في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن المجلس بهذه الصلاحيات الواسعة هو «الهيئة الوحيدة على المستوى العالمي التي تتوافر على مثل هذه الصلاحيات مجتمعة»، بخلاف التجارب المماثلة التي تكون فيها هذه الصلاحيات موزعة على هيئات متعددة.
وحقاً، يتألف المجلس الوطني للصحافة من 21 عضوا منهم سبعة أعضاء، ينتخبهم الصحافيون المهنيون، والعدد نفسه ينتخبهم ناشرو الصحف، بينما يمثل سبعة أعضاء هيئات قضائية وحقوقية وثقافية وناشر سابق تعينه هيئة الناشرين الأكثر تمثيلاً، وصحفي شرفي تعينه نقابة الصحافيين الأكثر تمثيلية.

                                                        عبد الكبير خشيشن

حصيلة إيجابية
ووصف مجاهد، وهو أيضا رئيس سابق للاتحاد الدولي للصحافيين، حصيلة المجلس الوطني للصحافة بأنها «إيجابية جدا» على الرغم من الصعوبات التي واجهته وبينها تداعيات جائحة كوفيد-19، والزمن الذي استغرقه وضع أسس التنظيم والهيكلة وإعداد القانون الداخلي ومساطر العمل واللوجستيك وتكوين وتأهيل الأطر الإدارية.
وجهة نظر مجاهد يتقاسمها معه نور الدين مفتاح، رئيس الفيدرالية المغربية للصحف، ورئيس لجنة المنشآت الصحافية وتأهيل القطاع بالمجلس، إذ قال لـ«الشرق الأوسط» إن حصيلة المجلس «على العموم كانت إيجابية، خاصة على مستوى ضمان الخدمات الرئيسة التي ينص عليها قانونه الأساسي». وأشار إلى أن المرحلة كانت محكومة ومطوقة بالانكباب على وضع اللبنات الأولى لهذا النموذج الجديد، وبعدها الشروع في ممارسة الصلاحيات التي خولها له القانون.

                                                                               يونس مجاهد
ثمرة نضال نقابي طويل
أما عبد الكبير خشيشن، رئيس المجلس الفيدرالي للنقابة الوطنية للصحافة، فشدد خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» على ضرورة استحضار «ظروف وسياقات تأسيس هذه التجربة في مجال التنظيم الذاتي لمهنة الصحافة، والتي كانت ثمرة نضال نقابي امتد لعقود». وأردف «نحن ننظر بعين الرضا لانتزاع هذا المكسب أولاً... وثانياً يمكن اعتبار تدبير المجلس لعدد من القضايا التي يعود الاختصاص له فيها، بأنه لا بأس به»، كوضع ميثاق أخلاقيات المهنة، والبت في عدد من القضايا الخلافية، والتصدي لبعض الخروقات التي طالت المهنة.
بيد أنه وإن كانت غالبية مكونات المجلس، تجمع على «إيجابية حصيلة المجلس»، يلاحَظ وجود اختلاف في توقيت إصلاح وتعديل قوانين المجلس، إذ إن هناك من يطالب بإجراء انتخابات المجلس في موعدها، بينما يرى آخرون تأجيلها وإعطاء الأولوية لإصلاح وتعديل قوانين وتنظيمات المجلس... من أجل سد الثغرات التي جرى الوقوف عليها خلال المرحلة التأسيسية. إلى جانب ذلك، تتباين مواقف الهيئات والتنظيمات الصحافية. فالفيدرالية المغربية لناشري الصحف تدعو إلى الإسراع بتشكيل لجنة الإشراف على انتخابات المجلس الوطني للصحافة، الذي ستنتهي ولايته القانونية في آخر سبتمبر (أيلول) المقبل، وفي المقابل تطالب الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين، بـ«تعديل الإطار القانوني للمجلس، عبر إدخال مجموعة من التعديلات الهيكلية عليه، والتركيز على الآليات القانونية الملائمة للنهوض بالحقل الإعلامي لحماية المكتسبات وتطوير أوراش قانونية للرقي بالقطاع في تناغم مع الوزارة الوصية والقطاعات المشاركة».

                                                                                إدريس جبري
أما النقابة الوطنية للصحافة المغربية فترى أن «التنظيم الذاتي يعد مكسبا للمهنة في المغرب، وبالتالي، يجب المحافظة عليه بنفس إيجابي... وأن أي انتقاد يظل مشروعا، لكن يجب أن يصب في تطوير الآليات التنظيمية للمجلس بعيدا عن المزايدات التي قد تضر بمهنة تعاني أصلا من هشاشة مزمنة». وفي السياق ذاته، عبّر مفتاح عن اعتقاده الراسخ بأن الانكباب على مراجعة القوانين والمساطر، يوجب أن توكل مسؤولية القيام بها إلى المجلس المقبل الذي تفرزه الانتخابات المقبلة «لإعطاء التنظيم الذاتي قوة وجود وهيبة واحتراما وشرعية متجددة». أما مجاهد فيوضح أن «النقاش مطروح الآن حول مجمل الإشكاليات القانونية، التي أفرزتها الممارسة العملية للمجلس، والتي سيكون من الإيجابي إيجاد حل لها قبل الانتخابات المقبلة».

من أجل بيئة ملائمة
من ناحية أخرى، رغم كل الإيجابيات التي راكمها المجلس، يستدرك خشيشن قائلاً «لنكون منصفين وواضحين... لا يجوز أن تنسينا هذه الإيجابيات تقويم كل العيوب التي ظهرت في القوانين الثلاثة (قانون الصحافة والنشر، والقانون الصحفي المهني، وقانون المجلس الوطني للصحافة)، وقبل كل شيء توفير بيئة مهنية تحفظ للصحافيات والصحافيين كرامتهم، مع إعمال القانون لضبط المهنة، من دون إغفال إشكالية التكوين والتكوين المستمر التي تعد رهانا مركزيا للرفع من الأداء المهني لتحصين المهنة في زمن وصلت فيه التفاهة حدا لا يطاق». ومن ثم دعا إلى «معالجة حالات القصور التي ظهرت خلال الممارسة، ليس فقط، في القانون المنظم للمجلس، بل أيضاً في حزمة القوانين المنظمة للمهنة، بهدف إصلاح هذه الأعطاب بسرعة كي تكون الولاية المقبلة متحررة من السلبيات».
وفي معرض رده على سؤال حول المعوقات التي صادفت المجلس خلال ولايته الأولى، قال يونس مجاهد «وجدنا خلال هذه التجربة الفتية عند التطبيق عدة ثغرات في قوانين المجلس، وكذلك تناقضات في بعض النصوص والمقتضيات. وهو ما لم يسعفنا في إنجاز عدد من المهام المنوطة بنا... وهذا الأمر يتطلب العمل على تعديل هذه التشريعات التي هي اختصاص خالص للحكومة».
أما مفتاح فلاحظ أن هذه الولاية «كان ينقصها اقتحام البيئة التي يشتغل فيها هذا الاطار المهني الجديد». وأردف «لم تكن هناك الليونة الكافية في التعامل مع الشركاء المفترضين، نتيجة عدم التوافر على السلطة المعنوية القوية اللازمة» التي تمكنه من النجاح في أداء مهمته كاطار للحكماء، للتأثير بالشكل المطلوب في المشهد الإعلامي الوطني، وليس فقط باللجوء الى الزجر وفق ما ينص عليه القانون. ولئن كان خشيشن قد أبرز أن تنزيل اختصاصات المجلس الوطني للصحافة سمح بـ»رصد كثرة من العيوب التي يجب تصحيحها في المراحل المقبلة»، فإن مفتاح أكد بالمقابل أن تجربة المجلس كشفت «غموض فصول من القانون، وتعقيدات بعض المساطر.. كتلك المتعلقة بالتحكيم والتأديب والتصدي التلقائي للمجلس للقضايا المطروحة في الساحة الإعلامية».

توافقات لتطوير المهنة
نا يقر مجاهد - وهو أيضا الرئيس السابق للنقابة الوطنية للصحافة المغربية – بأنه «على الرغم من أن هذه التجربة كانت متميزة، فإن تقييمها ومراجعتها بموضوعية، يظلان مسألة حيوية ومطلوبة بالنسبة لكل مكونات المهنيين»، في حين يرى خشيشن أن الأولوية «يجب أن تنصب على توافقات تطوير المهنة والمهنيين، بروح وحدوية... إذ لا يعقل أن نترك المعضلة التي تواجه القطاع، والتي تعمقت مع جائحة كوفيد-19، ونترك كل مظاهر التسيب والتقهقر في المهنة، لنتفرغ لأوهام وصراعات تمثيلية منقوصة». ويذكر هنا أن عدد الصحافيين المهنيين الحاصلين على بطاقة الصحافة التي يمنحها المجلس يبلغ 3394 صحافياً وصحافية، الثلثان منهم يعملون في وسائل الإعلام العمومي.
غير أن إدريس جبري، الأستاذ الباحث في الصحافة والإعلام قال لـ«الشرق الأوسط» إنه باستحضار التحديات المرتقبة في القطاع الصحافي والإعلامي والعاملين به - وبضمنها الثورة الرقمية التي أصبحت تقلص من مساحات المهنيين أنفسهم، إلى جانب التقلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية السريعة في المغرب ومحيطه العالمي - «نضع أيدينا على قلوبنا بشأن مصير الصحافة والصحافيين، وندرك حجم التحديات التي تنتظر المجلس الوطني للصحافة... سواء المرتبطة بحقوق المواطنين في إعلام تعددي ومهني أو المتعلقة بحقوق الصحافيين المهنية والاقتصادية»، مشيرا إلى أن كل ذلك وغيره من الرهانات الكبرى ينبغي لمكونات المجلس المقبل استحضارها أفقا للتفكير.
وهكذا، تبقى الأسئلة التي يطرحها عدد من الفاعلين في الوسط الإعلامي مشروعة، خاصة ما يرتبط منها بمدى نجاح تجربة التنظيم الذاتي في قطاع لا يمكن أن يتنفس إلا في ظل أجواء الحرية والاستقلالية والنزاهة والتضامن، ويترفع فيه الجميع عن كل الاصطفافات والطروحات والمصالح الفئوية والذاتية، وينفذ إلى عمق التحديات التي تفرضها طبيعة المرحلة الدقيقة التي تجتازها الصحافة المغربية حاليا.


مقالات ذات صلة

إشادة أميركية بالتزام العاهل المغربي «تعزيز السلام»

الولايات المتحدة​ إشادة أميركية بالتزام العاهل المغربي «تعزيز السلام»

إشادة أميركية بالتزام العاهل المغربي «تعزيز السلام»

أشاد وفد من الكونغرس الأميركي، يقوده رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأميركي مايك روجرز، مساء أول من أمس في العاصمة المغربية الرباط، بالتزام الملك محمد السادس بتعزيز السلام والازدهار والأمن في المنطقة والعالم. وأعرب روجرز خلال مؤتمر صحافي عقب مباحثات أجراها مع وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، عن «امتنانه العميق للملك محمد السادس لالتزامه بتوطيد العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والمغرب، ولدوره في النهوض بالسلام والازدهار والأمن في المنطقة وحول العالم».

«الشرق الأوسط» (الرباط)
شمال افريقيا ترحيب مغربي بإقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية

ترحيب مغربي بإقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية

أعلن بيان للديوان الملكي المغربي، مساء أول من أمس، أن الملك محمد السادس تفضل بإقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها، على غرار فاتح (أول) محرم من السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية. وجاء في البيان أن العاهل المغربي أصدر توجيهاته إلى رئيس الحكومة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل هذا القرار الملكي. ويأتي هذا القرار تجسيداً للعناية الكريمة التي يوليها العاهل المغربي للأمازيغية «باعتبارها مكوناً رئيسياً للهوية المغربية الأصيلة الغنية بتعدد روافدها، ورصيداً مشتركاً لجميع المغاربة دون استثناء».

«الشرق الأوسط» (الرباط)
شمال افريقيا أعضاء «الكونغرس» الأميركي يشيدون بالتزام العاهل المغربي بـ«تعزيز السلام»

أعضاء «الكونغرس» الأميركي يشيدون بالتزام العاهل المغربي بـ«تعزيز السلام»

أشاد وفد من الكونغرس الأميركي، يقوده رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، مايك روجرز، مساء أمس، في العاصمة المغربية الرباط، بالتزام الملك محمد السادس بتعزيز السلام والازدهار والأمن في المنطقة والعالم. وأعرب روجرز، خلال مؤتمر صحافي، عقب محادثات أجراها مع وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي والمغاربة المقيمين في الخارج، ناصر بوريطة، عن «امتنانه العميق للملك محمد السادس لالتزامه بتوطيد العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والمغرب، ولدوره في النهوض بالسلام والازدهار والأمن في المنطقة وحول العالم»، مبرزاً أن هذه المحادثات شكلت مناسبة للتأكيد على الدور الجوهري للمملكة، باعتبارها شريكاً للول

«الشرق الأوسط» (الرباط)
شمال افريقيا حزبان معارضان يبحثان تدهور القدرة الشرائية للمغاربة

حزبان معارضان يبحثان تدهور القدرة الشرائية للمغاربة

عقد حزبا التقدم والاشتراكية اليساري، والحركة الشعبية اليميني (معارضة برلمانية) المغربيين، مساء أول من أمس، لقاء بالمقر الوطني لحزب التقدم والاشتراكية في الرباط، قصد مناقشة أزمة تدهور القدرة الشرائية للمواطنين بسبب موجة الغلاء. وقال الحزبان في بيان مشترك إنهما عازمان على تقوية أشكال التنسيق والتعاون بينهما على مختلف الواجهات السياسية والمؤسساتية، من أجل بلورة مزيد من المبادرات المشتركة في جميع القضايا، التي تستأثر باهتمام الرأي العام الوطني، وذلك «من منطلق الدفاع عن المصالح الوطنية العليا للبلاد، وعن القضايا الأساسية لجميع المواطنات والمواطنين».

«الشرق الأوسط» (الرباط)
شمال افريقيا عائلات مغربية تحتج لمعرفة مصير أبنائها المفقودين والمحتجزين

عائلات مغربية تحتج لمعرفة مصير أبنائها المفقودين والمحتجزين

دعت «تنسيقية أسر وعائلات الشبان المغاربة المرشحين للهجرة المفقودين» إلى تنظيم وقفة مطلبية اليوم (الخميس) أمام وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي بالرباط، تحت شعار «نضال مستمر من أجل الحقيقة كاملة وتحقيق العدالة والإنصاف»، وذلك «لتسليط الضوء» على ملف أبنائها المفقودين والمحتجزين ببعض الدول. وتحدث بيان من «التنسيقية» عن سنوات من المعاناة وانتظار إحقاق الحقيقة والعدالة، ومعرفة مصير أبناء الأسر المفقودين في ليبيا والجزائر وتونس وفي الشواطئ المغربية، ومطالباتها بالكشف عن مصير أبنائها، مع طرح ملفات عدة على القضاء. وجدد بيان الأسر دعوة ومطالبة الدولة المغربية ممثلة في وزارة الشؤون الخارجية والتع

«الشرق الأوسط» (الرباط)

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
TT

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر حدودي حيوي؛ ما يؤدي فعلياً إلى قطع المساعدات عن مئات الآلاف من الناس الذين يعانون من المجاعة في أوج الحرب الأهلية. ويحذّر الخبراء من أن السودان، الذي بالكاد يُسيّر أموره بعد 15 شهراً من القتال، قد يواجه قريباً واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود. ولكن رفْض الجيش السوداني السماح لقوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة بالمرور عبر المعبر يقوّض جهود الإغاثة الشاملة، التي تقول جماعات الإغاثة إنها ضرورية للحيلولة دون مئات الآلاف من الوفيات (ما يصل إلى 2.5 مليون شخص، حسب أحد التقديرات بحلول نهاية العام الحالي).

ويتعاظم الخطر في دارفور، المنطقة التي تقارب مساحة إسبانيا، والتي عانت من الإبادة الجماعية قبل عقدين من الزمان. ومن بين 14 ولاية سودانية معرّضة لخطر المجاعة، تقع 8 منها في دارفور، على الجانب الآخر من الحدود التي تحاول الأمم المتحدة عبورها، والوقت ينفد لمساعدتها.

نداءات عاجلة

ويقع المعبر الحدودي المغلق -وهو موضع نداءات عاجلة وملحة من المسؤولين الأميركيين- في أدري، وهو المعبر الرئيسي من تشاد إلى السودان. وعلى الحدود، إذ لا يزيد الأمر عن مجرد عمود خرساني في مجرى نهر جاف، يتدفق اللاجئون والتجار والدراجات النارية ذات العجلات الأربع التي تحمل جلود الحيوانات، وعربات الحمير المحملة ببراميل الوقود.

رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

لكن ما يُمنع عبوره إلى داخل السودان هو شاحنات الأمم المتحدة المليئة بالطعام الذي تشتد الحاجة إليه في دارفور؛ إذ يقول الخبراء إن هناك 440 ألف شخص على شفير المجاعة بالفعل. والآن، يقول اللاجئون الفارّون من دارفور إن الجوع، وليس الصراع، هو السبب الرئيسي وراء رحيلهم. السيدة بهجة محكر، وهي أم لثلاثة أطفال، أصابها الإعياء تحت شجرة بعد أن هاجرت أسرتها إلى تشاد عند معبر «أدري». وقالت إن الرحلة كانت مخيفة للغاية واستمرت 6 أيام، من مدينة الفاشر المحاصرة وعلى طول الطريق الذي هددهم فيه المقاتلون بالقضاء عليهم.

دهباية وابنها النحيل مؤيد صلاح البالغ من العمر 20 شهراً في مركز علاج سوء التغذية بأدري (نيويورك تايمز)

لكن الأسرة شعرت بأن لديها القليل للغاية من الخيارات. قالت السيدة محكر، وهي تشير إلى الأطفال الذين يجلسون بجوارها: «لم يكن لدينا ما نأكله». وقالت إنهم غالباً ما يعيشون على فطيرة واحدة في اليوم.

الجيش: معبر لتهريب الأسلحة

وكان الجيش السوداني قد فرض قراراً بإغلاق المعبر منذ 5 أشهر، بدعوى حظر تهريب الأسلحة. لكن يبدو أن هذا لا معنى له؛ إذ لا تزال الأسلحة والأموال تتدفق إلى السودان، وكذلك المقاتلون، من أماكن أخرى على الحدود الممتدة على مسافة 870 ميلاً، التي يسيطر عليها في الغالب عدوه، وهو «قوات الدعم السريع».

لاجئون فرّوا حديثاً من منطقة في دارفور تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في مخيم بتشاد (نيويورك تايمز)

ولا يسيطر الجيش حتى على المعبر في أدري، إذ يقف مقاتلو «قوات الدعم السريع» على بُعد 100 متر خلف الحدود على الجانب السوداني. وعلى الرغم من ذلك، تقول الأمم المتحدة إنها يجب أن تحترم أوامر الإغلاق من الجيش، الذي يتخذ من بورتسودان مقراً له على بُعد 1000 ميل إلى الشرق، لأنه السلطة السيادية في السودان. وبدلاً من ذلك، تضطر الشاحنات التابعة للأمم المتحدة إلى القيام برحلة شاقة لمسافة 200 ميل شمالاً إلى معبر «الطينة»، الذي تسيطر عليه ميليشيا متحالفة مع الجيش السوداني؛ إذ يُسمح للشاحنات بدخول دارفور. هذا التحول خطير ومكلّف، ويستغرق ما يصل إلى 5 أضعاف الوقت الذي يستغرقه المرور عبر «أدري». ولا يمر عبر «الطينة» سوى جزء يسير من المساعدات المطلوبة، أي 320 شاحنة منذ فبراير (شباط)، حسب مسؤولين في الأمم المتحدة، بدلاً من آلاف شاحنات المساعدات الضرورية التي يحتاج الناس إليها. وقد أُغلق معبر «الطينة» أغلب أيام الأسبوع الحالي بعد أن حوّلت الأمطار الموسمية الحدود إلى نهر.

7 ملايين مهددون بالجوع

وفي الفترة بين فبراير (شباط)، عندما أُغلق معبر «أدري» الحدودي، ويونيو (حزيران)، ارتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع من 1.7 مليون إلى 7 ملايين شخص. وقد تجمّع اللاجئون الذين وصلوا مؤخراً على مشارف مخيم أدري، في حين انتظروا تسجيلهم وتخصيص مكان لهم. ومع اقتراب احتمالات حدوث مجاعة جماعية في السودان، أصبح إغلاق معبر «أدري» محوراً أساسياً للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، كبرى الجهات المانحة على الإطلاق، من أجل تكثيف جهود المساعدات الطارئة. وصرّحت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مؤخراً للصحافيين: «هذه العرقلة غير مقبولة على الإطلاق».

أحد مراكز سوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في أدري إذ يُطبّب طفل من جرح ملتهب في ذراعه ناجم عن العلاج الوريدي المستمر لسوء التغذية (نيويورك تايمز)

وكان إيصال المساعدات إلى دارفور صعباً حتى قبل الحرب. وتقع أدري تقريباً على مسافة متساوية من المحيط الأطلسي إلى الغرب والبحر الأحمر إلى الشرق، أي نحو 1100 ميل من الاتجاهين. فالطرق مليئة بالحفر، ومتخمة بالمسؤولين الباحثين عن الرشوة، وهي عُرضة للفيضانات الموسمية. وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن الشاحنة التي تغادر ميناء «دوالا» على الساحل الغربي للكاميرون تستغرق نحو 3 أشهر للوصول إلى الحدود السودانية. ولا يقتصر اللوم في المجاعة التي تلوح في الأفق على الجيش السوداني فحسب، فقد مهّدت «قوات الدعم السريع» الطريق إليها أيضاً، إذ شرع مقاتلو «الدعم السريع»، منذ بدء الحرب في أبريل (نيسان) 2023 في تهجير ملايين المواطنين من منازلهم، وحرقوا مصانع أغذية الأطفال، ونهبوا قوافل المساعدات. ولا يزالون يواصلون اجتياح المناطق الغنية بالغذاء في السودان، التي كانت من بين أكثر المناطق إنتاجية في أفريقيا؛ ما تسبّب في نقص هائل في إمدادات الغذاء.

استجابة دولية هزيلة

وكانت الاستجابة الدولية لمحنة السودان هزيلة إلى حد كبير، وبطيئة للغاية، وتفتقر إلى الإلحاح.

في مؤتمر عُقد في باريس في أبريل، تعهّد المانحون بتقديم ملياري دولار مساعدات إلى السودان، أي نصف المبلغ المطلوب فقط، لكن تلك التعهدات لم تُنفذ بالكامل. وفي مخيمات اللاجئين المزدحمة في شرق تشاد، يُترجم الافتقار للأموال إلى ظروف معيشية بائسة. وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، التي تدير مخيمات اللاجئين في تشاد، إن عملياتها ممولة بنسبة 21 في المائة فقط في شهر يونيو. وقد اضطر برنامج الأغذية العالمي مؤخراً إلى خفض الحصص الغذائية، إثر افتقاره إلى الأموال.

يعيش ما يقرب من 200 ألف شخص في مخيم أدري الذي يمتد إلى الصحراء المحيطة حيث المأوى نادر ولا يوجد ما يكفي من الطعام أو الماء (نيويورك تايمز)

ومع هطول الأمطار بغزارة، جلست عائشة إدريس (22 عاماً)، تحت غطاء من البلاستيك، تمسّكت به بقوة في وجه الرياح، في حين كانت تُرضع ابنتها البالغة من العمر 4 أشهر. وكان أطفالها الثلاثة الآخرون جالسين بجوارها، وقالت: «نحن ننام هنا»، مشيرة إلى الأرض المبتلة بمياه الأمطار. لم يكن هناك سوى 3 أسرّة خالية في مركز لسوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود»، وكان ممتلئاً بالرضع الذين يعانون من الجوع. وكان أصغرهم يبلغ من العمر 33 يوماً، وهي فتاة تُوفيت والدتها في أثناء الولادة. في السرير التالي، كان الطفل مؤيد صلاح، البالغ من العمر 20 شهراً، الذي كان شعره الرقيق وملامحه الشاحبة من الأعراض المعروفة لسوء التغذية، قد وصل إلى تشاد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أن اقتحم مسلحون منزل أسرته في الجنينة، عبر الحدود في دارفور، وقتلوا جده. وقالت السيدة دهباية، والدة الطفل مؤيد: «لقد أردوه قتيلاً أمام أعيننا». والآن، صار كفاحهم من أجل البقاء على قيد الحياة بفضل حصص الأمم المتحدة الضئيلة. ثم قالت، وهي تضع ملعقة من الحليب الصناعي في فم طفلها: «أياً كان ما نحصل عليه، فهو ليس كافياً بالمرة».

سفير سوداني: المساعدات مسيّسة

وفي مقابلة أُجريت معه، دافع الحارث إدريس الحارث محمد، السفير السوداني لدى الأمم المتحدة، عن إغلاق معبر «أدري»، مستشهداً بالأدلة التي جمعتها الاستخبارات السودانية عن تهريب الأسلحة.

مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن (أ.ب)

وقال إن الأمم المتحدة «سعيدة» بترتيب توجيه الشاحنات شمالاً عبر الحدود في الطينة. وأضاف أن الدول الأجنبية التي تتوقع مجاعة في السودان تعتمد على «أرقام قديمة»، وتسعى إلى إيجاد ذريعة «للتدخل الدولي». ثم قال: «لقد شهدنا تسييساً متعمّداً ودقيقاً للمساعدات الإنسانية إلى السودان من الجهات المانحة». وفي معبر أدري، يبدو عدم قدرة الجيش السوداني على السيطرة على أي شيء يدخل البلاد واضحاً بشكل صارخ. وقال الحمّالون، الذين يجرّون عربات الحمير، إنهم يُسلّمون مئات البراميل من البنزين التي تستهلكها سيارات الدفع الرباعي التابعة لـ«قوات الدعم السريع»، التي عادة ما تكون محمّلة بالأسلحة.

*خدمة نيويورك تايمز