هل يستطيع الناس المختلفون أن يتعايشوا في المدينة الواحدة؟

لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
TT

هل يستطيع الناس المختلفون أن يتعايشوا في المدينة الواحدة؟

لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس
لندن من المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس

تحمل مُدنُنا الإنسانيّة المعاصرة سماتِ التراث الذي نشأت عليه، وبه انطبعت انطباعاً عميقاً، وفيه اختبرت ضروباً شتّى من النموّ والتطوّر. ولكنّنا نراها اليوم تُشرّع أبوابَها لاستضافة أفرادٍ يأتون إليها من كلّ حدب وصوب، إما للسياحة، وإما للتجارة، وإما للتقابس الفكريّ، وإما للإقامة الموقّتة أو الدائمة. لا شكّ في أنّ لكلّ مدينة من مُدننا طابعها التراثي المقترن بهويّتها الثقافيّة الخاصّة. لذلك يلاحظ المرءُ الإرباك الذي ينتاب الضيوف حين يَطؤون أرض الغربة، سواء في الشرق أو في الغرب. فالشرقي الذي يَقصد مُدنَ الغرب يندهش اندهاشاً عظيماً حين يعاين مقدار الاختلافات التي تجعله يفكّر تفكيراً مليّاً في إمكانات تكيّفه وتأقلمه وانسلاكه الهني في المجتمع المستضيف.
شهيرة المفاتحات التي أسرَّ بها إليها الأديب المصري رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». ومعروفة الملاحظات اللغويّة التي دوّنها العلّامة اللبناني إبراهيم اليازجي (1847-1906) في مجلّة «الضياء» المصريّة، حين أدرك عجز اللغة العربيّة عن وصف أدقّ عناصر الآلات التقنيّة الغربيّة، والإتيان باصطلاحات ومرادفات عربيّة ملائمة تفي بأغراض الإبانة الصحيحة. ولا يخفى على أحد التأثير الطيّب الذي خلّفه أدبُ الرحلة في ذاكرة الشعوب. غالباً ما أستمتع بالصوَر المبدعة التي رسمها الشاعر الفرنسي لامارتين (1790-1869) في وصف رحلته اللبنانيّة (1832)، أو الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة (1889-1888) في الإفصاح عن أحاسيس وجدانه أثناء ترحالاته الروسيّة والفرنسيّة والأميركيّة. لا عجب، من ثمّ، أن يتكرّر السؤال، على سبيل المثال، عن كيفيّة استضافة البلدان الإسلاميّة الأجانبَ الذين يأتون إليها. من المصادفات الباعثة على التفكير أن يسأل المرء اليوم: كيف ستستقبل الدوحة الجموع الغفيرة التي ستنزل في ضيافتها لمناسبة العُرس الكروي العالميّ، حاملة إليها أعرافها وتقاليدها وممارساتها التي تخالف تراث المدينة، وأحكامها المتعلّقة بشرب الكحول، والاحتفالات الليليّة الصاخبة، والمخالطات التغازلية العفويّة.
لا بدّ، والحال هذه، من الاستفسار عن إمكانات المعايشة التمايزيّة في نطاق المدينة الإنسانيّة المعاصرة الواحدة، سواء في الشرق أو في الغرب. إذا كان لكلّ مدينة من مُدننا هويّتها الثقافيّة، وخصوصيّتها التراثيّة، ومُستنداتها الأخلاقيّة، وخلفيّاتها الروحيّة، وأحكامها التشريعيّة، وأعرافها المسلكيّة، فهل يستطيع الناسُ الضيوفُ الذين لا يؤيّدون هذه التصوّرات أن يحيوا فيها حياة سلميّة هادئة؟ إذا اقتصرت الإقامة على بضعة أيّام، أمكننا أن نغضّ الطرف، وأن نستمتع بالغربة الثقافيّة استمتاعاً استثنائيّاً. أما إذا تحوّلت الزيارة إلى سكنٍ دائمٍ، فهل نستطيع أن نتعايش والأقوام الذين يختلفون عنا في مَعشرهم وملبسهم ومأكلهم ومسلكهم ومعبدهم ومفهومهم الثقافي الأرحب؟
من السؤال الثقافي المربك هذا تنبثق استفساراتٌ أخرى: هل يحقّ للضيف أن يبدّل في هويّة المضيف الثقافيّة؟ هل يجوز أن يظلّ الضيفُ المقيمُ على حال التريّث والامتناع عن التأقلم حتّى تتبدّل الأمورُ؟ ما حدود التغيير الذي يمكن أن يتصوّره المرءُ حين يفترض أنّ الغربة تُفضي حتماً إلى التفاعل الثقافي البنّاء، فتُبدّل في الضيف وفي المضيف على حدٍّ سواء؟ متى يصبح الضيف من أهل البيت؟ وما معايير الاندماج الثقافي الحقّ؟
من شروط الاستضافة اللائقة أن يراعي المضيفُ اقتناعات الضيف، وأن يحرص الضيفُ على صون الانتظام الاجتماعي العامّ في مدينة الاستضافة. ينطوي التراث العربي على أعراف ضيافة الأربعين يوماً يَنعم الضيفُ في أثنائها بكرم المضيف، وخصوصاً بحرّيّة الامتناع عن تسويغ إقامته، إذ إنّ المضيف لا يسمح لنفسه بأن يستنطقه أو يستجوبه. غير أنّ هذا كلّه يقتصر على الأخلاقيّات العامّة، في حين أنّ المطلوب النظرُ في إمكانات المعايشة السلميّة بين الناس المختلفين في المدينة الإنسانيّة الواحدة. لذلك لا بدّ لنا من استجلاء بعض الحقائق الأنثروبولوجيّة الأساسيّة التي ينبغي أن نعتصم بها في سياق المباحثات الرامية إلى معالجة هذه المسألة.
لا ريب في أنّ المبدأ الأوّل التنوّعُ الأصلي في الأرض، إذ إنّ الناس يُعبّرون عن ذاتيّاتهم في صوَرٍ شتّى وأشكالٍ مختلفة. ومن ثمّ، لا يجوز أن نسعى إلى إنشاء مدُنٍ محايدة تراثيّاً وثقافيّاً تنشأ على صورة الحياد التقني الانصهاري الذي تفرضه علينا العولمة الجارفة. ولكن من الضروري أن نفكّر في الفصل بين التراث الثقافي الذي يبني الهويّة الجماعيّة، والشريعة الإنسانيّة الكونيّة الواحدة في تنوّع تعابيرها القانونيّة وغزارة منطوياتها التطبيقيّة. يقتضي مثل هذا الفصل أن نقبل الطابع التراثي الثقافي الذي يَهب كلَّ مدينة سحرَها الخاصّ، وأن نَنعم بالغربة الثقافيّة التي تستتبعها الأعرافُ العامّة السائدة في المدينة التي تستضيفنا، ولكن من غير أن نغفل المقتضيات الحقوقيّة الأساسيّة التي تفترضها كرامة الكائن الإنسانيّ.
لذلك لا يجوز لنا أن نطالب بنزع الطابع الثقافي هذا، أو بتغييره، أو بتعديله. لا يجوز لنا أن نبني الهياكل البوذيّة في أنحاء باريس كلّها، وحجّتنا في ذلك أنّ البوذيّة مذهبٌ روحي سلمي يُغني الوجدان الإنسانيّ. ولا يحقّ لنا أن نملأ الأحياء السكنيّة الباريسيّة بالمطاعم الصينيّة، وذريعتنا أنّ النظام الغذائي الصيني من أفضل الأنظمة وأخفّها وأسلمها. ماذا ينفع الحضارة الكونيّة أن نستزرع النموذجَ الصيني في التربة الفرنسيّة، أو أن نستنبت المثالَ الفرنسي في الأرض الصينيّة؟ هل تحتاج الإنسانيّة إلى صين أخرى أو فرنسا أخرى؟
يربكني أشدّ الإرباك أمرُ الأُوروبّيين الذين يرومون أن يفرضوا نظام المدينة الغربيّة في الأرض العربيّة، وأمرُ العرب المهاجرين الذي يسعَون إلى إعادة بناء المدينة الأوروبّيّة المضيفة على هيئة مُدُنهم العربيّة التي تركوها لأسبابٍ شتّى.
استناداً إلى مبدأ التنوّع الذي يتطلّب الفصل بين التراث الخاصّ والشريعة الكونيّة، يجب أن نصوغ مبدأً ثانياً يقضي أن نميّز في التراث الثقافي الخاصّ بين ضربَين من الحقائق الإنسانيّة: الحقائق التي يؤيّدها جميعُ الناس من غير اعتراض أو تحفّظ، والحقائق التي يستحسنها أهلُ المدينة دون سواهم. لا بدّ هنا من التفطّن إلى المخاطر التي ينطوي عليها مثل هذا التمييز. ربَّ سائلٍ يسأل: كيف نستطيع أن نجزّئ الهويّة الثقافيّة الواحدة؟ جوابي أنّ التراثات الثقافيّة الخاصّة تنفرد ببعض الأحكام الاعتباريّة الاستنسابيّة المقترنة باختبارات الجماعة التاريخيّة، ولو أنّها تشتمل على تصوّراتٍ تحمل سمات الحقائق الأنثروبولوجيّة العامّة. بتعبير أوضح، يجب إلقاء البال إلى بعض الأحكام التشريعيّة الخاصّة التي تعتمدها المجتمعات وتفرضها على أبنائها دون سواهم، ومنها ما يتعلّق بالملبس والمأكل وآداب المعاشرة، وما إلى ذلك من شؤون الحياة اليوميّة.
لا أعتقد أنّ مثل هذه التباينات تُعطّل المعايشة السلميّة بين أصحاب الأرض المضيفين والضيوف المستقرّين حتّى زمن اندماجهم التفاعلي الناجز. لا بدّ، في هذا السياق، من التخلّق بأخلاق الحكمة الإنسانيّة السمحة، والاعتراف بأنّ زي المرأة الغربيّة المتحرّرة المتخفّفة من معاطفها لن يُبطل انتظامَ الحياة الاجتماعيّة في المدينة العربيّة، وأنّ الخِمار الأرجواني الزاهي أو الوردي المشرق الذي تتخمّر به المرأة العربيّة المتصوّنة، وبه تزيّن ضفائرَ شعرها، لن يصيب الوعي الفردي الغربي بمكروهٍ حضاري جسيم. غير أنّ العري الجسدي الفاضح في الشارع الغربي والشارع العربي يستقبحه الإنسانُ في جميع التراثات الثقافيّة. كذلك البرقع الأسود الذي يُغشّي جسد المرأة من قمّة الرأس إلى أخمص القدم لا يخيف الناس فحسب؛ بل يحجب هويّة المرأة التي ينبغي أن تتلألأ على محيّاها، ويعطّل العلاقة الإنسانيّة المبنيّة على استجلاء أمارات الوجه وتأوّل انفعالات النفس المتجلّية في حركات الجسد كلّه.
ذكرتُ المثال التفصيلي هذا لأبيّن الغنى التفسيري الذي يحتمله مبدأ الفصل بين الحقائق الخاصّة والحقائق العامّة في التراث الثقافي الواحد. بيد أنّ المسألة تنطوي على خلاصات أوسع وأشمل، إذ إنّ المدُن المعاصرة لا يجوز لها أن تفرض على الضيوف المستقرّين أحكاماً تشريعيّة لا يُقرّها العقل الإنساني السليم. وكذلك الضيوف المستقرّون لا يحقّ لهم أن يسلكوا مسلكاً يخالف هذه الأحكام، ولا يحسن بهم أن يغيّروا في أعراف المجتمع المضيف التي لا تناقض المبادئ الإنسانيّة الأساسيّة. لذلك يجب الاعتصام بمبدأٍ ثالثٍ يصون المعايشة الاختلافيّة التمايزيّة في المدينة الإنسانيّة الواحدة، ويقضي بأن يعتمد أهلُ المسكونة جمعاء شرعة حقوق الإنسان الكونيّة التي أقرّتها أغلبيّة الدساتير الوطنيّة والشرائع المحلّيّة. أعتقد أنّ هذه الشرعة تحتوي على عصارة النضج الإنساني الكوني الذي يفرض على الضيف والمضيف أن يسلكا سلوكاً يراعي كرامة كلّ إنسان وحرّيّته، ويصون أصول العدل والإنصاف، حتّى ينعم الجميع بالحدّ الإنساني الممكن من التضامن الأخوي والتسالم البنّاء.
إذا راعى الناس المبادئ الثلاثة هذه، أمكنهم أن يتعايشوا في المدُن التي أضحت مسرحاً حيّاً للتلاقي والتفاعل والتقابس. وحدها مثل الحكمة الإنسانيّة الراقية هذه تمنعنا من تقسيم العالم فسطاطَين أو دارَين يتحاربان حتّى الإفناء. ليست الأرض في حال احترابٍ حضاريٍّ؛ بل في طور النضج التحاوري الذي يجعل الناس يعترفون بذاتيّاتهم الثقافيّة، اعترافاً يتيح لكلّ جماعة أن تحيا وتنمو في المدينة الإنسانيّة المعاصرة المبنيّة على شرعة حقوق الإنسان الكونيّة، والمزيّنة بالتراثات الروحيّة الجليلة التي لا تناقض مبادئ هذه الشرعة.
- مفكر لبناني


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.