الحداثة... واحدة أم متعددة؟

TT

الحداثة... واحدة أم متعددة؟

في تقديمه لكتابه «نهاية المجتمع التقليدي»، كتب دانييل ليرنر، إن المجتمع التقليدي يحتضر في كل القارات، وإنه لا يوجد ركن واحد في العالم يستعصي على الحداثة، التي رغم أنها تاريخياً منتوج غربي، فإنها ذات صلاحية عالمية. لم يكن ليرنر أول من أصدر هذا الحكم، فقد سبقه إليه مفكرون عظام أشهرهم كارل ماركس الذي تحدث قبل ليرنر بمائة عام عن الدور الثوري للاستعمار البريطاني في الهند؛ لما له من أثر في تدمير المجتمع الريفي الراكد، واستبداله برأسمالية ديناميكية تتطور بسرعة.
فكيف يبدو الأمر بعد ما يقرب من مائة عام أخرى، وكيف تبدو العلاقة بين التقليدية والحداثة، وبين النموذج الغربي للحداثة وما يجري في أنحاء العالم الأخرى بعد أن أخذنا وقتاً كافياً لاختبار المقولات القديمة؟
نشر دانييل ليرنر كتابه في خمسينات القرن العشرين، في وقت ساد فيه الاعتقاد بعالمية الحداثة وشمولها، وأن الغرب يمثل مستقبل العوالم غير الغربية. شاع هذا الاعتقاد في الوقت الذي فرض فيه التراجع على الغرب الكولونيالي، وانتصرت حركات الاستقلال في المستعمرات، فوصل إلى الحكم في البلاد حديثة الاستقلال نخب سياسية سعت لتحديث بلادها بسرعة، مسترشدة بالنموذج الغربي، فبدا الأمر كما لو أن الأمم الجديدة لو تركت لحالها دون قهر خارجي فإنها تختار الحداثة، وأن الأخيرة لها قوة دفع خاصة بها، وليست في حاجة إلى بندقية الاستعمار الأوروبي. فقد كان الغرب يتراجع سياسياً، بينما الحكام الجدد في المستعمرات حديثة الاستقلال يتبنون برامج للبناء الوطني مستمدة من الحداثة غربية المنشأ، بحيث إن الهزيمة السياسية لقوى الاستعمار الغربي لم تخصم من الهيمنة العالمية للحداثة غربية المنشأ. فيكف يبدو الأمر بعد أكثر من نصف قرن، وهل ما زال الاعتقاد في شمول الحداثة وعالميتها قائماً، وهل أمكن إعادة إنتاجها خارج الغرب الجغرافي والتاريخي.
لم يعد العالم التقليدي القديم قائماً، فقد ظهر محله في كل مكان في العالم واقع جديد. لم يعد هناك في عالم اليوم قبائل لم تمسها الحداثة مثل تلك التي درسها الأنثروبولوجيين العظام الأوائل لويس هنري مورجان وإدوارد تايلور وجيمس فريزر وبرونيسلاو مالينوسكي. حدث التغير في كل مكان في العالم، ومسّت الحداثة كل شيء، فانتهت المجتمعات التقليدية التي كانت موجودة فيما يشبه الجمود لقرون طويلة. انتهى العالم التقليدي القديم كما تنبأ دانييل ليرنر، ولكن هل حل محله مجتمع حديث على الطريقة الغربية كما تقول بقية النبوءة؟
المؤكد هو أن مجتمعات العوالم غير الغربية لم تعد تقليدية كما كانت قبل أن تمسها الحداثة. المؤكد أيضاً أن هناك بين قوى المجتمع والدولة في المجتمعات غير الغربية أطراف تسعى لاستنساخ النموذج الغربي للحداثة في بلادها. بعض هذه البلاد أنتج حداثة فيها كثير شبه بالحداثة الغربية، فيما أنتج أغلبها تركيبات فيها درجات متفاوتة الشبه بالحداثة الغربية.
لفترة ليست قصيرة صنف منظّرو الحداثة هذه المجتمعات كمجتمعات انتقالية، غادرت التقليدية لكنها ما زالت في مرحلة الانتقال نحو الحداثة. انطلق هؤلاء من أن الحداثة تأتي في طبعة واحدة هي الطبعة الغربية، وأن المجتمعات التي لم تصل أو تقترب من الحداثة الغربية ستظل في حالة سيولة وعدم استقرار ناتجة عن طبيعة الانتقال كعملية تغير متواصل.
ساد هذا الرأي لفترة ليست قصيرة كان فيها الاعتقاد قوياً بحتمية الحداثة الغربية. غير أن الانتظار قد طال دون أن يكتمل التحول للحداثة الغربية، حتى أيقنا أن ما ظنناه تطوراً انتقالياً هو أقرب لتركيبة اجتماعية راسخة تعيد إنتاج نفسها، وأن ما نشاهده في المجتمعات غير الغربية ليس انتقالاً في اتجاه أي صورة مسبقة رسمتها الحداثة الغربية، ولكنه هو نفسه صيغة ما بعد المجتمع التقليدي في هذه المجتمعات. ولكن هل هناك بعد التقليدية سوى الحداثة، وأليس ما نشهده في المجتمعات غير الغربية هو الحداثة الخاصة بهذه المجتمعات، وأن هناك نماذج عدة للحداثة، وليس فقط حداثة غربية واحدة، وأن كل مجتمع ينتج الحداثة التي يطيقها والمتناسبة مع تاريخه واقتصاده وثقافته.
لكن ألا تقود هذه النظرة إلى إهدار القيمة التحليلية لمفهوم الحداثة، بتحويله إلى مفهوم شديد الاتساع، يجمع بين مجتمعات ثرية وديمقراطية، وأخرى فقيرة وسلطوية؟ يعيدنا هذا الاعتراض إلى نقطة بداية ضرورية تتعلق بما هو جوهري في المجتمع الحديث، وهذا يعيدنا إلى دانييل ليرنر مرة أخرى؛ فالحداثة في رأيه هي حالة ثقافية نفسية تزيد فيها تطلعات الناس وتوقعاتهم بمعدلات سريعة. المجتمع الحديث، إذن، هو مجتمع تتسارع فيه التطلعات والتوقعات، وهذا أمر تشترك فيه كل المجتمعات. غير أن المجتمعات تختلف في أمرين مهمين، الأول هو الآليات المؤدية لرفع التوقعات، والآخر هو المؤسسات والسياسات التي يتم تطويرها من أجل التعامل مع التوقعات المتزايدة. وباختلاف التوليفات المختلفة من الأليات والمؤسسات تتكون نماذج مختلفة للحداثة.
تحولات ثلاث كبرى صنعت الحداثة الغربية: تحول فكري تمثل في التنوير، تحول سياسي مثلته الثورة الفرنسية، وتحول اقتصادي مثلته الرأسمالية والثورة الصناعية. الانتصار للعقل ضد الميتافيزيقا هو أهم ما ميز التنوير، وعنه تفرعت مبادئ حرية الفكر والاعتقاد من أجل تحرير العقل من القيود، وعنه أيضاً تفرع اعتقاد بأن المجتمع قابل للتشكل، وأنه من الممكن بناء المؤسسات التي تحقق رفاهية وحرية الفرد، وأن قوة العقل والعلم قادرة على تحويل المجتمع.
بعد هذا جاءت الثورة الفرنسية. فبينما كان التنوير تمرداً ضد الميتافيزيقا والمؤسسات والطبقة اللاهوتية، كانت الثورة الفرنسية تمرداً ضد الأوتوقراطية والأرستقراطية، من أجل تقريب السلطة من الشعب، بل وجعله مصدر السيادة. حروب نابليون الأوروبية هي أوضح تعبير عن العلاقة بين التنوير والثورة الفرنسية، فالأوتوقراطيون الأوروبيون الذين اجتمعوا في الحلف المقدس ضد نابليون لم يكونوا أقل إيماناً من الفرنسيين بمركزية العقل، فلقد انتشر التنوير بين الطبقات الحاكمة والمتعلمين في بلاد القارة الأوروبية وأصبح موضة العصر الفكرية حتى قبل الثورة الفرنسية، أما الحرية والمساواة ونقل السيادة للشعب فهذه قضية أخرى، لم تصل إلى أوروبا إلا بعد الثورة الفرنسية، رغم خسارة نابليون حروبه الأوروبية.
التنوير صاغ العقل الأوروبي الحديث، والثورة الفرنسية شكّلت مؤسساته السياسية، أما الرأسمالية والصناعة فقد صنعتا له قاعدة لإنتاج ثروة مادية وفيرة أتاحت إمكانية الاستجابة للتطلعات المتزايدة.
هذه هي القوى التي صنعت الحداثة الغربية، فما هي القوى التي صنعت الحداثة في الخبرات غير الغربية؟ وكيف أثر اختلاف القوى الصانعة للحداثة غير الغربية في المنتج النهائي لهذه الحداثة. لدينا حداثة غربية تطورت إلى الديمقراطية الليبرالية. لدينا حداثة آسيوية جاء التغيير والمبادرة فيها علوياً من السلطة. ولدينا حداثة عالم ثالثة كان مصدر التغيير فيها خارجياً. في نموذج الحداثة الغربية تم تحرير الفلاحين من العمل في الأرض، فذهبوا إلى المدينة وعملوا في المصنع، فنشأت طبقات عاملة. في نموذج آخر للحداثة ترك المتعلمون من أبناء الفلاحين الريف، وانتقلوا للمدينة، ليصبحوا موظفين إداريين في الجهاز الإداري للدولة، فنشأت طبقة بيروقراطية. أنتج عمال المصانع آيديولوجيا الاشتراكية لتدافع عن مصالح العمال وحرية التنظيم النقابي والحزبي والعمل السياسي. أنتج البيروقراطيون عقيدة دولتية، تضع الدولة فوق المجتمع، والاستقرار قبل الحرية. نقاط بداية مختلفة، ومسارات متباينة، ونماذج متعددة للحداثة.
أنتجت الحداثة في كل نماذجها ثلاثة منتجات رئيسية، كل منها هو مجال للاعتقاد والفعل الاجتماعي. هناك أولاً اتجاهات الأفراد وقيمهم، وهناك أيضاً مؤسسات سياسية تتولى التنظيم الاجتماعي وإدارة السلطة والرفاه المشترك، وهناك أخيراً نظام لإنتاج الثروة المادية وتوزيعها. مقارنة هذه المكونات/المجالات بين المجتمعات المختلفة، والطريقة التي تتمفصل بها هذه المجالات مع القوى المحددة الصانعة للحادثة في كل تجربة يتيح لنا منهجاً لتصنيف النماذج المختلفة للحداثة.
- باحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».