الحداثة... واحدة أم متعددة؟

TT

الحداثة... واحدة أم متعددة؟

في تقديمه لكتابه «نهاية المجتمع التقليدي»، كتب دانييل ليرنر، إن المجتمع التقليدي يحتضر في كل القارات، وإنه لا يوجد ركن واحد في العالم يستعصي على الحداثة، التي رغم أنها تاريخياً منتوج غربي، فإنها ذات صلاحية عالمية. لم يكن ليرنر أول من أصدر هذا الحكم، فقد سبقه إليه مفكرون عظام أشهرهم كارل ماركس الذي تحدث قبل ليرنر بمائة عام عن الدور الثوري للاستعمار البريطاني في الهند؛ لما له من أثر في تدمير المجتمع الريفي الراكد، واستبداله برأسمالية ديناميكية تتطور بسرعة.
فكيف يبدو الأمر بعد ما يقرب من مائة عام أخرى، وكيف تبدو العلاقة بين التقليدية والحداثة، وبين النموذج الغربي للحداثة وما يجري في أنحاء العالم الأخرى بعد أن أخذنا وقتاً كافياً لاختبار المقولات القديمة؟
نشر دانييل ليرنر كتابه في خمسينات القرن العشرين، في وقت ساد فيه الاعتقاد بعالمية الحداثة وشمولها، وأن الغرب يمثل مستقبل العوالم غير الغربية. شاع هذا الاعتقاد في الوقت الذي فرض فيه التراجع على الغرب الكولونيالي، وانتصرت حركات الاستقلال في المستعمرات، فوصل إلى الحكم في البلاد حديثة الاستقلال نخب سياسية سعت لتحديث بلادها بسرعة، مسترشدة بالنموذج الغربي، فبدا الأمر كما لو أن الأمم الجديدة لو تركت لحالها دون قهر خارجي فإنها تختار الحداثة، وأن الأخيرة لها قوة دفع خاصة بها، وليست في حاجة إلى بندقية الاستعمار الأوروبي. فقد كان الغرب يتراجع سياسياً، بينما الحكام الجدد في المستعمرات حديثة الاستقلال يتبنون برامج للبناء الوطني مستمدة من الحداثة غربية المنشأ، بحيث إن الهزيمة السياسية لقوى الاستعمار الغربي لم تخصم من الهيمنة العالمية للحداثة غربية المنشأ. فيكف يبدو الأمر بعد أكثر من نصف قرن، وهل ما زال الاعتقاد في شمول الحداثة وعالميتها قائماً، وهل أمكن إعادة إنتاجها خارج الغرب الجغرافي والتاريخي.
لم يعد العالم التقليدي القديم قائماً، فقد ظهر محله في كل مكان في العالم واقع جديد. لم يعد هناك في عالم اليوم قبائل لم تمسها الحداثة مثل تلك التي درسها الأنثروبولوجيين العظام الأوائل لويس هنري مورجان وإدوارد تايلور وجيمس فريزر وبرونيسلاو مالينوسكي. حدث التغير في كل مكان في العالم، ومسّت الحداثة كل شيء، فانتهت المجتمعات التقليدية التي كانت موجودة فيما يشبه الجمود لقرون طويلة. انتهى العالم التقليدي القديم كما تنبأ دانييل ليرنر، ولكن هل حل محله مجتمع حديث على الطريقة الغربية كما تقول بقية النبوءة؟
المؤكد هو أن مجتمعات العوالم غير الغربية لم تعد تقليدية كما كانت قبل أن تمسها الحداثة. المؤكد أيضاً أن هناك بين قوى المجتمع والدولة في المجتمعات غير الغربية أطراف تسعى لاستنساخ النموذج الغربي للحداثة في بلادها. بعض هذه البلاد أنتج حداثة فيها كثير شبه بالحداثة الغربية، فيما أنتج أغلبها تركيبات فيها درجات متفاوتة الشبه بالحداثة الغربية.
لفترة ليست قصيرة صنف منظّرو الحداثة هذه المجتمعات كمجتمعات انتقالية، غادرت التقليدية لكنها ما زالت في مرحلة الانتقال نحو الحداثة. انطلق هؤلاء من أن الحداثة تأتي في طبعة واحدة هي الطبعة الغربية، وأن المجتمعات التي لم تصل أو تقترب من الحداثة الغربية ستظل في حالة سيولة وعدم استقرار ناتجة عن طبيعة الانتقال كعملية تغير متواصل.
ساد هذا الرأي لفترة ليست قصيرة كان فيها الاعتقاد قوياً بحتمية الحداثة الغربية. غير أن الانتظار قد طال دون أن يكتمل التحول للحداثة الغربية، حتى أيقنا أن ما ظنناه تطوراً انتقالياً هو أقرب لتركيبة اجتماعية راسخة تعيد إنتاج نفسها، وأن ما نشاهده في المجتمعات غير الغربية ليس انتقالاً في اتجاه أي صورة مسبقة رسمتها الحداثة الغربية، ولكنه هو نفسه صيغة ما بعد المجتمع التقليدي في هذه المجتمعات. ولكن هل هناك بعد التقليدية سوى الحداثة، وأليس ما نشهده في المجتمعات غير الغربية هو الحداثة الخاصة بهذه المجتمعات، وأن هناك نماذج عدة للحداثة، وليس فقط حداثة غربية واحدة، وأن كل مجتمع ينتج الحداثة التي يطيقها والمتناسبة مع تاريخه واقتصاده وثقافته.
لكن ألا تقود هذه النظرة إلى إهدار القيمة التحليلية لمفهوم الحداثة، بتحويله إلى مفهوم شديد الاتساع، يجمع بين مجتمعات ثرية وديمقراطية، وأخرى فقيرة وسلطوية؟ يعيدنا هذا الاعتراض إلى نقطة بداية ضرورية تتعلق بما هو جوهري في المجتمع الحديث، وهذا يعيدنا إلى دانييل ليرنر مرة أخرى؛ فالحداثة في رأيه هي حالة ثقافية نفسية تزيد فيها تطلعات الناس وتوقعاتهم بمعدلات سريعة. المجتمع الحديث، إذن، هو مجتمع تتسارع فيه التطلعات والتوقعات، وهذا أمر تشترك فيه كل المجتمعات. غير أن المجتمعات تختلف في أمرين مهمين، الأول هو الآليات المؤدية لرفع التوقعات، والآخر هو المؤسسات والسياسات التي يتم تطويرها من أجل التعامل مع التوقعات المتزايدة. وباختلاف التوليفات المختلفة من الأليات والمؤسسات تتكون نماذج مختلفة للحداثة.
تحولات ثلاث كبرى صنعت الحداثة الغربية: تحول فكري تمثل في التنوير، تحول سياسي مثلته الثورة الفرنسية، وتحول اقتصادي مثلته الرأسمالية والثورة الصناعية. الانتصار للعقل ضد الميتافيزيقا هو أهم ما ميز التنوير، وعنه تفرعت مبادئ حرية الفكر والاعتقاد من أجل تحرير العقل من القيود، وعنه أيضاً تفرع اعتقاد بأن المجتمع قابل للتشكل، وأنه من الممكن بناء المؤسسات التي تحقق رفاهية وحرية الفرد، وأن قوة العقل والعلم قادرة على تحويل المجتمع.
بعد هذا جاءت الثورة الفرنسية. فبينما كان التنوير تمرداً ضد الميتافيزيقا والمؤسسات والطبقة اللاهوتية، كانت الثورة الفرنسية تمرداً ضد الأوتوقراطية والأرستقراطية، من أجل تقريب السلطة من الشعب، بل وجعله مصدر السيادة. حروب نابليون الأوروبية هي أوضح تعبير عن العلاقة بين التنوير والثورة الفرنسية، فالأوتوقراطيون الأوروبيون الذين اجتمعوا في الحلف المقدس ضد نابليون لم يكونوا أقل إيماناً من الفرنسيين بمركزية العقل، فلقد انتشر التنوير بين الطبقات الحاكمة والمتعلمين في بلاد القارة الأوروبية وأصبح موضة العصر الفكرية حتى قبل الثورة الفرنسية، أما الحرية والمساواة ونقل السيادة للشعب فهذه قضية أخرى، لم تصل إلى أوروبا إلا بعد الثورة الفرنسية، رغم خسارة نابليون حروبه الأوروبية.
التنوير صاغ العقل الأوروبي الحديث، والثورة الفرنسية شكّلت مؤسساته السياسية، أما الرأسمالية والصناعة فقد صنعتا له قاعدة لإنتاج ثروة مادية وفيرة أتاحت إمكانية الاستجابة للتطلعات المتزايدة.
هذه هي القوى التي صنعت الحداثة الغربية، فما هي القوى التي صنعت الحداثة في الخبرات غير الغربية؟ وكيف أثر اختلاف القوى الصانعة للحداثة غير الغربية في المنتج النهائي لهذه الحداثة. لدينا حداثة غربية تطورت إلى الديمقراطية الليبرالية. لدينا حداثة آسيوية جاء التغيير والمبادرة فيها علوياً من السلطة. ولدينا حداثة عالم ثالثة كان مصدر التغيير فيها خارجياً. في نموذج الحداثة الغربية تم تحرير الفلاحين من العمل في الأرض، فذهبوا إلى المدينة وعملوا في المصنع، فنشأت طبقات عاملة. في نموذج آخر للحداثة ترك المتعلمون من أبناء الفلاحين الريف، وانتقلوا للمدينة، ليصبحوا موظفين إداريين في الجهاز الإداري للدولة، فنشأت طبقة بيروقراطية. أنتج عمال المصانع آيديولوجيا الاشتراكية لتدافع عن مصالح العمال وحرية التنظيم النقابي والحزبي والعمل السياسي. أنتج البيروقراطيون عقيدة دولتية، تضع الدولة فوق المجتمع، والاستقرار قبل الحرية. نقاط بداية مختلفة، ومسارات متباينة، ونماذج متعددة للحداثة.
أنتجت الحداثة في كل نماذجها ثلاثة منتجات رئيسية، كل منها هو مجال للاعتقاد والفعل الاجتماعي. هناك أولاً اتجاهات الأفراد وقيمهم، وهناك أيضاً مؤسسات سياسية تتولى التنظيم الاجتماعي وإدارة السلطة والرفاه المشترك، وهناك أخيراً نظام لإنتاج الثروة المادية وتوزيعها. مقارنة هذه المكونات/المجالات بين المجتمعات المختلفة، والطريقة التي تتمفصل بها هذه المجالات مع القوى المحددة الصانعة للحادثة في كل تجربة يتيح لنا منهجاً لتصنيف النماذج المختلفة للحداثة.
- باحث مصري


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!