«حب عتيق»... المكان بطلاً روائياً

تكشف العلاقات الإثنية والثورية لمدينة عراقية في خمسينات القرن الماضي

«حب عتيق»... المكان بطلاً روائياً
TT

«حب عتيق»... المكان بطلاً روائياً

«حب عتيق»... المكان بطلاً روائياً

رواية «حب عتيق» للروائي علي لفتة سعيد، الصادرة عام 2021 والحائزة على المرتبة الثانية لجائزة (توفيق بكار، للرواية العربية في تونس عام 2020)، هي رواية استثنائية من جميع الأوجه. فهي عن مكان ريفي وفلاحي، وتحديداً مدينة سوق الشيوخ «في الناصرية». وربما تؤشر عتبة الإهداء إلى هذه الحقيقة: «إليها يتجه الكلام: سوق الشيوخ»، لكنها أيضاً كناية مصغرة عن العراق، لذا فهي لا تنهض على شخصية مركزية محدودة، بل تنطوي على تعدد صوتي. والسرد فيها غالباً ما يغور في التاريخ، لكنه تاريخ غير رسمي، وهذا ما عبّرت عنه بوضوح العتبة النصية الرئيسية للرواية، والتي أعلن فيها الروائي عن رؤيته لكيفية التعامل مع التاريخ في هذه الرواية، إذْ يقول:
«لست هنا معنياً بالتاريخ، بوصفه أرشفة وأرخنة، أو معنياً بالحقيقة المطلقة، بل بالحقيقة المتخيلة التي تصنع عالماً آخر، يحمل قصديته معه، من مدينة وجدت نفسها في وسط صناعة التاريخ الذي أهملها» (ص 9).
هذا المنظور يجعل الرواية تنضوي تحت مظلة رواية ما بعد الحداثة في التعامل مع التاريخ بوصفه تخييلاً وبنية سردية افتراضية، وربما وفق ما قاله الناقد الأميركي هيدن وايت الذي ينظر إلى التاريخ بوصفه سرداً.
ومن جهة أخرى يمكن أن تعد هذه الرواية متحفاً للمأثورات والحكايات والشخصيات والمظاهر الأنثروبولوجية الاجتماعية التي كانت تشكل النسيج الاجتماعي الجواني لقاع المدينة. ولهذا يمكن النظر إليها بوصفها نموذجاً موفقاً لما يُصطلح عليه في النقد الثقافي بالسرد الثقافي، لأننا يمكن أن نتعرف من خلالها على صور الحياة المتنوعة، ونمط العلاقات والقيم السائدة والتشكيلات الإثنية والمعرفية، والإرهاصات الأولى للحركات الثورية. والمتن الروائي يركز على فترة الخمسينات من القرن الماضي وصولاً إلى عام 1958، لكنه غالباً ما يعود بالذاكرة من خلال مرويات وشهادات واستذكارات أبطالها إلى مراحل تاريخية أقدم تعود إلى فترة الحكم العثماني (العصملي) وتحديداً قبيل الحرب العالمية الأولى، والاحتلال البريطاني للعراق عام 1917، كما تتوقف عند ثورة العشرين وانتفاضة سوق الشيوخ عام 1935.
وهكذا فمدينة «سوق الشيوخ» التي هي كناية عن الناصرية، وربما كناية عن العراق بكامله، هي بنية مكانية مولِّدة للأحداث في الرواية. وهناك تنوع كبير في أنماط الشخصيات والنماذج البشرية، ففيها تتمثل جميع المكونات الاجتماعية والعشائرية والمذهبية والدينية التي يحفل بها المجتمع العراقي. إذ يحتل المسلمون، السنة والشيعة، الأغلبية، يتلوهم الصابئة المندائيون، كما تضم المدينة عدداً من المسيحيين يمثلهم «جورج» بائع المشروبات. فضلاً عن ذلك تضم المدينة عدداً من اليهود الذين يمتلكون كنيسهم الخاص ويمثلهم في الرواية «جاجو» البقال المشهور في المدينة.
وتلتقط الروايات نماذج نوعية ممثلة لثقافة المدينة من خلال التركيز على الثلاثي (عبيّس، ونعيّم، وستار) والثلاثي (نعمان، ومحمود، وسعد). الأول يميل إلى البساطة والتلقائية ويضم شخصيات شعبية قريبة من القاع الاجتماعي، في مقدمتها شخصية «عبيس» الذي يعدّ ذاكرة المدينة، و«ستار» الذي يمتلك صوتاً غنائياً عذباً. وكذلك شخصية «نعيّم»، الذي تشكل حكايته حبكة سردية أساسية لأنها تستمر لفترة زمنية طويلة. فهو ابن «الشيخ كاصد» الذي تهابه العشائر، لكن «نعيم» وهو شيخ شاب نزق في الثلاثينات من عمره وقع في حب «بدرية» التي اشترطت لقبوله زوجاً لها شرطاً قاسياً وغريباً، وهو أن يجمع مهرها الثقيل من التسول. وقد قبل «نعيّم» بهذا الشرط وبحضور «الملا يوسف» الذي كان ضامناً له. وهكذا تحول نعيّم إلى متسول يجوب الأزقة والمقاهي ويتلقى سخرية الأطفال والكبار معاً، لكنه ينجح في النهاية في جمع المهر، ويطالب بحقه في تنفيذ الوعد، لكن «بدرية»، وهي امرأة ذكية وتوصف بأن لها عقلاً يزن بلداً، تقدم شرطاً أخيراً للقبول بـ«نعيّم» يتمثل في عزوفه نهائياً عن «سُبّة» التسول التي تجذرت في سلوكه، لكن «نعيّم» يُخفق هذه المرة في الامتحان وينفلت من الجمع وهو يطلق توسله «من مال الله. عندي عرس وأريد فلوس» (ص 131).
وهكذا ينتهي حلم «نعيّم» الرومانسي بالزواج من فتاة أحلامه «بدرية». وهذا الثلاثي اعتاد أفراده الغناء والرقص على ضفة نهر الفرات ليلاً، وتعلو أصواتهم بالغناء الممزوج بالتأوهات والبكاء، لتسمعه المدينة في صوبيها، وبشكل خاص «بدرية» التي يثير لديها الإحساس بالأسى والندم، لأنها كانت السبب في وصول «نعيّم» إلى هذه الحالة المزرية الميؤوس منها. وأنا أرى أن هذا الثلاثي يمثل أحياناً نموذج الشخصية «الزوربية»، التي تعرّفنا إليها في رواية «زوربا» للروائي اليوناني كازانتزاكي. كما أن هذا الثلاثي قريب مما تسمى في الميثيولوجيا الإغريقية النزعة «الديونيزوسية» المشتقة من اسم الإله «ديونيزوس» أو الإله «باخوس»، إله الربيع والخصب والموسيقى، وهو يدعو إلى ممارسة كل ما هو حسّي ودنيوي وجسدي، بعيداً عن صحوة العقل وحسابات المنطق. أما الثلاثي الروائي الآخر الذي يضم «أمين، ومحمود، وسعد» فيمثل النقيض المقابل للنزعة «الديونزوسية». ذلك أنه يتميز بالميل إلى العقلانية والتفكير المنطقي المتوازن، والحس السياسي مما يجعله شبيهاً بالنزعة «الأبولونية» في المثيولوجية الإغريقية، نسبةً إلى الإله الإغريقي «أبولو»، إله النور والعقل والذي يدعو إلى التفكير العقلي المنطقي المنضبط.
وتضم الثلاثية الأبولونية في الرواية شخصيات مهمة، لها تأثيرها في حياة المدينة ونهوضها، هي: شخصية «نعمان» مدرس اللغة العربية في المدينة، وخريج دار المعلمين العالية ببغداد وهو مثقف يساري وشاعر، وعاشق لفتاة مسيحية اسمها «تانيا»، كما أنه واحد من مثقفي المدينة الذين تأثروا منذ كان طالباً في الجامعة، بالفكر الثوري، الذي راح يروّج له بين الشباب، ويعمل من أجل تحقيق تغيير اجتماعي ثوري يُخرج المجتمع من سكونيته وتخلفه، وهو ما تحقق فعلاً في نهاية الرواية عندما حصل مثل هذا التغيير الثوري عام 1958، فضلاً عن ذلك فقد كان «نعمان» يفكر بكتابة رواية عن المدينة، مما يشير إلى الجوهر الميتاسردي في الرواية. أما الشخصية الثانية فهي شخصية «محمود» وهو صابئي مندائي، يحمل أيضاً مثل «نعمان» أفكاراً يسارية ثورية. لكن مشكلته تكمن في أنه يعشق فتاة مسلمة اسمها «رزيقة» حيث يَحول التباين الديني بينهما دون تحقيق مثل هذا الحلم المستحيل. أما الشخصية الثالثة فهي شخصية «سعد» الذي يمتلك هو الآخر، فضلاً عن ميوله اليسارية، قصة مؤلمة عن حياته وأسرته، راح ضحيتها عدد من أفراد أسرته، أخذ يسردها على صديقيه «نعمان» و«محمود» اللذين قاما وفي أوقات متباينة، برواية قصص حبهما ومعاناتهما في الحياة. ولعبت الذاكرة دوراً مهماً في هذا السرد الاستذكاري الذي قدمته هذه الشخصيات الثلاث.
ومن الناحية الفنية يغلب السرد «المبأر» على الرواية، ففي الاستهلال، نجد «بدرية» وهي تتفاعل مع غناء «عبيس» و«ستار» و«نعيم» من خلال مونولوج داخلي عبر توظيف «أنا الراوي الغائب» بتعبير تودوروف:
«منذ أن سمعت صوته، وهو يغنّي على جرف النهر، لم يستكن قلبها، ولم يدر بخلدها أن هذا الغناء العذب سيعيدها إلى ذاكرة مكلومة» (ص 11).
كما أن الكثير من المرويات عن تاريخ المدينة تقدَّم بطريقة فنية مبأرة، إما عن طريق المنولوجات الداخلية للشخصيات الروائية، وإما من خلال حوارات درامية بينها نجد ذلك في حوار «رسول» مع زوجته «بدرية» عن تاريخ مدينة سوق الشيوخ:
«هذه المدينة قديمة، قبل أن يحتلها العصملية والإنجليز، وهي جزء من سومر» (ص 27)، لكن الرواية انطوت من الجانب الآخر، من الناحية السردية على مقاطع كثيرة تنتمي إلى السرد كليّ العلم، كما نجد ذلك في المثال التالي:
«لا أحد في المدينة لا يعرف عبيّس، كان الأشهر حتى من شيوخ العشائر، ومعارفه من الرجال الفقراء والنساء والأطفال، بل حتى الطبقة العليا من المجتمع» (ص 19).
وكان بإمكان الروائي أن يبث مثل هذا السرد كليّ العلم من خلال وعي أو رؤية شخصية روائية مشاركة لتتحقق عملية التبئير الفني في السرد، والتخلص من المباشرة التي يمليها السرد العليم، وهو أمر لم يخلُ بصورة واضحة من الطبيعة الفنية للسرد المبأر الذي يهيمن على الرواية.
لقد نجحت الرواية في أن تقدم معالم مثيرة لمدينة سوق الشيوخ، بخاصة عالمها الريفي الزراعي، وتقاليدها العشائرية الصارمة، وهو موضوع قلما اقتربت منه الرواية العراقية التي ظلت شخصياتها مدينية مأخوذة من المدينة الحديثة، وهو ما يمنح هذه الرواية خصوصية وتفرداً. ولأن الرواية تمتلك كل الثراء التاريخي والميثولوجي والروحي، نراها وقد تحولت لدى أبنائها إلى حب من نوع خاص، هو ما عبّر عنه عنوان الرواية «حب عتيق» ففي الحوار المحتدم بين «نعمان» و«محمود» و«سعد» حول تعلقهم، حد العشق، بمدينتهم، وتضحيتهم بمصالحهم وعواطفهم الشخصية، مثلما فعل «نعمان» عندما رفض أن يهجر مدينته من أجل حبيبته «تانيا» التي رفضت الذهاب معه إلى سوق الشيوخ، واقترحت عليه الهجرة خارج العراق. ونكتشف خلال ذلك انهماك «نعمان» بجمع المرويات والوقائع عن تاريخ المدينة وأناسها لغرض كتابة رواية عنها. ويرى «محمود»، وهو يؤيد صديقه «سعد»، أن يقوم «نعمان» بكتابة قصة حب «نعيم» لـ«بدرية» وقصة حبهم جميعاً لمدينتهم لتكون قصة هذا «الحب العتيق» أو «المعتق»:
«لكن محموداً، وهو يؤيد ما قاله سعد، طالب نعمان بإكمال قصة نعيم، وأن تكون القصتان المميزتان حكاية المدينة، قصة الحب العتيق الذي يبدأ بذاته، وينتهي بطرق مختلفة» (ص 166).
ومن هنا نكتشف دلالة العنوان في الرواية، ذلك أنه يدمج بين الخاص والعام في قصة حب «نعيم» الأسطورية، وقصة حبهم جميعاً لمدينتهم سوق الشيوخ التي أورثتهم هذا الحب العتيق الأزليّ.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)
جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)
TT

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)
جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

عاماً بعد عام وبدأب وطموح كبيرين يُثبت معرض فن أبوظبي مكانه في خارطة المعارض الفنية العربية، وهذا العام احتفل بالنسخة الـ16 مستضيفاً 102 صالة عرض من 31 دولة حول العالم في مقره بجزيرة السعديات الملتفة برداء الفنون. التجول في أروقة المعرض الفني يحمل الكثير من المتعة البصرية والفنية، نعيد مشاهدة أعمال لفنانين كبار، ونكتشف أعمالاً لم نرها من قبل لفنانين آخرين، ونكتشف في وسط ذلك النجوم الصاعدة. ولم يختلف الوضع هذا العام بل أضاف أقساماً جديدة ليستكشف الزائر من خلالها أعمالاً فنية بعضها عتيق وبعضها حديث، من الأقسام الجديدة هناك «صالون مقتني الفنون» و«فن جريء، فن جديد» و«طريق الحرير، الهويات المتبادلة» إضافة إلى معرض منفصل من مجموعة فرجام عن الفن الحديث والتحرر من الاستعمار سنعود له لاحقاً.

جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

صالون مقتني الفنون

يُعد إضافة مميزة لنسخة هذا العام، ويعرض المخطوطات والأسطرلابات والتحف التاريخية والكتب النادرة بتنظيم من روكسان زند. نطلق الجولة من غرفة أنيقة حملت جدرانها خريطة ضخمة أحاط بها من اليمين واليسار قطعتان مثبتتان على الحائط، ونقرأ أنها كانت تُستخدم لحمل العمامة في العهد العثماني، في كوات حائطية نرى أطباقاً من الخزف أحدها يعود للقرن الـ16، ويصور فارساً عربياً على صهوة جواده، وفي أخرى إبريق ذهبي اللون يعود للعهد العثماني. في جناح «شابيرو للكتب النادرة» من بريطانيا نرى نسخاً من مصاحف تاريخية مزخرفة ومذهبة بجمال وحرفة لا تتخطاها العين، ما يجذب الزائر هو أن الكتب والمصاحف كلها في متناول اليد مفتوحة الصفحات ومنتظمة في عرض جميل.

مصاحف أثرية (الشرق الأوسط)

تستعرض القائمة على العرض بعض القطع المميزة، وتقول: «إنها المرة الأولى التي نشارك فيها في معرض أبوظبي. نعرض بعض المخطوطات والكتب النادرة من متجرنا في لندن، منها صفحة من مصحف بالخط الحجازي يعود للقرن السابع، وبعض المصاحف المصغرة أحدها يعود للقرن الـ19». وعن الأسعار تقول إنها تتراوح ما بين آلاف الدولارات لبعض اللوحات التي تعود لعهد الحملة الفرنسية على مصر، أما المصاحف فتتراوح أسعارها حسب تاريخها ونسبة مالكيها السابقين، كمثال تشير إلى نسخة تعود لبلاد فارس في القرن الـ16 سعرها 335 ألف دولار، وصحائف من القرآن تتراوح أسعارها ما بين 20 و30 ألف دولار. هنا أكثر من مثال للمصاحف المصغرة منها مصحف مكتوب بدقة متناهية بالذهب على أوراق خضراء اللون مشكلة على نحو ورق الشجر، وبجانبه نرى مصحفاً مصغراً آخر محفوظاً في علبة ذهبية تتوسطها عدسة مكبرة. الكتابة دقيقة جداً، وهو ما يفسر وجود العدسة المكبرة، تقول: «هذا المصحف ليس مكتوباً باليد مثل المصاحف الأخرى هنا، بل مطبوع من قبل دار نشر في غلاسكو في عام 1900 باستخدام تقنية جديدة للطباعة الفوتوغرافية. ومثل هذا النوع من المصاحف المصغرة كانت تطبع لاستخدام الجنود البريطانيين المسلمين في الحرب العالمية الأولى، وكانوا يرتدونها معلقة في قلائد كتعويذة، يقدر سعر المصحف بـ3.5 ألف دولار أما المصحف على هيئة ورقة الشجر فيقدر سعره بـ40 ألف دولار.

مصحف مصغر مطبوع في غلاسكو عام 1900

نمر على «غاليري آري جان» الذي يعرض لوحات المستشرقين من القرن الـ19، ومنها أعمال جاك ماجوريل، ثم نصل إلى جناح «كتب دانيال كاروش النادرة» الذي يعرض مكتبة تضم أكثر من 500 ألبوم صور تحتوي على صور تاريخية للإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والعالم العربي الأوسع. هنا نرى مجموعة من الصور النادرة المكبرة معروضة على كامل الحائط، من ضمنها صور من الجزيرة العربية قديماً، بعضها لأشخاص مشهورين مثل الرحالة غيرترود بيل ولورانس العرب، وغيرها لأشخاص لا نعرف أسماءهم، نرى أيضاً صوراً للكعبة المكرمة وصوراً عامة لأشخاص يرتدون الزي العربي. في الصدارة مجموعة من المجلدات، يقول عنها المشرف على الجناح إنها المجموعة الكاملة التي تضم 33 ألف صورة من 350 ألبوماً، يقول: «إنَّ المجموعة تعود لسيدة من لندن تُدْعَى جيني ألزوث، وإنها جمعت الصور على مدى 25 إلى 30 عاماً. الشيء المثير للاهتمام في هذه المجموعة هو أنها تعبّر عن لمحات من الحياة اليومية في الجزيرة العربية التقطها زوار أوروبيون بريطانيون على مدار 130 عاماً».

صور تاريخية للإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والعالم العربي

يضيف محدثنا أن الصور لم تنشر من قبل، «نأمل أن تقدم هذه الصور سرداً لتاريخ المنطقة لم يوثقه أحد من قبل»، ويقدر سعرها بمبلغ 2 مليون دولار.

ولفت جناح دار «كسكينار - كنت آنتيكس» الأنظار إليه بمجسم لحصان وضع عليه سرج صُنع للسلطان العثماني سليم الثالث (1789-1807) ومزين بـ1036 شكلاً مذهباً، منها أكثر من 500 نجمة فضية، وكل نجمة يصل وزنها إلى 11 غراماً تقريباً، ويصل سعر السرج إلى 3 ملايين دولار.

«فن جريء، فن جديد»

«فن جريء، فن جديد»، بإشراف ميرنا عياد، يعيد عرض أعمال لفنانين مهمين كان لهم أدوار محورية في تاريخ الفن في المنطقة. من خلاله تستعرض صالات من تونس ومصر وفلسطين ولبنان والمملكة العربية السعودية وإيران وفرنسا، مجموعة ملهمة من أعمال الفن الحديث لفنانين وفنانات رواد من أوائل الستينات، وحتى أوائل الثمانينات»، وفي هذا الإطار نستمتع بنماذج رفيعة لرواد أمثال إنجي أفلاطون من مصر ونبيل نحاس من لبنان وسامي المرزوقي من السعودية وغيرهم. الأعمال المعروضة في هذا القسم لها ألق خاص فهي تعيد فنانين حفروا أسماءهم في تاريخ الفنون في بلادهم، وفي الوطن العربي بعضهم انحسرت عنه أضواء السوق الفنية، وأعادها العرض مرة أخرى لدائرة الضوء.

عمل للفنانة المصرية إنجي أفلاطون (الشرق الأوسط)

في «غاليري ون» نرى أعمالاً للفنانة الأردنية الفلسطينية نبيلة حلمي (1940-2011)، يصف موقع المتحف الوطني الأردني أسلوب الفنانة الراحلة بأنه خليط من «الكولاج والألوان المائية والحبر الصيني. تتميز أعمالها الزيتية بشفافية حالمة وعفوية، فيها تجريد تعبيري يتسم بالغموض والنضج الفني». نرى هنا نماذج لأعمالها، ونتحدث مع المشرف على القاعة عنها، يقول إنَّ الفنانة لها أعمال في متاحف عالمية وعربية، ولكنها قليلة في السوق التجارية. الفنانة الثانية هي إميلي فانوس عازر (فلسطينية، مواليد الرملة عام 1949)، ويعرض لها الغاليري أكثر من عمل منها بورتريه لامرأة تنظر إلى الأمام بينما عقدت ذراعيها أمامها، العمل يجبر الزائر على التوقف أمامه والتأمل فيما يمكن أن تخفيه تلك المرأة خلف نظرتها الواثقة والعزيمة التي تنبعث منها.

بورتريه للفنانة إميلي فانوس عازر (الشرق الأوسط)

من مصر يقدم «أوبونتو آرت غاليري» المشارك للمرة الأولى عدداً من أعمال الفنان المصري إيهاب شاكر (1933-2017)، المألوفة للعين، فالفنان له خطوط مميزة رأيناها في أعمال الكاريكاتير التي نشرها في الصحف المصرية. يقول المسؤول عن الغاليري إن شاكر انتقل للعمل في مسرح العرائس مع شقيقه ناجي شاكر قبل أن يسافر إلى فرنسا في عام 1968 حيث عمل في مجال أفلام الرسوم المتحركة، ونال عدداً من الجوائز عن أحد أفلامه. تلفتنا تعبيرات شاكر التي تحمل عناصر شعبية مصرية يقول عنها محدثنا إنَّها تبعث البهجة، ويشير إلى أن الحس الموسيقي يميز أعمال الفنان أيضاً، ويظهر ذلك في الوحدة والتناغم بين العناصر، ويؤكد أن «لديه خطوطاً مختلفة عن أي فنان آخر».

من أعمال الفنان إيهاب شاكر (الشرق الأوسط)

 

في «غاليري بركات» من بيروت نجد مجموعة من الأعمال المتنوعة ما بين اللوحات والمنحوتات الخشبية والبرونزية، يتحدث معنا صالح بركات مالك الغاليري عن الأعمال المعروضة، ويبدأ بالإشارة لعمل ضخم من البرونز للفنان معتصم الكبيسي يمثل أشخاصاً يتهامسون: «يعكس خلفيات المسرح السياسي، الكل يتهامس، وما لا يقال قد يكون أكثر أهمية مما يقال». للفنان جوزف الحوراني منحوتات خشبية تحمل كتابات بالخط العربي، تنتظم ببراعة، وتتضافر في تشكيلات خشبية مدهشة تجعلنا ندور حولها، ونحاول قراءة الجمل المكتوبة، ومنها «مصائب قوم عند قوم فوائد» و«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ». «عبقرية!» يصفها صالح بركات، ويتحدث عن الخط العربي ونقله للعالم المعاصر: «أنا اليوم يعنيني أن نحافظ على تراثنا بطريقة عصرية. نريد أن نأخذ تراثنا للمستقبل».

من أعمال الفنان العراقي سيروان باران (الشرق الأوسط)

ينتقل إلى عملين للفنان سروان بهما الكثير من الحركة، نرى أشخاصاً يتحركون في اتجاهات مختلفة، يحملون حقائب وأمتعة، ليست حركة مرحة بل متعجلة، يعلق: «الفنان لا يتحدث فقط عمّن يرحل، بل أيضاً عمّن يعود، حالات ذهاب وعودة وضياع».

 

الفن السعودي حاضر

عبر مشاركات في «غاليري أثر» و«غاليري حافظ» نرى عدداً من الأعمال الفنية السعودية المميزة، فيعرض «غاليري أثر» مجموعة من أعمال الفنانة المبدعة أسماء باهميم تفيض بالحيوانات الأسطورية وقصص من الخيال مرسومة على الورق الذي تصنعه الفنانة بيدها. للفنانة باهميم هنا مجموعتان جذابتان: «ملاحظات في الوقت» و«فانتازيا». تستكشف الأخيرة الفروق الدقيقة والتعقيدات في سرد القصص. وتتعمق «ملاحظات في الوقت»، وهي سلسلة أحدث، في الفولكلور العربي، وتفحص الأدوار الجنسانية في الحكايات التقليدية وتأثيرها اللاحق على الهوية الثقافية.

من أعمال الفنانة أسماء باهميم (الشرق الأوسط)

كما يقدم «أثر» عدداً من أعمال رامي فاروق الفنية وسلسلة للفنانة سارة عبدو بعنوان «الآن بعد أن فقدتك في أحلامي، أين نلتقي». أما «غاليري حافظ» فيقدم صالتين تتضمنان أعمال مجموعة من الفنانين المعاصرين والحديثين، فيقدم عدداً من أعمال الفنان سامي المرزوقي تتميز بألوانها وخطوطها التجريدية. وفي قسم الفن المعاصر يعرض أعمال الفنانة بشائر هوساوي، التي تستمد فنونها من بيئتها الغنية وذاكرتها البصرية العميقة، باستخدام مواد طبيعية مثل النخيل، وتعبر عن موضوعات مثل الانتماء، والحنين، والهوية الإنسانية المتغيرة. بجانبها يستعرض سليمان السالم أعماله التي تتعمق في الطبيعة الزائلة للوجود. باستخدام تقنيات الطباعة العدسية والفيديو ووسائط أخرى، تستكشف أعماله التفاعل بين الشعور والإدراك والتواصل الإنساني.