حسين الأعظمي: سافرت إلى 85 بلداً و140 مدينة وصرفت 10 سنوات في تأليف كتابي

موسوعة عن أهم المساجد التي بنيت قبل 2020 في ثلاث قارات

مسجد ديان المهري  -  حسين محمود الأعظمي وكتابه
مسجد ديان المهري - حسين محمود الأعظمي وكتابه
TT

حسين الأعظمي: سافرت إلى 85 بلداً و140 مدينة وصرفت 10 سنوات في تأليف كتابي

مسجد ديان المهري  -  حسين محمود الأعظمي وكتابه
مسجد ديان المهري - حسين محمود الأعظمي وكتابه

في مجلد يفوق أربعمائة صفحة من القطع الكبير المربع، صدر الكتاب الموسوعي «الفن الخالد في عمارة المساجد» عن مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، وهو من تأليف وتصوير الفنان العراقي حسين الأعظمي، الذي زار أكثر من مائة مسجد ضمتها دفتا كتابه. والمؤلف خريج معهد الفنون الجميلة في بغداد، كتب عدداً من المسرحيات والسيناريوهات، وكذلك العديد من المقالات في الصحف والمجلات الإماراتية، وحصل على الجائزة الأولى (جائزة العويس للإبداع) عن «أجمل مساجد العالم» 2016.
هنا حوار معه عن كتابه:
> متى وُلدت عندك فكرة تأليف كتاب «الفن الخالد في عمارة المساجد»؟
- كان مشروع هذا الكتاب حاضراً في وجداني وذهني دائماً، تتوارد أمامي الصُّور والمواقف والأحداث التي عشتها، على مدى عشر سنواتٍ، في رحلاتٍ مكوكيَّة حول العالم؛ إذ لم تظل وسيلة نقلٍ إلا واستخدمتها للوصول إلى هذا المسجد أو ذاك، ورغم الشَّقاء والتعب والسَّفر المنهك والتعامل مع مختلف أنواع الأمزجة البشريَّة واللُّغات، التي حرصت على ألا أشغل القارئ بتفاصيلها؛ لأنَّ الهدف من هذا الكتاب هو التعرف على عمارة تلك المساجد. أقول رغم ذلك كلّه، فإنَّ الحصيلة في نهاية المطاف كانت قطافاً مثمراً، آمل من خلاله أن أرفد المكتبة العربيَّة بمرجعٍ جديدٍ حول هذا الموضوع.
> كيف خطرت لك الفكرة... من حبك للعمارة الإسلامية، أم رغبة في التوثيق لهذه المساجد المميزة؟
- جاءت فكرة تأليف الكتاب بعد أن تراكمت المعارف الكثيرة والمعلومات المتشعبة من خلال الرحلات المكوكية التي كنت أقوم بها لمختلف بلدان العالم، حيث كنت أعمل في مجال إنتاج وإخراج البرامج التلفزيونية التي تتعلق بثقافة الحضارة الإسلامية ومعمارها. إثر ذلك، تكونت لدي وعلى مدار عشر سنوات حصيلة معرفية ثرية حول أصول العمارة الإسلامية في المساجد التي زرتها، وارتأيت منذ ذلك الوقت أن أوثّق ما أراه وأجمع حصيلة مشاهداتي في كتاب موسوعي يؤرخ لمرحلة تاريخية مهمة في فن العمارة الإسلامية، وما فيها من قيم جمالية وفنية ظلت صامدة منذ قرون دون أن يؤثر عليها ظروف الغزو أو عامل الزمن. وقد عبّرت عن شغفي بهذا الفن في الكتاب.
> أمضيتَ في تأليف هذا الكتاب نحو عشرة أعوام، هل قمت بدراسة كل مسجد على حدة، وكيف تم اختيار المساجد... حسب أي منهج؟
- تم اختيار المساجد التي كتبت عنها بعد الاطلاع والتعرف عليها، إما عن طريق الشبكة العنكبوتية أو عن طريق وسائل الإعلام الأخرى أو حتى عن طريق الأصدقاء والمعارف الذين أشاروا عليّ بهذا المسجد أو ذاك، أما عن شروط اختيار المسجد فأهم ما يثيرني هو المعمار وتفرده بغض النظر عن مساحته وتكلفة بنائه؛ لأن التنوع في مدارس الهندسة المعمارية لبناء المساجد كان عاملاً مهماً كي لا أقع في التكرار والملل. ومن الطبيعي أن يقع الاختيار على هذا المسجد أو ذاك لأنني أقوم بدراسته كاملاً ومن جميع النواحي بما في ذلك، استحصال الموافقات الرسمية للتصوير والأشخاص الذين سألتقيهم ممن يتحدثون لي عن عمارة المسجد وتاريخه... إلخ، وكل هذا يحصل قبل شد الرحال إليه؛ كي لا أتكبد مشقة الوصول وتذهب جهودي هباءً.
> أكثر من مائة مسجد يتضمنها كتابك، ما هي القارات التي غطتها هذه المساجد، وهل هناك مساجد لم تتمكن من الوصل إليها أو لم تزرها؟
- تناول هذا الجزء من هذه الموسوعة أهم المساجد التي ظهرت ما قبل عام 2020 في القارات الثلاث (آسيا وأوروبا وقسم من أفريقيا) وبالتأكيد لا يمكن الوصول إلى جميع المساجد في كل هذه القارات الثلاث؛ لأني كما أسلفت سابقاً لي شروطي الفنية في تحديدها، وهي فرادة عمارة المسجد وشكله وموقعه وأهميته.
> لم يغطِ الكتاب المساجد الأخرى في المغرب العربي وشمال أفريقيا، هل في النيّة تأليف كتاب آخر يضّمها؟
- تناولنا في هذا الجزء أهم المساجد في منطقة شمال أفريقيا، مثل تلك التي تقع في مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، بالإضافة إلى مساجد دولة جنوب أفريقيا، وقد بلغ عدد مساجد القارة الأفريقية التي تضمنها هذا الجزء (18) مسجداً، وقَطعاً ستكون لنا عودة مرة أخرى لمساجد هذه البلدان، وكذلك المساجد التي تقع في عموم القارة الأفريقية، خاصة تلك التي تقع في مالي وموريتانيا والسنغال وتنزانيا... إلخ.
> ماذا عن المساجد العراقية؟
- تم تضمين الكتاب أهم المساجد في العاصمة بغداد كمسجد أبو حنيفة ومسجد أم القرى ومسجد أم الطبول، وستكون لنا وقفة مطولة في الأجزاء القادمة من الكتاب للمساجد العراقية الأخرى في مختلف المدن.
> الجمع بين التأليف والتصوير... هل كانت مهمة صعبة أو مكلمة لبعضها؟
- هي صعبة من جهة، ولكنها مثمرة من جهة أخرى، حيث تأتي المعلومة مكملة للصورة والعكس صحيح، وحينما يكون الشخص ذاته من يضع المعلومة ويلتقط الصورة، فيؤدي ذلك إلى نوع من التكامل الذي يصل إلى أوسع مدياته.
> كتابك يجمع بين أدب الرحلة والمتعة البصرية والمعلومات التوثيقية، هل اخترت هذا المنهج في تأليف كتابك؟
- أعتبر الكتاب رحلة لم أتوقف طويلاً عند تصنيفها بل تركت للقارئ والناقد اختيار التصنيف الذي يرتأيه. المهم عندي هو توثيق هذه الرحلات بما يخدم المتلقي إن كان قارئاً للمتعة الأدبية والفنية أو كان معمارياً هندسياً أو حتى مؤرخاً. الكتاب عبارة عن وثيقة تاريخيّة ومادة علميّة، يستفيد منها الباحث والمهندس وطالب الهندسة المعماريّة وفنانو الزّخرفة والخطِّ العربيِّ.
> هل يمكن اعتبار كتابك الأول من نوعه في توثيق المساجد المذكورة وتعريفها للقارئ العربي خاصة النائية منها؟
- هو ليس أول كتاب يرفد المكتبة العربية في هذا المجال ولكن على حد علمي أنه أشمل وأوسع وأول كتاب جمع بين دفتيه هذا العدد الكبير من المساجد على اختلاف مدارسها العمرانية والتاريخية وتنوع المناطق الجغرافية التي انتشرت على رقعتها هذه المساجد.
> ما هي أهم الحوادث والمفارقات التي صادفتها أثناء تأليفك للكتاب، أو بالأحرى ما هي الصعوبات والعراقيل التي واجهتها؟
- حينما تسافر وعلى مدى عشر سنوات متواصلة لأكثر من 85 بلداً ولأكثر من 140 مدينة حول العالم، وتستخدم كافة وسائط النقل من طائرات وسيارات وسفن وحتى دراجات هوائية، وتتعامل مع عشرات الجنسيات وبلغات متعددة، ستواجه، بلا شك، العديد من المفارقات والمواقف المحرجة والصعبة والطريفة ولكنني حرصت على ألا أشغل ذهن القارئ للكتاب بهذه الأمور؛ لأن جل تركيزي انصّب على التناول الفني الهندسي لبناء المساجد وعمارتها.
> هل حاورت الناس الذين كانوا يأمّون هذه المساجد وسألتهم عن رأيهم فيها، وما هي احتياجاتها، وكذلك أئمتها؟
- بالتأكيد، وإلا من أين استقيت المعلومات التي وردت في الكتاب والتي غالبيتها جاءت عن طريق إدارات المساجد من كتيبات ونشرات وأوراق تاريخية ومعلومات شفاهية... إلخ، هذا بالإضافة إلى المعلومات التي يزودني بها أحياناً زائرو تلك المساجد وبالذات كبار السن، حيث يمتلكون ذاكرة قوية وغنية بالمعلومات أثرت مادة الكتاب العلمية.
> لماذا لم يضم كتابك مساجد مكة المكرمة والمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى؟
- لم أتطرَّق هنا لأي معلوماتٍ، أو صورٍ، تتعلَّق بالأماكن المقدَّسة الثَّلاثة، مكة المكرمة والمسجد النَّبوي الشريف والمسجد الأقصى المبارك؛ لأنها تتجاوز كونها مساجد شُيدت من قِبل أشخاصٍ أو مؤسَّساتٍ، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، أن الأماكن المقدَّسة تتوافر عنها الكثير من المعلومات والصُّور في كلِّ مكانٍ، بطبيعة الحال. سعيتُ لتقديم خريطة متكاملة لفنِّ العمارة الإسلاميّة، على مختلف مراحل تطوّرها، بدءاً من عمارة شبه الجزيرة العربيّة ومن ثمَّ الأمويّة والعباسيّة، مروراً بالمملوكيّة والفاطميّة والعثمانيّة، وانتهاءً بالمدارس المعاصرة لفنِّ العمارة، ولا ننسى كذلك عمارة الموحّدين والمُرابطين في شمال أفريقيا، وحتماً فإنَّ الأجزاء المقبلة من الكتاب ستغطّي المساجد الأُخرى، التي لم يرد ذكرها في هذا الجزء.
> هل كانت لديك خطة في رحلاتك إلى هذه المساجد التي كتبت عنها؟
- سيجد القارئ في هذا الجزء مساجد قارّتي آسيا وأوروبا وجزءاً من القارة الأفريقية، وسنواصل العمل للوصول إلى مساجد القارّات الأُخرى، وقد جاء ترتيب فصول هذا الكتاب بما يشبه المسح الجغرافي المتزامن مع حركة دوران الشَّمس، حيث بدأنا بمساجد أقصى قارّة آسيا، وانتهينا بأقصى قارّة أوروبا، مروراً بجنوب وغرب وشرق آسيا وشبه القارّة الهنديّة ومناطق القوقاز والبلقان وشبه الجزيرة العربيّة والشَّق الأوسط وشمال أفريقيا، ثم واصلنا السّير باتجاه أوروبا حتى بلغنا المنطقة الاسكندنافية، لننهي رحلة الجزء الأول من هذا الكتاب في أقصى الشّمال البريطانيّ.
> هل في النيّة ترجمة كتابك إلى اللغة الإنجليزية ليطلع عليه القرّاء من أنحاء العالم؟
- نعم، هناك خطة لترجمة الكتاب إلى لغات عالمية عديدة من قِبل مركز اللغة العربية في أبوظبي، وهي الجهة التي نشرت هذا الكتاب والتي لولا جهودها الجبارة وحرصها على إظهار هذا الكتاب على أفضل حال لما خرج إلى النور، حيث حرصت إدارته على اختيار أفضل أنواع الورق وأفضل التصاميم الفنية واختارت لطباعته أهم المطابع في الدولة ليظهر بهذا الرونق الذي ظهر به. وهنا أوجه جزيل شكري للدكتور علي بن تميم، رئيس المركز، وسعيد حمدان الطنيجي، المدير التنفيذي، على جهودهما الجبارة لإخراج هذا الكتاب إلى النور.


مقالات ذات صلة

أسامة منزلجي... مبدع كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

ثقافة وفنون أسامة منزلجي

أسامة منزلجي... مبدع كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري.

فخري كريم
ثقافة وفنون «مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

«مزرعة السلاحف»... شعرية البحث عن الطمأنينة

يعبر ديوان «مزرعة السلاحف» للشاعر المصري عيد عبد الحليم، الفائز بجائزة أفضل ديوان شعر فصحى في الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة للكتاب، عن حالة شعورية واحدة

عمر شهريار
ثقافة وفنون «الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

«الأفكار هي الأشياء»... السعادة من وجهة نظر فلسفية

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة حديثة من كتاب «الأفكار هي الأشياء» للفيلسوف الأميركي برنتيس مالفورد

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب كارل يونغ

هل كان كارل يونغ عنصريّاً؟

ربما يكون كارل غوستاف يونغ (1875 - 1961)، عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي، أحد أهم مفكري القرن العشرين الذين لا يزال تأثيرهم طاغياً على فهم الإنسان

ندى حطيط
كتب حديقة الأزبكية

القاهرة التاريخية في عيون الكاميرا

يكشف الباحث والمؤرخ الدكتور خالد عزب في كتابه «القاهرة... الذاكرة الفوتوغرافية» - دار «ديوان» بالقاهرة - وعبر الكاميرا، عن سحر العاصمة المصرية

رشا أحمد (القاهرة)

سليمان بشير ديان: صورة الإسلام كانت رائعة إبان العصر الذهبي

سليمان بشير ديان: صورة الإسلام كانت رائعة إبان  العصر الذهبي
TT

سليمان بشير ديان: صورة الإسلام كانت رائعة إبان العصر الذهبي

سليمان بشير ديان: صورة الإسلام كانت رائعة إبان  العصر الذهبي

ربما كان سليمان بشير ديان أهم مثقف سنغالي في هذا العصر. وهو على أي حال أحد فلاسفة الإسلام المعدودين حالياً. وهو من مواليد 1955 ويحتل الآن منصب أستاذ اللغة الفرنسية والفلسفة الإسلامية في جامعة كولومبيا بنيويورك. وقد كان مستشاراً خاصاً للرئيس عبدو ضيوف لعدة سنوات متتالية. وبالتالي فهو شخصية وطنية وعالمية في آن معاً. وقد اشتهر منذ أن كان قد نشر كتابه الكبير عن الشاعر والفيلسوف الباكستاني الشهير محمد إقبال بعنوان: «الإسلام والمجتمع المنفتح: القدامة والتجديد في فكر محمد إقبال». كما اشتهر بكتابه الذي صدر لاحقاً تحت اسم: «كيف يمكن أن نتفلسف في أرض الإسلام؟»، وهو يرد على الغرب الذي يتهم الإسلام بالأصولية والتطرف بأنه مخطئ ومتحيز وظالم. فالإخلاص للإسلام والتمسك به لا يعنيان إطلاقاً التطرف، بشرط أن نفهمه بشكل متنور صحيح. وذلك لأن الغرب يجهل أنه يوجد مفهومان للإسلام وليس مفهوماً واحداً: الأول وسطي عقلاني متسامح، والآخر أصولي متشدد. وهذا التمييز الأساسي هو الذي يفصل بين مثقفي التطرف والتعصب من جهة، والمثقفين الحداثيين التنويريين من جهة أخرى. حسن البنا ليس الإمام محمد عبده، وسيد قطب ليس العقاد ولا طه حسين، والقرضاوي ليس محمد أركون. وهذان المفهومان أو التفسيران الكبيران للإسلام متصارعان الآن ومتنافسان في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي. بل كانا متصارعين على مدار التاريخ. الغزالي ليس ابن سينا ولا ابن رشد، وابن تيمية ليس ابن عربي ولا الفارابي ولا المعري، إلخ. نضرب على ذلك مثلاً تفسير سورة الفاتحة وبخاصة المقطع التالي: «اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين». فالمتطرفون في الإسلام قديماً وحديثاً فهموا أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى أو المسيحيون. ولكنَّ هذا تفسير خاطئ تماماً لأشهر سورة في القرآن الكريم. فالمغضوب عليهم والضالون هم كل أولئك الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم: أي عن خط التقى والورع والاستقامة في الفكر والعمل والسلوك. وهؤلاء قد يكونون مسلمين أيضاً لأنه يوجد مسلمون أخيار ومسلمون أشرار، مثلما يوجد يهود أخيار ويهود أشرار، أو مسيحيون أخيار ومسيحيون أشرار. وبالتالي فالتفسير الانغلاقي الطائفي للإسلام خاطئ من أساسه، وهو الذي سيؤدي إلى فشل مشروع الإخوان والخمينيين وكل المتطرفين على الرغم من شعبيتهم في الشارع حتى الآن. وذلك لأنه مضاد لحركة وفلسفة التاريخ. إنه مضاد لروح الأزمنة الحديثة وجوهرها. بل مضاد لجوهر الإسلام نفسه إذا ما فهمناه على حقيقته. ولكن المشكلة هي أنه لا يزال مهيمناً على الشارع حتى الآن ويشكل تياراً جارفاً. انظر زمجرات المتطرفين في كل مكان. انظر تسجيلاتهم النارية الهيجانية المصوَّرة التي يبثّونها على شبكات التواصل الاجتماعي والتي يهددون بها حكوماتهم وبلدانهم. ينبغي العلم أن تراثنا من أعظم التراثات الدينية للبشرية. إنه يعلِّمنا قيم الحق والعدل والقسطاس المستقيم. إنه موجَّه لخير البشرية جمعاء وهدايتها وليس فقط لخيرنا نحن المسلمين. فمتى سنفهمه ونفهم سورة الفاتحة على حقيقتها؟ متى سنخرج من تفاسير العصور الوسطى وندخل في تفاسير العصور الحديثة؟

على هذا النحو نفهم الفرق بين المفهوم الانغلاقي الطائفي للدين، والمفهوم المستنير اللاطائفي للدين ذاته. بهذا المعنى نفهم أن المسلم الحقيقي هو ذلك الذي يُخلص لجوهر الإسلام وسماحته: أي للمعاملة الحسنة ومكارم الأخلاق والانفتاح على الآخرين وعدم تحقيرهم أو تكفيرهم أو ازدراء كرامتهم الإنسانية. وهذا ما نصحنا به الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي عندما قال هذه العبارة البليغة: «لن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقِّر جميع الخلائق ولا تحتقر مخلوقاً ما دام الله قد صنعه». وهو ما يقوله بشكل آخر الفيلسوف السنغالي المسلم المعتز كل الاعتزاز بإسلامه: البروفسور سليمان بشير ديان.

يرى هذا المفكر أن صورة الإسلام كانت رائعة إبان العصر الذهبي. ولكن كثرة الأعمال الإرهابية التي ارتُكبت باسمه في العقود الأخيرة شوَّهت صورته في شتى أنحاء العالم. ولهذا السبب لم يعد يتجرأ أحد على الربط بين الإسلام والفلسفة، أو بين الإسلام والعقلانية، أو بين الإسلام والتسامح، أو بين الإسلام وحقوق الإنسان. لقد حوَّل المتطرفون الإسلام إلى بعبع مخيف يُرعب البشرية كلها، في حين أنه جاء رحمةً للعالمين. لهذا السبب فشل المشروع الأصولي الإخواني - الخميني، ليس لأن الغرب ضده أو العالم كله ضده... إلخ، وإنما فشل لأنه ضد حركة التاريخ. نقطة على السطر.

ثم يضيف هذا المفكر المرموق قائلاً ما معناه: لقد كان للمفهوم الأصولي للدين دائماً مشكلات مع الفلسفة. وهذه الحالة لا تخص عالم الإسلام فقط وإنما كانت تخص أيضاً العالم المسيحي والعالم اليهودي. كلها كانت لها مشكلات مع الفلسفة. كلها كانت تَعدّ الفلسفة مجرد خادمة ذليلة لعلم اللاهوت الديني. ولكن الفرق هو أن اليهود والمسيحيين في أوروبا تطوروا وغيَّروا نظرتهم بعد عصر التنوير الكبير في حين أن المسلمين ظلوا منغلقين داخل مفاهيم العصور الوسطى التي عفى عليها الزمن. هنا تكمن المشكلة الحقيقية. المسلمون لم يمروا حتى الآن بمرحلة الغربلة التنويرية الكبرى لتراثهم العظيم. ولكنهم أصبحوا على أبوابها!

على أي حال لم يكن من السهل على هذه الأديان الإبراهيمية الثلاثة التي أُقيم لها صرح شامخ في أبوظبي أن تستقبل الفلسفة الإغريقية، لسبب بسيط؛ هو أنها كانت تعد بمثابة فلسفة وثنية كافرة. يضاف إلى ذلك أن الفلسفة الإغريقية تقدم نفسها على أنها حكمة بشرية وليست وحياً إلهياً نازلاً من السماء. وعلماء الإسلام والمسيحية واليهودية كانوا يتساءلون: هل يمكن أن يوجد فكر بشري يستحق الاعتبار والاحترام؟ ما قيمته بالقياس إلى الوحي الإلهي السماوي الذي نمتلكه والذي يُغنينا عن كل شيء؟ ما قيمة كلام أفلاطون وأرسطو وأبيقور بالقياس إلى كلام التوراة والإنجيل والقرآن؟ الجواب تجدونه عند ابن رشد المسلم، وعند توما الأكويني المسيحي، وعند موسى بن ميمون اليهودي العربي. قلتُ «العربي» لأنه ألَّف رائعته الفلسفية «دلالة الحائرين» باللغة العربية. وكل من أبدع بالعربية فهو عربي ثقافةً وحضارةً. كلهم أخذوا على محمل الجد نصوص الفلسفة وصالحوا بطريقة أو بأخرى بين الوحي الإلهي والفلسفة اليونانية. كلهم صالحوا بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والنقل. وهذا هو المعنى الحرفيّ لعنوان كتاب ابن رشد الشهير: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال».

كان للمفهوم الأصولي للدين دائماً مشكلات مع الفلسفة... وهذه الحالة لا تخص عالم الإسلام فقط وإنما أيضاً العالم المسيحي والعالم اليهودي

ولكن هنا يطرح اعتراضٌ وجيه نفسَه: إذا كان الانفتاح على الفلسفة لم يعد يمثل أي مشكلة بالنسبة إلى اليهود أو المسيحيين الأوروبيين، فلماذا لا يزال يمثل مشكلة حقيقية وعرقلة كبرى بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين؟ الجواب هو التالي: لسبب بسيط؛ هو أن التنوير نجح في أوروبا ولم ينجح حتى الآن في العالم العربي أو الإسلامي. هنا تكمن المعضلة الحقيقية والعقبة الكأداء. نقول ذلك ونحن نعلم أن الفلسفة لا تشكِّل أي خطر على الدين. الفلسفة تُكمل الدين والدين يُكمل الفلسفة، كما قال كانط. حيث تنتهي حدود العقل تبتدئ حدود الإيمان. الفلسفة تساعدنا على فهم جوهر الدين. إنها لا تشكل خطراً إلا على الفهم الظلامي والتكفيري للدين. أما الفهم المستنير المتسامح فلا خوف عليه ولا هو يحزن. كبار فلاسفة التنوير الأوروبي كانوا مؤمنين.

ثم يقول لنا هذا الفيلسوف السنغالي المسلم ما معناه: تكفير الفلسفة قديم جداً في تاريخنا، وهو يعود إلى الإمام الغزالي. وهو شخصية دينية كبرى بل يعدّ حجة الإسلام وبحق لأنه كان عالماً كبيراً متبحراً في الدين بل في الفلسفة أيضاً! على الرغم من ذلك فقد اتهم الفلاسفة بالهرطقة والزندقة والخروج عن ملة الإسلام. ولكنه في الوقت نفسه كان يتبع منهجهم الدقيق في الدراسة والبحث الذي هو مسار فلسفي أيضاً. كان يقلِّد ابن سينا ويستفيد منه ومن أفكاره كثيراً ثم بعد كل ذلك يكفّره! انظروا بهذا الصدد الكتاب القيم للباحث الجزائري البارز الدكتور عمر مرزوق: «ابن سينا أو إسلام الأنوار». أكملت قراءته للمرة الثانية مؤخراً دون أن أشبع منه. هنا يكمن وجه الغرابة والتناقض في شخصية عظيمة وإشكالية كبرى مثل شخصية الإمام الغزالي. مشكلته أنه غاص في التصوف والغيبيات أكثر مما ينبغي، ونسي الحقائق المحسوسة والماديات وقوانين الطبيعة. بل عطَّل قانون السببية الذي من دونه لا عقل ولا عقلانية. بدءاً من تلك اللحظة دخل العالم الإسلامي في عصور الانحطاط الطويلة التي لم نخرج منها حتى الآن.

أخيراً، وبه نختم: إذا كان كبار فقهاء العصور الوسطى، بل حتى ابن خلدون، قد أدانوا الفلسفة اليونانية سابقاً فما بالك بالفلسفة الأوروبية الحديثة التي تجاوزت الفلسفة اليونانية بسنوات ضوئية؟ إذا كانوا قد أدانوا أفلاطون وأرسطو، فما بالك بديكارت وسبينوزا ولايبنتز وفولتير وروسو وديدرو وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد وهيدغر وبرغسون وبول ريكور وهابرماس... إلخ؟ تفاوُت تاريخي أو هوة سحيقة يستحيل ردمها في المدى المنظور.