أسامة منزلجي... مبدع كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

لم يكن مجرد ناقل للنصوص... بل صانعها الجديد

أسامة منزلجي
أسامة منزلجي
TT

أسامة منزلجي... مبدع كان مهموماً باكتشاف ما يُغني ثقافتنا!

أسامة منزلجي
أسامة منزلجي

تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري. ورغم اعتذاراتي التي لم تتوقف حتى آخر اتصال بيننا، ظل يوحي كما لو أنه لا يعرف سبب الاعتذار، مُضمراً هو الآخر أسفاً على تسرّعٍ في التباسٍ عابر.

وهكذا بدأت رحلة تعاون لم تنقطع على مدى أكثر من عقدين من الزمن. كان أسامة منزلجي* لا يفارق مكتبه في غرفته المسوّرة بالصمت والعزلة الإبداعية، حيث العوالم الافتراضية بأبطالها وحكاياتها وأحداثها تُغني عزلته وتبهره بقيمها الجمالية، وترتقي به إلى حيث يتجاوز الواقع التافه والمتداعي واللامجدي.

لم يكن بحاجة إلى السفر أو المغامرة، لأن الكتب التي ترجمها كانت جواز سفره إلى حيوات لم يعشها أبداً، لكنها عاشت فيه.

كانت الترجمة بالنسبة له أكثر من مجرد عمل، بل كانت وسيلته السرية للتمرد، وطريقه الوحيد لملامسة الحافة الخطرة التي لم يقترب منها في واقعه اليومي.

من «الإغواء الأخير»، أول منجز نشره مع «المدى»، تابعت حيويته ونشاطه وثراء معرفته وتفاصيل ما يعيد خلقه وهو يترجم عيون الأدب العالمي، وفقاً لرؤية صادمة ومحاكاة لما كان يتوق إليه من حياة يتطلع إليها، قد تكون نقيضاً لواقعه المعيش. وحتى آخر عمل خطته يداه، كانت كل ترجمة يخوضها نوعاً من العيش البديل. لم يكن مجرد ناقل للأدب، بل كان كائناً يعيش داخل النصوص، يتماهى مع شخصياتها، ويعيد خلقها بلغته، مانحاً إياها بُعده الخاص. كانت كل كلمة يخطها طريقاً إلى الحياة التي لم يعشها، وكل جملةٍ مغامرةً لم يختبرها إلا عبر الصفحات. وبهذا الشغف العشقي، تكاملت أدوات أسامة منزلجي، وقد كان من بين أغلب مترجمي «المدى» هو من ينتقي الأعمال التي يتولى ترجمتها، واختياراته كلها تعكس سويته وتنبض بحساسيته ورهافة مشاعره الكامنة، بينما تثير الكثير من الأعمال المنتقاة المنشورة تساؤلاً لافتاً: لماذا كانت أبرز تلك الأعمال نقيض حياته الشخصية؟ فأُسامة العصامي، المفتون بالاكتفاء ربما على كل صعيد، المنعزل عن صخب الحياة وضجيجها، المتصوف «المترهبن» رغم اعتراضه على التوصيف، مستعيضاً عنه بالقول «أسلوب حياة محسوب بدقة» كما يذكر صديقه الكاتب والمترجم زياد عبد الله، يجد شغفه في اختيار أعمال تضج بكل ما هو ضد وصادم، كل ما هو منشغل بالمتع والملذات ومتجاوز لكل تحريم. لماذا اختار عملي هنري ميللر «ثلاثية الصلب الوردي» و«مدار السرطان» التي حاولت صديقته الوفية أناييس نن نشرها في الولايات المتحدة ولم تجد إلى ذلك سبيلاً، فطُبعت في باريس عام 1934، ولتتفنن بعدئذٍ في تهريب نسخ منها إلى الولايات المتحدة، بينما لم يجد عزرا باوند وهو يقرض الرواية سوى القول: «هاكم كتاب قذر يستحق القراءة!»، ولم يجاهر ت. إس. إليوت بإعجابه الشديد بها، مكتفياً بتوجيه رسالة إلى ميللر يثني عليها.

لم يكن اختياره عملي هنري ميللر «مدار السرطان» و«ثلاثية الصلب الوردي» اعتباطياً، بل كان انعكاساً لرغبة دفينة في استكشاف النقيض المطلق لحياته. كان أسامة العصامي، المنعزل، المتقشف، الذي يقضي أيامه في صمت مدروس، ينتقي أعمالاً تضج بالحياة الصاخبة، المغامرة، الجنس، التمرد، وكأنه يعيد تشكيل عالم لم يُكتب له أن يكون جزءاً منه. كان يعيش حياة المؤلفين الذين ترجمهم دون أن يغادر غرفته، يرافقهم في تيههم بين القارات، يتنقل معهم بين فنادق رخيصة وكهوف مظلمة، يشرب معهم في حانات باريس، ويشقى معهم في فقرهم المدقع.

لم يكن أسامة بحاجة إلى السفر أو المغامرة، لأن الكتب التي ترجمها كانت جواز سفره إلى حيوات لم يعشها أبداً

لماذا كان هذا الانجذاب إلى حياة لم يعشها؟ هل كان يحاول موازنة عزلته؟ أم كان يرى في الترجمة نوعاً من «الحياة البديلة» التي اختبرها دون أن يدفع ثمنها؟ مهما كان الجواب، فقد كان أسامة مترجماً لا يُشبه غيره. لم يكن مجرد ناقل للنصوص، بل كان صانعها الجديد، يبث فيها روحه، يذيب شخصيته في شخصياتها، حتى تكاد تلمح صوته بين الأسطر.

لم يكن من أولئك الذين يتباهون بأعمالهم، ولا من أولئك الذين يلهثون خلف الأضواء. كان مترجماً يعيش في الظل، تماماً كما كان يعيش في الحياة. اختار أن يترجم أدب المغامرة دون أن يغامر، أدب التهتك دون أن ينغمس فيه، أدب الفوضى وهو في عز انضباطه.

رحل أسامة في غمضة عين، مستريحاً وهو نائم إلى حيث النوم الأبدي. وكأن كل تلك الحيوات التي عاشها بين الكلمات قد استنزفت طاقته على الحياة. لكنه ترك خلفه إرثاً من الترجمة لم يكن مجرد نقل للمعنى، بل كان استنساخاً لروح النص، ومرآةً تعكس روحه هو، تلك الروح التي ظلَّت تبحث عن حيواتٍ لم تكن لها، حتى صارت جزءاً منها. لقد عوض نمط حياته الهادئ بترجمة المغامرين والمتمردين والمتهتكين وكأن الترجمة كانت طريقه الوحيد لخوض الحياة التي لم يعشها. نوع من الاغتراب العكسي، حيث لم يكن بحاجة إلى السفر الجسدي لأنه سافر عبر النصوص، وعاش حيوات بديلة من خلال الكلمات التي كان ينقلها.

* المترجم السوري الذي رحل في السابع من هذا الشهر، مخلفاً وراءه أكثر من ستين كتاباً مترجماً من أمهات الأدب العالمي. 

 


مقالات ذات صلة

الروائي الكويتي هيثم بودي: «الملاحم» الخليجية كنز لم يكتشف بعد

ثقافة وفنون هيثم بودي

الروائي الكويتي هيثم بودي: «الملاحم» الخليجية كنز لم يكتشف بعد

تختزن في ذاكرتنا بالخليج العديد من السنوات الصعبة، التي لم تجد تصويراً مناسباً لها في الأعمال الأدبية، سنوات عرفت باسم المرض؛ كسنوات الجدري والطاعون والكوليرا،…

ميرزا الخويلدي (الكويت)
ثقافة وفنون الفن روح لا تموت

الفن روح لا تموت

كتب ليوناردو دافنشي عبقري الفنون الكلاسيكية ذات مرة: «الجسد الجميل يفنى، لكن العمل الفني الجميل لا يموت».

خالد الغنامي
ثقافة وفنون أر.إس . توماس

وصايا الشعراء... خرائط لمجاهيل القصيدة

نصائح الأدباء الذين أمضوا زمناً طويلاً في ممارسة الكتابة الإبداعية إلى الأجيال الشابة السالكة دروبَ الأدب حديثاً، في مؤداها، حديث الذات المرتد إلى تجربة...

كاظم الخليفة
ثقافة وفنون «سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

في روايته الأحدث «سيرة الفيض العبثية»، الصادرة عن دار «الفرجاني» في القاهرة، يسعى الروائي الليبي صالح السنوسي لتأريخ مرحلة تاريخية ممتدة في سيرة منطقة «الفيض»

عمر شهريار
ثقافة وفنون رواية عن الزنازين السورية

رواية عن الزنازين السورية

في عمله الروائي الجديد «جدران تنزف ضوءاً»، ينقل الكاتب السوري الكردي ماهر حسن القارئ إلى قلب الزنازين السورية، حيث يتحول المكان الضيق إلى عالم متكامل

«الشرق الأوسط» (برلين)

كونان أوبراين يتسلم «جائزة مارك توين للفكاهة»

كونان أوبراين (أ.ب)
كونان أوبراين (أ.ب)
TT

كونان أوبراين يتسلم «جائزة مارك توين للفكاهة»

كونان أوبراين (أ.ب)
كونان أوبراين (أ.ب)

في ليلةٍ سخر فيها أشخاص عدة من كون هذه آخر جائزة لمارك توين على الإطلاق، حرص الفائز كونان أوبراين على أن يُختتم الحفل في مركز «جون إف كيندي للفنون الأدائية» بنهايةٍ رائعة.

وقد تسلم أوبراين الجائزة عن مجمل أعماله الكوميدية ليلة الأحد، ولم يفته أن يتحدث عن الاضطرابات التي تُخيم على مستقبل المركز الثقافي في واشنطن.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أنه تم اختيار أوبراين، البالغ من العمر 61 عاماً، ليكون الفائز السادس والعشرين بـ«جائزة مارك توين» في منتصف يناير (كانون الثاني)، أي قبل نحو ثلاثة أسابيع من الانقلاب الذي أحدثه الرئيس دونالد ترمب على «مركز كيندي» بإقالة الرئيسة ديبورا روتر، التي شغلت المنصب لفترة طويلة، ورئيس مجلس الإدارة ديفيد روبنشتاين. أقال ترمب مجلس الأمناء واستبدل بهم موالين له انتخبوه رئيساً.

ونقلت الوكالة مقتطفات من كلمة الفائز أوبراين شكر فيها رئيس مجلس الإدارة المُقال روبنشتاين والرئيسة السابقة للمركز وروتر بشكل خاص؛ ما أثار تصفيقاً حاراً، وكذلك أشاد بموظفي «مركز كيندي» الذين، كما قال، كانوا «قلقين بشأن ما قد يحمله المستقبل». وأضاف أن مثال حياة مارك توين ومسيرته المهنية كان لهما صدى خاص في هذه اللحظة من التاريخ الأميركي. وقال أوبراين: «كان توين يكره المتنمرين... وكان يتعاطف بشدة مع الضعفاء. أحب توين أميركا، لكنه كان يعلم أنها تعاني عيوباً عميقة». ثم خرج شخص مقلداً لمارك توين من بين الجمهور. وبعد نقاش حاد مع أوبراين، انضم إليه على المسرح ورقص الاثنان ببطء لبعض الوقت. ثم انضم إليهما اثنا عشر مُقلداً آخرون لتوين، بالإضافة إلى آدم ساندلر، الحائز سابقاً «جائزة توين»، لتقديم أداء صاخب لأغنية نيل يونغ «روكين إن ذا فري وورلد» (ترجح في العالم الحر). اختتمت تلك النهاية الموسيقية ليلةً خيّم فيها غموض مصير «مركز كيندي» نفسه.

وذكرت الممثلة الكوميدية نيكي غلاسر قبل الحفل: «أعتقد أنه من الجنون عدم التطرق إلى المشكلة الجوهرية. الأمر واضحٌ الليلة. هذه الليلة تدور حول كونان، لكن يمكن أن يكون كلاهما». بمجرد بدء الاحتفالات، مازح أوبراين ستيفن كولبير قائلاً إن «مركز كيندي» قد أعلن عن عضوين جديدين في مجلس الإدارة: بشار الأسد، الرئيس السوري المخلوع، وسكيليتور، الشرير الخارق الخيالي. وأضاف جون مولاني مازحاً أن المبنى بأكمله سيُعاد تسميته قريباً بـ«جناح روي كوهن» تيمّناً بأحد مرشدي ترمب. وأطلقت سارة سيلفرمان الكثير من النكات عن ترمب، التي كانت بذيئةً جداً بحيث لا يمكن نشرها. وعند إعلان ترمب عن تغييرات «مركز كيندي»، نشر على وسائل التواصل الاجتماعي أن أولئك الذين طُردوا «لا يشاركوننا رؤيتنا لعصر ذهبي في الفنون والثقافة». يبقى أن نرى كيف ستتشكل هذه الرؤية، لكن ترمب تحدث عن رغبته في حجز المزيد من عروض برودواي هناك وطرح فكرة تكريم «مركز كيندي» للممثل سيلفستر ستالون والمغني وكاتب الأغاني بول أنكا. ودخل أوبراين، الذي لم تكن شخصيته الكوميدية سياسية بشكل خاص في هذه الدوامة.

وكان معروفاً عن أوبراين ميله إلى السخرية من نفسه، لكنه انخرط أيضاً في قضايا مجتمعية حساسة في بعض الأحيان. وقفز أوبراين إلى دائرة الضوء من الغموض شبه الكامل في عام 1993 عندما تم اختياره ليحل محل ديفيد ليترمان مقدماً لبرنامج «ليت نايت» على الرغم من عدم امتلاكه خبرة كبيرة أمام الكاميرا. وكان المحرر السابق لصحيفة «هارفارد لامبون» قد أمضى السنوات السابقة كاتباً في برنامجي «ساترداي نايت لايف» و«ذا سيمبسونز»، حيث ظهر أمام الكاميرا فقط كومبارساً خلفياً في مشاهد «ساترداي نايت لايف». واستمر في تقديم برنامج «ليت نايت» لمدة 16 عاماً، وهي مدة أطول من أي مقدم آخر. وتم اختيار أوبراين لاحقاً ليحل محل جاي لينو مقدماً لبرنامج «ذا تونايت شو»، لكن هذه التجربة انتهت بفشل علني. بعد سبعة أشهر، أعاد المسؤولون التنفيذيون في NBC تكليفه برنامجاً جديداً من شأنه أن يعيد برنامج «ذا تونايت شو». لكن أوبراين رفض قبول هذه الخطوة؛ ما أدى إلى خلاف علني انتهى بدفع ملايين الدولارات لأوبراين وموظفيه لمغادرة الشبكة في أوائل عام 2010. استمر أوبراين في تقديم برنامج حواري آخر على قناة الكابل TBS، بينما أطلق بودكاست وبرامج سفر ناجحة.

حظيت سلسلة رحلاته «كونان أوبراين يجب أن يرحل» بإشادة شعبية ونقدية، مع اقتراب موسم ثانٍ. وقد لاقى عرضه الأخير في حفل توزيع جوائز الأوسكار استحساناً كبيراً لدرجة أن المنتجين أعلنوا عن إعادته العام المقبل. عقب استيلاء ترمب على «مركز كيندي»، أعلن الكثير من الفنانين، بمن فيهم منتجو «هاميلتون» والممثلة والكاتبة إيسا راي، عن إلغاء عروضهم في المكان. واختار آخرون الأداء مع التعبير عن آرائهم المعارضة من على المسرح.

أعلن أوبراين مازحاً أن «مركز كيندي» قبل عضوين جديدين في مجلس الإدارة: بشار الأسد، الرئيس السوري المخلوع، وسكيليتور، الشرير الخارق الخيالي