للتدين وجوه وسوسيولوجيا

صورة وزّعها إعلام الفاتيكان لمؤمنين قبل أيام في ساحة القديس بطرس (إ.ب.أ)
صورة وزّعها إعلام الفاتيكان لمؤمنين قبل أيام في ساحة القديس بطرس (إ.ب.أ)
TT

للتدين وجوه وسوسيولوجيا

صورة وزّعها إعلام الفاتيكان لمؤمنين قبل أيام في ساحة القديس بطرس (إ.ب.أ)
صورة وزّعها إعلام الفاتيكان لمؤمنين قبل أيام في ساحة القديس بطرس (إ.ب.أ)

التدين هو الإيمان بما جاء في الدين من عقائد، وتطبيق ما جاء به من تعليمات. هذا هو التدين كما يبشر به الدعاة، متمنين لو أن الناس يلتزمون بدقة بما ورد في النصوص المقدسة. التدين سوسيولوجياً ليس بهذه البساطة، فالناس يتدينون بطرق متعددة، ويمنحون لأنفسهم قدراً كبيراً من الحرية في اختيار نوع التدين الذي يناسبهم.
في دراسات مختلفة تم تنفيذها على المجتمع الأميركي عام 2007 ظهر أن 83 في المائة من الأميركيين لهم انتماء ديني، وأن 71 في المائة منهم لديهم يقين مطلق في الله، وأن 56 في المائة منهم يرون أن للدين أهمية كبيرة جداً في حياتهم، وأن 39 في المائة منهم يواظبون على الصلاة في الكنيسة أسبوعياً. نوعياً، الفروق بين هذه المجموعات كبيرة جداً، ومع ذلك فقد وصف كل هؤلاء أنفسهم بأنهم متدينون، إن لم يكن لشيء فعلى الأقل لأنهم لا يقبلون عدّهم غير متدينين.
في رسالة كتبها عالم الاجتماع الكبير ماكس فيبر للأب القس فريدريش ناومان، أحد الآباء المؤسسين للتيار الليبرالي في ألمانيا، قال فيبر: «إنني لا أتمتع على الإطلاق بأذن موسيقية دينية، وليس لديّ حاجة ولا قدرة على أن أشيّد داخلي أي صرح روحاني. لكن وفقاً لفحص ذاتي دقيق، فإنني لست ضد الدين ولست ملحداً». هكذا وصف ماكس فيبر نفسه كأنه يقول إن بداخله تديناً من نوع ما لا يستطيع تحديده؛ لكن ما هذا النوع من التدين الذي قصده ماكس فيبر؟
يمكن القول إن كل من هو ليس بملحد فهو متدين بطريقة ودرجة ما. يفتح هذا الفهم الباب للحديث عن طيف واسع جداً من معاني ودرجات التدين، الذي هو نقيض الإلحاد، وربما كان على كل واحد من غير الملحدين تفحص نفسه جيداً ليتعرف على نوع التدين الذي هو عليه.
هناك دائماً الموقف الأرثوذكسي الذي يربط التدين بالالتزام بأداء شعائر معينة ارتبطت تقليدياً بدين معين، بحيث تزيد درجة التدين كلما زادت درجة الالتزام بأداء الشعائر. يفترض أنصار هذه النزعة أن هناك عقائد معينة تقف وراء ممارسة الشعائر، غير أن المرء لا يكون مطلوباً منه التدليل على إيمانه أو فهمه لهذه المعتقدات والأفكار، فيكفيه أنه يتصرف وفقاً لها، وما دام يفعل ذلك فإنه فلا داعي لاختباره، اللهم إلا إذا ظهر عليه ما يدل على عكس ذلك، كأن ينقطع عن الشعائر، أو أن ينطق بما يخالف ما رسخ من المعتقد.
لم يكن الموقف الأرثوذكسي يواجه تحديات كبرى قديماً، لكن مع تقدم الحداثة وزيادة التحضر وسكنى المدن وانتشار التعليم والمعارف العلمية الحديثة، والمعلوماتية والتواصل، وتوسع نطاق التتجير والاستهلاك والقطاعات المالية، ومنذ عصر التنوير وحتى زمن ما بعد الحداثة، نجحت أنماط أخرى للتدين في إفساح مساحات لنفسها إلى جانب التدين الأرثوذكسي، حتى إنها نجحت في دفعه بعيداً جداً في الخلف في مجتمعات غربية عدة.
أنسنة التدين، وعقلنة التدين، وفردنة التدين؛ ثلاث موجات تغيَّر عبرها معنى التدين منذ عصر النهضة. في البداية جرى تقريب الدين من العالم الأرضي، مع ظهور تصورات يحتل فيها الإنسان مركز الكون. في عصر الأنوار أُعيدت قراءة الدين عقلانياً للتوفيق بين المقدس وقواعد المنطق التي يعمل وفقاً لها العقل الإنساني. زمن ما بعد الحداثة هو عصر ثورة الذات الفردية، وفيه أصبح التعبير عن الذات الفردية هدفاً أسمى لأفراد وفئات تحرروا من الضرورات الاقتصادية وضغوط الاستهلاك وآيديولوجيات العصر الصناعي ومجتمع الجماهير الغفيرة، وثمّنت عالياً قدرة الفرد على التعبير غير المقيد عن ذاته الفردية، الأمر الذي ظهر في شكل فيض من التعبيرات المستحدثة عن قيم روحية وجمالية وطرائق حياة.
سوسيولوجياً، التدين هو مفهوم مركب، يتكون من عدة أبعاد، تعكس المعاني المختلفة التي يضفيها الأفراد والجماعات على التدين. أحد أهم تطبيقات هذا المنهج في فهم التدين نجدها في بحث القيم العالمية، الذي يجمع ويقارن البيانات المتعلقة بالقيم فيما زاد على خمسين دولة، بشكل دوري منذ أكثر من أربعين عاماً، والذي يقدم استنتاجات شديدة الثراء بشأن التدين كظاهرة اجتماعية متعددة الأبعاد، ودائمة التغير، فأشكال التدين التي عرفها العالم عندما تم تنفيذ بحث القيم العالمية لأول مرة عام 1981 تختلف كثيراً عمّا كشفت عنه التطبيقات الأحدث لهذا البحث.
للتدين بُعد عقيدي، يشمل مجموعة الأفكار والمبادئ والمسلّمات المميِّزة لكل دين. هذا هو أكثر أبعاد التدين قرباً من التصور الأرثوذكسي، والذي من دونه لا يمكن أن يظل الفرد متديناً من وجهة نظر دينية تقليدية. لقد تغيّرت هذه الصورة الآن مع تراجع سطوة الأرثوذكسية، وأصبح مألوفاً للأفراد أن يؤمنوا فقط ببعض عناصر الاعتقاد الأرثوذكسي، فيما يرفضون، أو يشككون في عناصر أخرى.
العبادات هي البعد الأكثر قرباً من البعد العقيدي. لكل دين طرق مستقرة للممارسة الدينية؛ صلاة وصيام في توقيتات وأماكن محددة. هذا هو الجزء الظاهر من التدين، وهو الجزء الذي يجري توظيفه لإرسال الرسائل عبر الفضاء السياسي والثقافي، وهو لهذا أكثر أبعاد التدين إثارةً للالتباس والخلاف. التدين الأرثوذكسي يركّز على الشعائر، ويعد الالتزام بها دليلاً مرجحاً لوجود الأبعاد الأخرى. خصوم الأرثوذكسية يرون في الشعائر ممارسة اجتماعية أكثر منها ممارسة دينية، وهم من ثم يشككون في قيمتها كأحد أبعاد التدين.
الأخلاق هي بعد ثالث للتدين، ويُقصد بها الالتزام بقائمة النواهي والتفضيلات السلوكية المرتبطة بالدين، والتي يجري اعتبارها عادةً المبادئ الأخلاقية للدين. إنها المساحة التي يوصي فيها الدين أتباعه بالالتزام بكود أخلاقي معين في العلاقة والتعاملات مع العالم الخارجي، بما في ذلك الالتزام بضوابط غذائية معينة، وقواعد للعلاقة مع الجنس الآخر، وإدارة المال والمعاملات المالية.
التعاطف هو بعد رابع للتدين. هنا ينفتح الباب لممارسات يعدها أصحابها دينية، بغضّ النظر عمّا إذا كان موصى بها في نص مقدس. التركيز هنا على التعاطف وتقديم المساعدة، وتجنب إيقاع الأذى بآخرين. الدين هنا هو مرادف للخير، ويؤمن أنصار هذه الطريقة في التدين بأن الإنسان مؤهل عقلياً لإدراك الخير وفعله دون حاجة لنص مقدس أو وحي. المشكلة هي أن أفراداً كثراً يقومون بنفس الأعمال الخيّرة من منطلقات مختلفة، وبعض هؤلاء قد يكونون من الملاحدة الذين لا يضفون على هذه الأفعال أي صفة دينية؛ لذا يظل اعتقاد الفرد، والمعنى الذي يضفيه على أفعالة معياراً رئيسياً في إضفاء دلالة دينية على أفعال معينة دالة على التعاطف.
يأتي أخيراً البعد الروحي للتدين، والمقصود به انشغال الفرد بغير المرئي وغير الملموس، وما إذا كان يهتم بالتفكر في الكون والحياة بما يتجاوز المعاني المادية والاستعمالية المباشرة. واضح أن هذا البعد الروحي يمكن له أن يكون مستمداً من تصور أرثوذكسي للدين أو لا يكون. فوفقاً لهذا التصور، فإنه حتى غير المؤمنين بديانات تقليدية يمكن أن تكون لهم اهتماماتهم الروحية.
التمييز بين أبعاد مختلفة للتدين يحل، ولكن جزئياً فقط، المشكلة المتعلقة بدراسة مفهوم مركب شديد التعقيد. التفكير في التدين كمفهوم متعدد الأبعاد يترك مفتوحاً التساؤل عمّا إذا كانت الأبعاد المختلفة للتدين متساوية في دلالتها على التدين كظاهرة كلية، أو ما إذا كان يجب ترتيب هذه الأبعاد تراتبياً اعترافاً بقيمة ودلالة أكبر لأبعاد مختارة، دون توريط العلم الاجتماعي في اقتراح قيم معيارية لمعتقدات وسلوكيات وقيم هي خلافية ونسبية بطبيعتها.
- كاتب مصري


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أوروبا أعضاء فرع الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية يحضرون اجتماعاً في دير القديس بانتيليمون في كييف يوم 27 مايو 2022 (رويترز)

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أعلن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أنه يدرس حظر كييف للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المرتبطة بروسيا، قائلاً إنه يثير مخاوف جدية بشأن حرية المعتقد.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
آسيا البابا فرنسيس أثناء وصوله إلى مطار سوكارنو هاتا الدولي في جاكرتا (أ.ف.ب)

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في مستهل أطول رحلة خارجية خلال ولايته

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في محطة أولى ضمن جولة له على 4 دول. وتتمحور الزيارة بشكل خاص حول الحوار الإسلامي المسيحي.

«الشرق الأوسط» (جاكرتا)
أميركا اللاتينية الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي خلال زيارته إلى القدس 6 فبراير 2024 (أ.ب)

كيف تحول تأييد الرئيس الأرجنتيني لإسرائيل واهتمامه المتزايد باليهودية مصدر قلق لبلاده؟

لقد أظهر الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، وهو كاثوليكي بالميلاد، اهتماماً عاماً متزايداً باليهودية، بل وأعرب حتى عن نيته في التحوّل إلى اليهودية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
آسيا رجال الشرطة يقفون للحراسة مع وصول المسلمين لأداء صلاة الجمعة في مسجد جيانفابي في فاراناسي 20 مايو 2022 (أ.ف.ب)

الهند: قوانين مقترحة للأحوال الشخصية تثير مخاوف المسلمين

من المقرر أن تطرح ولاية هندية يحكمها حزب رئيس الوزراء ناريندرا مودي قوانين الأحوال الشخصية العامة الجديدة المثيرة للجدل والتي ستطبَّق على جميع الأديان.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
آسيا رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال حفل الافتتاح (رويترز)

مودي يفتتح معبداً هندوسياً بُني على أنقاض مسجد تاريخي

افتتح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي اليوم معبداً هندوسياً، بني على أنقاض مسجد تاريخي، في خطوة تكتسي أهمية كبيرة في سياسته القومية المحابية للهندوسية.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».