كتب فرنسية تقدم قراءة مختلفة للإسلام

خلال شهر واحد فقط صدرت عدة مؤلفات عن القرآن والنبي الكريم

كتب فرنسية تقدم قراءة مختلفة للإسلام
TT

كتب فرنسية تقدم قراءة مختلفة للإسلام

كتب فرنسية تقدم قراءة مختلفة للإسلام

كان لافتاً أن تصدر في باريس مجموعة من الكتب الجديدة عن تراثنا العربي الإسلامي الكبير. فخلال شهر واحد فقط أو شهرين صدرت مؤلفات عدة عن القرآن الكريم والنبي العظيم. نذكر من بينها كتاب الباحثة الشهيرة جاكلين شابي الذي صدر قبل أسبوعين فقط بعنوان: «قرآن الأنوار».

وهل هناك أجمل من هذا العنوان الخالد. عم يتحدث هذا الكتاب المهم؟ بالمختصر المفيد عن التفسير التاريخي والأنثربولوجي والعلمي الحديث للقرآن. وهو مختلف كلياً عن التفسير الأصولي الذي يعتبره التراثيون والتقليديون زادهم.

ولكن المشكلة هي أن هذا التفسير التاريخي والفلسفي التنويري الجديد لكتاب الله مجهول كلياً عندنا. كل شيء يحصل كما لو أن الحقيقة ممنوعة الإقامة في العالم العربي حتى إشعار آخر. وأكبر دليل على ذلك هيمنة القوى الأصولية والظلامية على الساحة من أقصاها إلى أقصاها إلا بعض بقع الضوء هنا أو هناك. الدليل على ذلك هو أن التفاسير التقليدية لا تزال تهيمن على البيوت والشوارع والمكتبات وحتى الجامعات، رغم قصورها عن إضاءة معاني النص الأعظم على عكس التفاسير الحديثة التي تقدمها لنا ليس فقط هذه المؤلفة الشهيرة، وإنما باحثون آخرون أيضاً.

تقول لنا المؤلفة ما فحواه: الكثيرون يعتقدون أنه يكفي أن نقرأ القرآن بشكل سطحي سريع لكي نعتقد أننا فهمناه. ولكن هذا وهم كبير. وذلك لأنه توجد فيه معان عميقة تستغلق على أفهامنا وعقولنا. وتالياً لا ينبغي الاكتفاء بالتفاسير السطحية التي أكل عليها الدهر وشرب. ماذا ينبغي أن نفعل لكي نفهم القرآن الكريم على حقيقته؟ عن هذا السؤال تجيب المؤلفة قائلة: ينبغي أولاً أن نفهم السياق التاريخي الكبير الذي ظهر فيه القرآن لأول مرة: أي الجزيرة العربية والقرن السابع الميلادي ومنطقة الحجاز بوجه خاص. ينبغي أن ندرسها دراسة علمية استقصائية ونتموضع في لحظتها التاريخية قبل 1447 سنة. وذلك لأن معطياتها وحيثياتها تنعكس على فهم النص القرآني بشكل أو بآخر لمن يعرف كيف يقرأ بين السطور أو فيما وراء السطور. ومن ثمّ ففهم السياق التاريخي وكل الثقافات والعقائد التي كانت سائدة في عصره هو الذي يكشف لنا عن سر القرآن، عن معنى القرآن، عن فحوى القرآن. وهذا ما نص عليه القرآن ذاته عندما قال: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» (إبراهيم، 4). القرآن عربي وقد نزل في بيئة وزمن. وينبغي أن نأخذ كل ذلك بعين الاعتبار إذا ما أردنا فهماً أوسع له.

ما نحتاج إليه هو قراءة تاريخية وفلسفية معمقة لا قراءة لاهوتية تقليدية ولا آيديولوجية كما هو سائد لدى الأصوليين وجماعات الإسلام السياسي الغاطسة كلياً في أفكار ظلامية، كسيد قطب مثلاً. ما نحتاج إليه هو قراءة علمية تنير الأبصار. بمعنى آخر «بحياتنا كلها لم نقرأ القرآن» أو لم نفهم القرآن على حقيقته، كما يقول لنا الباحث التونسي المعروف يوسف الصديق. وهذا يعني أن القراءة اللاتاريخية القديمة غير القراءة العلمية والفلسفية والتاريخية الحديثة التي تنفذ إلى أعماق الأشياء. هذا تحصيل حاصل. ولكن متى نفهم ذلك؟ متى تفهم جماهير الأمة ذلك؟ بل متى يفهم المثقفون العرب أنفسهم ذلك؟

هذا هو السؤال. بمعنى آخر متى سننتقل من مرحلة الطفولة العقلية إلى مرحلة النضج الفكري وسن الرشد، كما يقول لنا كبير فلاسفة الأنوار في أوروبا إيمانويل كانط في تعريفه للأنوار؟ بعد أن طبقت أوروبا المنهجية التاريخية - النقدية، انتقلت من مرحلة الأصولية المسيحية القروسطية إلى مرحلة المسيحية الحداثية. بعدئذ استنارت الشعوب المسيحية في أوروبا ولكن ليس قبل ذلك. هذه النقلة الكبرى لم تحصل عندنا حتى الآن. ومن ثمّ فالسؤال المطروح هو التالي: متى سنفهم تراثنا المقدس بشكل صحيح؟ متى سنرتفع إلى مستوى تراثنا الديني العظيم؟ متى سنخدمه بالدراسات العلمية والفلسفية وليس بالقراءات الاستلابية الديماغوغية. هذا هو التحدي الأكبر المطروح علينا في السنوات المقبلة.

وإياكم ثم إياكم أن تنسوا ذلك الكتاب الموسوعي الضخم الصادر في (2186) صفحة بعنوان: «النبي محمد في مرآة المؤرخين العالميين الكبار». وهو كتاب ساهم فيه ما لا يقل عن خمسين باحثاً أكاديمياً متخصصاً في الدراسات العربية والإسلامية. وهؤلاء يعتقدون أن سيدنا محمد هو أحد أعظم الشخصيات التي أثرت على تاريخ البشرية.

وهو بالنسبة لنا خير الورى وأعظم شخص ظهر على وجه الأرض. ولكن المصيبة أو الكارثة أو البلية البلياء التي نكبنا بها مؤخراً هي أن بعض المتطرفين الضالين الذين انحرفوا عن النهج القويم لا يزالون مصرين على أن ينسبوا أنفسهم إليه زوراً وبهتاناً. لا يزالون يزعمون أنهم يضربون بسيفه ويتحدثون باسمه على الرغم من أنهم شوهوا صورة الإسلام عالمياً بفظائعهم وتفجيراتهم وتكفيراتهم. لا يزالون يزعمون أنهم هم الإسلام ولا يوجد تفسير آخر للإسلام غير تفسيرهم ولا مفهوم آخر غير مفهومهم. فما حقيقة الأمر يا ترى؟ هذا ما يجلوه لنا هذا الكتاب الجماعي الموسوعي الضخم. هذا ما يحاول تسليط الأضواء عليه من كل الجهات. من هنا أهميته الكبرى.

فلاسفة الأنوار الكبار رأوا في القرآن الكريم احتفالاً عظيماً بالعقل والعقلانية والبصائر الأنوارية

لقد حل لنا مشكلة السر الأكبر الذي يؤرقنا بل ويؤرق كل مثقفي العالم حالياً، لأن مشكلتنا لم تعد مشكلتنا فقط، وإنما أصبحت بحجم العالم. لقد حل لنا مشكلة اللغز الأعظم، لغز الألغاز، الذي طالما حير العقول. فمن سيترجم هذا الكتاب الموسوعي الضخم الصادر قبل أسبوعين أو ثلاثة في باريس، أو قل من سيتجرأ على ترجمته؟ هذا هو السؤال. أخشى ما أخشاه أن يسبقنا جيراننا الأتراك والإيرانيون إلى ذلك. ولكن العرب هم الأولى بقصب السبق في هذا المجال لأنهم أصل الإسلام والقرآن. النبي عربي والقرآن عربي. والجزيرة العربية هي مهبط الوحي وموضع الحرمين الشريفين. أقول ذلك من دون أي نزعة شوفينية بغيضة. وذلك لأن الحديث النبوي ذاته يقول لنا: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

للأسف لا تزال هذه الثورة المعرفية الكبرى التي تحصل حالياً في باريس وبقية العواصم الأوروبية محصورة في نطاق الثقافة الأكاديمية العليا لكبار بحّاثة الغرب وجامعات الغرب ولغات الغرب من فرنسية وإنجليزية وألمانية، إلخ. هذه الكشوفات عن تراث الإسلام الكبير وشخصية نبيه الأعظم لا تزال مجهولة أو متجاهلة من قبل اللغات الإسلامية الأساسية كالعربية والكردية والتركية والفارسية والأوردو الباكستانية، إلخ. هذه اللغات الأساسية مدعوة لاحتضان التنوير الديني والفلسفي يوماً ما. لا ينبغي أن تظل لغاتنا وشعوبنا خاضعة أبدياً للأفكار المعلبة وبرامج التعليم الجامدة المهيمنة منذ مئات السنين. هنا يكمن التحدي الأكبر الذي يواجهنا حالياً. لن يعود العالم الإسلامي إلى التاريخ قبل أن يخوض أكبر معركة – وأخطر معركة – مع ذاته التراثية العميقة.

ولا تنسوا مشروع «القرآن الأوروبي» الممول من قبل الاتحاد الأوروبي، وبالتحديد من قبل مجلس أوروبا للدراسات العليا والبحوث العلمية. هذا المشروع يطرح السؤال التالي: كيف ساهم الكتاب المقدس للإسلام في تكوين الفكر الأوروبي؟ كيف قرأه الأوروبيون وفهموه أو لم يفهموه منذ العصور الوسطى وحتى مطلع الحداثة؟ فمن الواضح أن قراءة العصور الوسطى كانت عدائية وجاهلة بحقيقة القرآن والإسلام في معظمها. ولكن الموقف تغير لاحقاً في عصر التنوير إبان القرن الثامن عشر. ففلاسفة الأنوار الكبار رأوا في القرآن الكريم احتفالاً عظيماً بالعقل والعقلانية والبصائر الأنوارية.


مقالات ذات صلة

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور
شؤون إقليمية يهود حريديم يحملون لافتات خلال احتجاج ضد التجنيد بالجيش الإسرائيلي في القدس 30 أكتوبر 2025 (أ.ف.ب)

وفاة شاب في احتجاج لليهود المتزمتين دينياً بالقدس

تحولت مسيرة حاشدة لليهود المتزمتين دينياً ضد تجنيدهم بالجيش في القدس إلى العنف، اليوم الخميس، عندما لقي فتى في سن المراهقة حتفه، خلال الاحتجاج.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي البابا ليو الرابع عشر خلال قداس في كاتدرائية القديس بطرس بالفاتيكان 26 أكتوبر 2025 (رويترز)

البابا ليو يعتزم زيارة موقع انفجار مرفأ بيروت خلال وجوده في لبنان

أعلن الفاتيكان برنامج الزيارة التي ستجرى بين 27 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول) إلى تركيا ولبنان، وتتضمّن زيارة موقع انفجار مرفأ بيروت للصلاة

«الشرق الأوسط» (الفاتيكان)
أوروبا سارة مولالي تلقي خطاباً بعد أن تم اختيارها أول امرأة لتصبح رئيسة أساقفة كانتبري في تاريخ كنيسة إنجلترا الذي يمتد لأكثر من 500 عام وذلك في كاتدرائية كانتبري في كانتبري ببريطانيا 2 أكتوبر 2025 (إ.ب.أ)

اختيار سارة مولالي أول امرأة لقيادة الكنيسة الأنغليكانية

أعلنت السلطات الكنسية البريطانية، اليوم الجمعة، اختيار أسقف لندن، سارة مولالي، رئيسة جديدة لأساقفة كانتبري، لتصبح أول امرأة تقود كنيسة إنجلترا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا المستشار الألماني فريدريش ميرتس يلقي كلمته خلال مؤتمر صحافي مشترك في مدريد 18 سبتمبر 2025 (رويترز)

ميرتس: على ألمانيا أن تبقى ملاذاً آمناً لليهود

أعرب المستشار الألماني فريدريش ميرتس عن شعوره بالصدمة حيال تزايد ما اعتبره معاداة للسامية في بلاده، وأكد مجدداً وقوفه إلى جانب اليهود في ألمانيا.

«الشرق الأوسط» (برلين)

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».