لغز التصوّف الفلسفي وتجربة الوعي

TT

لغز التصوّف الفلسفي وتجربة الوعي

هناك مشكلة كبيرة قديمة تتعلق بالتصوف، ألا وهي أن معظم الناس لا يدرون ما هو. يصر عظماء المتصوفة دائماً على أن تجربة التصوف لا تصفها اللغة ولا يُعبّر عنها بالكلمات، ولا بد أن تحضرنا هنا كلمة النفريّ: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». أي أن تجربة التصوف أقدس من أن تُقرّب للعموم وإن تكاثرت محاولات القربان. ولذلك، لا بد أن نحمد لكل تلك الأسماء الكبيرة كالغزالي وابن عربي وابن سبعين خروجهم عن هذا التقليد، وأنهم تكلموا ووصفوا وكتبوا الأشعار الجميلة القوية فأصبحوا فلاسفة يصفون التصوف أكثر من كونهم متصوفة. هذه المخالفة كانت أمراً جيداً لقلة ممن يرغبون في تحديد التصوف ووصفه. ففي كل أنحاء العالم، وفي مختلف الشرائح الاجتماعية بمن فيهم المتعلمون والمثقفون، لا يزال الناس يشعرون بالارتباك والشك في التصور عندما ترد كلمة تصوف. إنها كلمة غامضة وفضفاضة يفسرها كل مترجم بطريقته الخاصة برغم كونها تجربة واحدة في كل العالم. هناك من يرى أن التصوف أتى من لبس الصوف، وهناك من يفسره بالزهد في الحياة، وقائل يقول هو كثرة العبادة. وفي اللغة الإنجليزية، نجد أن المفردة (Mystic) يتوسع مدلولها ليرمز لكل ما هو غامض أو سحري.
ومن لا يحبون التصوف يتخيلون أن المتصوفة مجموعة من الناس يُحبون الرقص ويعشقون الاحتفالات، أو يعبدون من في القبور، أو من يملكون قدرات خارقة للتواصل بين حين وآخر مع الجن ومع من هو بعيد أو ميت وجلب روحه لاجتماع سري مع أسرته، أو قراءة المستقبل والحصول على معلومات غيبية. وكل هذا بعيد عن جوهر التصوف، وإن مارسه بعض متصوفة الارتزاق.
الصوفية أنفسهم شاركوا في تشويه صورة التصوف. رغم أنهم كانوا أقدر الناس على الخروج إلى الناس بقراءة تُجلّي الحقائق، فإنهم زادوا على النص ونقصوا، وانشغلوا بسرد قصص الكرامات الخاصة، حتى صاروا هم أنفسهم غير قادرين على تمييز الأصيل من غير الأصيل في تجربتهم، وحصل التناقض. بالنسبة لرموز التصوف الكبار، لكي نفهم أي شيء على الإطلاق، يجب أن نذهب إلى القلب مباشرة، بدلاً من أن نكتفي بالقشور، فكل هذا الحديث عن كرامات الصوفية هو من القشور. هل التصوف هو الدين؟ الجواب: لا. هو شيء أوسع من اليهودية والمسيحية والإسلام، لكن الشعور بالله أساسي في معظم أنواع التصوف، باستثناء تصوف الشرق الأقصى. ومن الممكن أن يتصالح التصوف مع الدين بحيث يحتفظ المتصوف بدينه ويكيّف تصوفه بحسب الشريعة التي يتبعها، فالأمر في النهاية تجربة شخصية اختيارية، وتنطوي على راحة وبهجة يحتاجها كل أحد. لكن برغم هذه السمة الشخصية، هناك جامع مشترك لكل التصوف الذي نرى تشكلاته وكياناته في العالم منذ القِدم. لا يمكن أن يقال إن التصوف مجرد فلسفة ذاتية غير موضوعية لا يمكن تعميمها بحيث تكون معرفة تواصلية، فالمشترك الحقيقي موجود، وهو يشكل وحدة يمكن أن نسميها بالتصوف العالمي. فبرغم البعد الشخصي، هناك مساحة توافقية يرضى بها كل صوفي. وهناك نتائج وصل إليها المتصوفة في الشرق والغرب من دون أن يسمع بعضهم عن بعض، أو أن يقرأ بعضهم لبعض. من ذلك وجدنا الصوفي المسيحي مايستر إيكهارت من القرن الثالث عشر يفسر التصوف الهندوسي والتصوف البوذي بلا مزيد عليه، مع أنه لم يعرفهما قط في حياته. هناك انتماء، أقوى من القواسم المشتركة، يجمع شتات المتصوفين في كل مكان. وبرغم هذا الانتماء، كان من الطبيعي أن يكون ثمة اختلاف في مصطلحات المتصوفة حول العالم بحسب اختلاف الثقافات، فالتصوف كان يلبس ثياب ثقافته أنى كانت، إلا أن اختلاف المصطلحات لا يعني اختلاف المعاني. على سبيل المثال، عندما يتحدث الفيلسوف اليوناني المصري أفلوطين عن الواحد، فإن الواحد هو الله عند الصوفية المسلمين، وعالم سبينوزا هو نفسه عالم ابن عربي، وبناء هيغل يشبه بناء ابن عربي، والصلاة شيء مشترك عند اليهود والمسيحيين والمسلمين، قد يؤديها المتدين التقليدي من دون إحساس بقيمتها. أما الصوفي، من أي دين، فيعتقد أن تلك الكلمات التي يقولها في صلاته سوف تحمله عالياً صوب ما هو إلهي ومقدس، وأن هذا سينعكس انعكاساً إيجابياً على حياته وسيريحه في كل أوجاعه وعذاباته، سواء سمّيناه اتحاداً أو استقواءً أو اعتصاماً، العبارات غير ذات بال هنا، لأن المعنى واحد.
الوصول إلى حالة الوعي الصوفي هذه، قد يحتاج إلى تدريب روحي صبور، يقوم على الانفصال عن الوعي بأشياء هذا العالم المحسوس، واقتلاع كل الرغبات المتمركزة حول النفس، وإسقاط الإرادة والتخلي عن الكبرياء والتحلّي بالتواضع، حُبّاً في الله. وإذا كان المتصوف من أتباع الديانات السماوية، سار تصوفه في طريق الدين وأخذ صبغته الأخلاقية. وهكذا رسم المتصوفة المسلمون حدود تصوفهم بناء على العقيدة الإسلامية، ومصطلحهم الأكبر «الفناء» هو تجربة فعلية تجعل الفرد يعيش مباشرة تجربة اختفاء فردانيته، التي تذوب في الله. هذا الذوبان يجلب شعوراً بسلام عميق وفرح ومسيرة تلقيه عند بوابة الإلهي، بوابة الخلاص. التصوف ليس الدين لكن التصوف بطبيعته، مرتبط ارتباطاً حميمياً بأي دين تتبناه بيئته، مع أنه لا يفضّل ديناً على دين، فالتجربة الصوفية نفسها لا ترغب في أن تجعل من الإنسان مسلماً أو مسيحياً أو بوذياً، هي فقط ترغب في أن تصله بالإلهي مباشرة بلا واسطة. والوعي الصوفي هو ينبوع لكل أنواع الحب: محبة الله، ومحبة الناس والإحسان إليهم. فالحب هو مصدر العطاء والفضيلة وكل ما هو جميل. والتصوف هو المصدر الذي تفيض منه كل القيم الأخلاقية، وفيه يصبح كل البشر إخوة وأخوات، فلا غرباء ولا حواجز تفرقهم أو تبعدهم؛ بعضهم عن بعض، فلا حروب ولا أحقاد. الكل كيان واحد لا تمييز فيه. الحب سر الوجود وبه وجد العالم، والرحمة هي الدم الذي يجري في الشرايين، في هذه الحياة والحياة التي تليها.
هل يمكن أن يكون الصوفي من نفاة وجود الله؟ الجواب: هو نعم، فالتصوف البوذي والطاوي، لم يوجد فيهما مفهوم الإله الخالق الشاخص المفارق للطبيعة، قط. ذلك أن أسلافهم لم يسألوا: من أين جاء العالم؟ بل اكتفوا بالسؤال: كيف يعمل هذا العالم؟ لكنهم لا يشبهون نفاة وجود الله لأسباب علمية أو عقلية كما عند دعاة العلموية، بل يشعر أحدهم في الغالب بأنه قد وجد شيئاً مقدساً. هذا الشعور بالمقدس، هو من قبيل «الشعور الديني». في مقابل تصوف أولئك، هناك المتصوفة اليهود والمسيحيون والمسلمون، وهؤلاء لغز من الألغاز الخالدة، وقد بقيت وستبقى نصوصهم هاربة ومفتوحة ومغرية لشتى القراءات.
- باحث ومترجم سعودي


مقالات ذات صلة

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

تحقيقات وقضايا لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

لماذا علينا أن نسامح الآخرين؟

بعد ظهر أحد أيام ربيع عام 1985 في مدينة غاري بولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأميركية، قتلت فتاة تبلغ من العمر خمسة عشر عاماً امرأة مسنّة بعد أن اقتحمت منزلها. مدينة غاري لها تاريخ طويل من التوترات العرقية بين السكان البيض والسود، وحيث إن الفتاة، واسمها بولا كوبر، كانت سوداء البشرة والضحية، روث بيلك (77 سنة)، من العرق الأبيض، سارعت الصحافة المحلية لتغطية الحادثة لصب الزيت على النار وفسرت الجريمة على أنها ذات بعد عرقي. لكن الشرطة قالت حينها، إن الجريمة حدثت بدافع السرقة، وإن ثلاث فتيات أخريات شاركن في ارتكاب الجريمة، إلا أن الفتيات الأخريات قلن إن بولا كانت زعيمة العصابة.

تحقيقات وقضايا الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

الصوم... قاسم مشترك للضمير الإنساني

يكاد يكون الصوم الشعيرة التعبدية الوحيدة في مختلف الأديان والمعتقدات ذات الالتصاق الوثيق بالضمير الإنساني؛ إذ لاحظ باحثون في تاريخ الحضارات القديمة أن ظاهرة الصوم كانت حاضرة بقوة لدى مختلف الشعوب. وتُجمِع معظم الأديان والثقافات على اعتبار الصوم فرصة للتجدّد الروحي والبدني. فقد كان الصوم عبادة يتبارك بها البشر قبل الذهاب إلى الحروب، ولدى بعض الحضارات ممارسة جماعية لاتقاء الكوارث والمجاعات. شعوب أخرى حوّلته طقساً للإعلان عن بلوغ أفرادها اليافعين سن الرشد.

أحمد الفاضل
تحقيقات وقضايا هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

هل يجوز أن تتحوّل الحقيقة إلى موضوع حواريّ؟

لا ريب في أنّ أشدّ ما يهزّ الوجدان الإنسانيّ، في بُعدَيه الفرديّ والجماعيّ، أن يجري تناولُ الحقيقة الذاتيّة على لسان الآخرين، وإخضاعُها لمقتضيات البحث والنقد والاعتراض والتقويم. ما من أحدٍ يرغب في أن يرى حقيقته تتحوّل إلى مادّةٍ حرّةٍ من موادّ المباحثة المفتوحة. ذلك أنّ الإنسان يحبّ ذاتَه في حقيقته، أي في مجموع التصوّرات والرؤى والأفكار والاقتناعات التي تستوطن قاعَ وعيه الجوّانيّ.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا مجموعة احتجاجية تطلق على نفسها «بقيادة الحمير» تصب طلاء أصفر على طريق في لندن 23 فبراير الماضي (رويترز)

هل يجب أن نقبل ما يقوله الآخرون في امتداح هويّتهم؟

غالباً ما نسمع الناس يمتدحون ما هم عليه، سواءٌ على مستوى هويّتهم الفرديّة أو على مستوى هويّتهم الجماعيّة. لذلك نادراً ما وقعتُ على إنسانٍ يعيد النظر في هويّته الذاتيّة الفرديّة والجماعيّة. ذلك أنّ منطق الأمور يقتضي أن يَنعم الإنسانُ بما فُطر ونشأ عليه، وبما انخرط فيه والتزمه، وبما اكتسبه من عناصر الانتماء الذاتيّ. فضلاً عن ذلك، تذهب بعض العلوم الإنسانيّة، لا سيّما علوم النفس، مذهباً قصيّاً فتوصي بامتداح الأنا حتّى يستقيم إقبالُ الإنسان على ذاته، إذ من الضروريّ أن نتصالح وذواتنا حتّى نستمرّ في الحياة.

باسيل عون (مشير)
تحقيقات وقضايا أناس يشاهدون انطلاق مركبة «سبيس إكس» إلى الفضاء في 27 فبراير الماضي (رويترز)

عن «الإنتروبيا» والجدل والتسبيح

من نقطة «مُفرَدة» أولى، لا «أين» فيها ولا «متى»، فيها كل الزمان وكل المكان وكل الطاقة، مدمجين بنظام لا عبث فيه ولا خلل. كانت البداية، ومنها كانت كل البدايات، ينبعث من عِقالِ المفردة الأولى وتراتبيتها الصارمة فوضى كبيرة في انفجار كبير. ومن تلك الفوضى ينبت الزمكان وتنبعث الطاقة وتتخلق المادة، منها كان الكون بأجرامه ومخلوقاته، بل وكانت الأكوان وأجرامها ومجراتها ومخلوقاتها. فكأن قصة الكون وقصتنا معه، «هي أن تراتبية ونظاماً مكثفاً مدمجاً.


واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
TT

واشنطن واستراتيجية الـ«لا استراتيجية» في الشرق الأوسط

بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)
بايدن مع بنيامين نتنياهو خلال زيارته التضامنية لإسرائيل في 18 أكتوبر (د.ب.أ)

بعد عام على هجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول)، تتخبط منطقة الشرق الأوسط في موجة تصعيد مستمر، من دون أي بوادر حلحلة في الأفق. فمن الواضح أن إسرائيل مصرة على الخيارات العسكرية التصعيدية، ضاربة بعرض الحائط كل المبادرات الدولية للتهدئة، ومن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة وإدارة الرئيس جو بايدن، إما عاجزتان عن التأثير على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وإما غير مستعدتين لممارسة ضغوطات كافية عليه للتجاوب مع دعواتها لوقف التصعيد. هذا في وقت تعيش فيه الولايات المتحدة موسماً انتخاباً ساخناً تتمحور فيه القرارات حول كيفية تأثيرها على السباق الرئاسي.

السؤال الأبرز المطروح حالياً هو عما إذا كان هناك استراتيجية أميركية ما حيال ملف الشرق الأوسط، انطلاقاً من الحرب الدائرة منذ عام. فقد واجهت الإدارة الحالية انتقادات حادة بسبب غياب منطقة الشرق الأوسط عن لائحة أولوياتها منذ تسلم بايدن السلطة. ولكن الأمور منذ 7 أكتوبر 2023 تغيرت جذرياً.

تحدثت «الشرق الأوسط» إلى غيث العمري، المستشار السابق لفريق المفاوضات الفلسطيني خلال محادثات الوضع الدائم وكبير الباحثين في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي رأى أن الإدارة الأميركية سعت فعلياً إلى عدم إعطاء الأولوية لمنطقة الشرق الأوسط، وحوّلت تركيزها ومواردها إلى أولويات أخرى. ويقول العمري: «جاءت هجمات 7 أكتوبر لتفاجئ الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لها، والتي افتقرت لما يلزم لمواجهة أزمة بهذا الحجم». ويرى العمري أن الولايات المتحدة اعتمدت منذ السابع من أكتوبر وحتى تاريخنا هذا على سياسة «مجزأة مبنية على رد الفعل»، مضيفاً: «إنها لم تتمكن من رسم المشهد الاستراتيجي أو ممارسة النفوذ على حلفائها الإقليميين».

امرأة تعرض صورة لجنود إسرائيليين بعد استعادتهم لموقع كفرعزّة إثر هجمات 7 أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

تحدثت «الشرق الأوسط» أيضاً إلى جون الترمان، المسؤول السابق في وزارة الخارجية ومدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية، فقال: «فشلت إدارة بايدن بالتأكيد في تحقيق العديد من أهدافها في العام الماضي، ولكن في الوقت نفسه لم تندلع حرب إقليمية كبيرة بعد». ويعرب الترمان عن «دهشته» من أنه ورغم «الإخفاقات»، فإن الولايات المتحدة «لا تزال هي النقطة المحورية للدبلوماسية الإقليمية».

وفيما تدافع إدارة بايدن عن أدائها بالقول إنها أظهرت الردع من خلال إرسال تعزيزات أميركية إلى المنطقة، إلا أن العمري يختلف مع هذه المقاربة، لافتاً إلى أن نشر هذه الأصول العسكرية ربما ساهم في المراحل المبكرة من الحرب «في ردع إيران و(حزب الله) من الانخراط في تصعيد كبير، إلا أنه فشل في ردعهما إلى جانب وكلائهما كالحوثيين من الانخراط في أنشطة خبيثة على مستوى منخفض». وأضاف: «لقد تسبب ذلك في زيادة الضغط، وأدى في النهاية إلى انتقال الحرب إلى لبنان وربما مناطق أخرى».

الدبلوماسية «هي الحل»

في خضم التصعيد، تبقى إدارة بايدن مصرة على تكرار التصريحات نفسها من أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد، محذرة من توسع رقعة الصراع في المنطقة. وعن ذلك يقول الترمان إن بايدن يريد حلولاً دبلوماسية؛ «لأن الحلول العسكرية تتطلب هزيمة شاملة لأحد الأطراف. ونظراً للرّهانات العالية لكلا الجانبين، فإن الحل العسكري بعيد المنال، وسينجم عنه المزيد من الموت والدمار أكثر بكثير مما شهدناه حتى الآن».

أما العمري فيرى أن التركيز على الدبلوماسية هو أمر مناسب؛ لأنه «في نهاية المطاف، تنتهي الحروب وستكون هناك حاجة إلى حل دبلوماسي»، مضيفاً: «عندما يأتي (اليوم التالي)، يجب أن تكون الأسس لترتيبات دبلوماسية جاهزة».

إلا أن العمري يحذر في الوقت نفسه من أن الدبلوماسية وحدها غير كافية إذا لم تكن مدعومة بقوة واضحة، بما في ذلك القوة العسكرية، ويفسر ذلك قائلاً: «إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من إقناع خصومها بأنها مستعدة لاستخدام قوتها لإيذائهم، وحلفائها بأنها مستعدة لفعل ما يلزم لمساعدتهم، فإن نفوذها تجاه الطرفين سيكون محدوداً».

تجميد الأسلحة لإسرائيل

سقوط أعداد هائلة من المدنيين في حربي غزة ولبنان منذ بدء العمليات الإسرائيلية للرد على هجمات 7 أكتوبر 2023، دفع الكثيرين إلى دعوة بايدن لوضع قيود على الأسلحة الأميركية لإسرائيل، بهدف ممارسة نوع من الضغوط على نتنياهو لوقف التصعيد، لكن الترمان يرفض النظرة القائلة بأن تجميد الأسلحة سيمهد للحل، ويفسر قائلاً: «إذا اعتمدت إدارة بايدن هذه المقاربة، أتوقع أن يعترض الكونغرس بشدة، وقد تكون النتيجة عرضاً للضعف والهشاشة في سياسة البيت الأبيض، بدلاً من صورة تقديم حلول». ويحذّر الترمان من أن خطوة من هذا النوع من شأنها كذلك أن تدفع إسرائيل إلى «الشعور بمزيد من العزلة التي قد تولّد بالتالي شعوراً أكبر بعدم الالتزام بأي قيود».

الرئيس الأميركي جو بايدن خارجاً من البيت الأبيض ليستقل الطائرة إلى نيويورك (أ.ب)

ويوافق العمري مع هذه المقاربة، مشيراً إلى أنه «من غير الواضح أن أي وسيلة ضغط ستنجح»، فيقول: «إسرائيل تشعر بأنها مهددة وجودياً، مما يجعلها أقل استعداداً لتقبل أي تأثير خارجي». ويوفر العمري نظرة شاملة عن مقاربة الإدارة الأميركية في غزة ولبنان التي تحد من الضغوط التي ترغب في ممارستها على إسرائيل، فيفسر قائلاً: «رغم أن الولايات المتحدة غير راضية عن بعض جوانب سير الحرب، خصوصاً فيما يتعلق بالخسائر البشرية بين المدنيين، فإنها تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بعد السابع من أكتوبر». لهذا السبب يشير العمري إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق توازن في الضغط بطرق يمكن أن تغير سلوك إسرائيل «دون تقييد قدرتها على تحقيق الهدف المشروع المتمثل في هزيمة (حماس)»، مضيفاً: «هذا التوازن ليس سهلاً».

بالإضافة إلى ذلك، يذكّر العمري بطبيعة العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي «تتجاوز القضية الإسرائيلية - الفلسطينية»، فيقول: «الولايات المتحدة تستفيد استراتيجياً من هذه العلاقة، بما في ذلك الفوائد المتعلقة بالتهديدات الإقليمية الأخرى مثل الأنشطة الإيرانية. وبذلك، فإن الولايات المتحدة لديها مصالحها الاستراتيجية الخاصة التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار».

أي حل في نهاية النفق

رغم التصعيد المستمر، تعمل الولايات المتحدة على بناء استراتيجية تضمن عدم خروج الأمور عن السيطرة، ودخول إيران على خط المواجهة، ويشدد العمري على أن «الأولوية الآن هي ضمان بقاء إيران خارج هذه الحرب»، مشيراً إلى أن هذا الأمر ضروري للحد من انتشار الصراع، و«لإضعاف مصداقية إيران الإقليمية ونفوذها مع وكلائها»، لكنه يرى في الوقت نفسه أنه «لا يمكن تحقيق مثل هذه النتيجة إلا إذا كانت إيران مقتنعة بأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام العمل العسكري».

عنصران من الدفاع المدني الفلسطيني في دير البلح في غزة (أ.ف.ب)

أما الترمان الذي يؤكد ضرورة استمرار الولايات المتحدة «في تقديم مسار للمضي قدماً لجميع الأطراف»، فيحذّر من أن هذا لا يعني أنها يجب أن «تحمي الأطراف من العواقب الناجمة عن أفعالهم»، ويختم قائلاً: «هناك مفهوم يسمى (الخطر الأخلاقي)، يعني أن الناس يميلون إلى اتخاذ سلوكيات أكثر خطورة إذا اعتقدوا أن الآخرين سيحمونهم من الخسارة».