قبل بضع سنوات كان الواقع الافتراضي أشبه بأفلام عالم الخيال العلمي لكن لم يلبث الجميع أن أدركوا بأن الأمر قد تجاوز ذلك بكثير. اليوم كثير من المؤسسات الثقافية تلجأ إلى رقمنة محتوياتها في المكتبات والمتاحف ودور العرض والمسارح ليس لتواكب تطور العصر فقط، ولكن أيضاً لتصمد أمام الأزمات التي تهدد وجودها. بمناسبة افتتاح معرض «فجر الملك خوفو» الذي افتتح في معهد العالم العربي إلى غاية أكتوبر (تشرين الأول)، التقينا فابيان باراتي المؤسس والمدير العام لشركة «إيمرسيف» التي تتعاون مع المؤسسات الثقافية لتقديم محتويات رقمية وتصورات جديدة لحضور الثقافة في حياتنا اليومية. وكان قد أشرف على عدة مشاريع مع متحف اللوفر ومعهد العالم العربي وقصر فرساي حظيت بنجاح كبير. هنا حوار معه:
> لماذا يحتاج القطاع الإبداعي للاستفادة من التكنولوجيا؟
- بعيداً عن نيّة تعويض «الواقعي» بـ«الافتراضي» أو إلغاء الزيارات الميدانية للمؤسسات الثقافية أو التقليل من أهمية التفاعل المباشر داخل الفضاءات الثقافية التقليدية، فإن الواقع الافتراضي يمنح اليوم إمكانيات هائلة لخدمة ودعم القطاعات الثقافية والإبداعية وتشكيل ذاكرة رقمية دقيقة للأجيال المقبلة. كثير من هذه المؤسسات كالمراكز الفنية والمتاحف، والمعارض والمسارح تعاني اليوم أزمات حادة.
وقد عرفت المتاحف الفرنسية سواء أكانت صغيرة أو كبيرة انخفاضاً كبيراً في نسبة حضور الجمهور. اللُوفر مثلاً كان يخسر عشرة آلاف مليون يورو كل شهر أبان الحجر الصّحي وكذا قصر فيرساي الذي سجّل السنة الماضية خسارة قُدرت بسبعين مليون يورو، هي خسائر من الصعب جداً التعافي منها. والخطر أن تصل هذه المؤسسات لدرجة العجز عن إنتاج المحتويات الثقافية. هنا تتدخل التكنولوجيا لتقدم حلولاً تتمثل في إدراج نماذج جديدة في كيفية إنتاج واستهلاك المنتجات الثقافية لتجلب الجماهير من جديد، اليوم التكنولوجيا تسمح بذلك وهي في خدمة الثقافة فلماذا التردّد؟
> ما تقدمونه اليوم في معهد العالم العربي من خلال المعرض هو إذن نموذج جديد في استهلاك المنتوج الثقافي؟
- ما نقدمه تجربة فريدة من نوعها تسمى «الرحلة الانغماسية» وهي تمُكن الشخص من معايشة التجربة الثقافية بكل حواسه، فهو يشاهد ويلمس ويسمع ويتحرك ويختبر مشاعر مختلفة. ففي عرض «الملك خوفو» مثلاً نسافر عبر الزمن ونعود 4500 سنة إلى الوراء لنحضر مراسيم دفن الملك. وفي اللّوفر نشاهد عن قرب تفاصيل رسم الموناليزا وفي قصر فرساي نزور الغرف الملكية واحدة بواحدة، هذا لا يعني أن يتحوّل الفعل الثقافي إلى مادة استهلاكية لجلب السُياح، بل هو نموذج جديد يواكب العصر ويحل عدة إشكاليات لا سيما المتعلّقة بالمبدعين، فمهما كان القطاع الثقافي مميزاً من حيث إنه لا يخضع لشروط السوق والمنطق التجاري فإن رجاله ونساءه يفتقرون إلى التمويل الذي يعتبر أساسياً لمواجهة العمالقة الرقميين.
> كيف يتم العمل في مشاريع كهذه؟
- هي مشاريع تتطلب وقتاً ومجهوداً طويلاً، وتتحقق بفضل تعاون يتم بيننا وبين المؤسسات الثقافية. في هذا العرض الأخير مثلاً عملنا لمدة ثلاث سنوات انتقلنا فيها لمصر، واستعنا كذلك بعالم الأثريات الدكتور «بيتر دار مانويليان» المتخصّص في أهرامات الجيزة الذي تحقّق من الجانب العلمي وكل ما يتعلّق بالمعلومات التاريخية والمناظر الخارجية ومظهر الشخصيات الذي يكون مطابقاً لما جاء في الأبحاث والحفريات. في التجربة الانغماسية «موناليزا وراء الزجاج» عملنا، لأكثر من سنتين، أبحاثاً كثيرة وتصاميم بمشاركة 40 شخصاً من مهندسين وفنيين وأمناء متاحف.
> ماذا تجيبون لمن يقول لكم إن الّلجوء للواقع الافتراضي سيتسبب في إفراغ الفضاءات التقليدية الثقافية من زوارها وبالتالي موتها على المدى البعيد؟
- هذا غير صحيح، لأن الفضاءات التقليدية والافتراضية متكاملة، لا يوجد منافسة بينها فأنا حين أقدم تجربة انغماسية مع لوحة الموناليزا فأنا أخلق صلة بين الزائر وبين هذه القطعة وهو ما سيدفعه لزيارة المتحف من جديد لأنه عاش التجربة بكل حواسه وانغمس فيها كلياً وسيتذكر كل معلومة جاءت فيها، علاوة على أن هذا النموذج سيمنح للمؤسسات الثقافية التقليدية عائدات إضافية يُمكّنها من الصمود لمواجهة الصدمات المستقبلية وتوفير مسار عمل للوصول إلى جماهير أكبر، إضافة لمميزات أخرى كثيرة كإمكانية عرض القطع التي كانت قابعة في المخازن في السابق وحلّ المعضلة البيئية.
> كيف ترون مستقبل المؤسسات الثقافية في ظل التحول الرقمي؟
- الثورة التكنولوجية وولوج الرقمي مجال الإنتاج والاستهلاك الثقافي سيغير بالتأكيد وجه الثقافة، وهو تغيير إيجابي بسبب انفتاحها على جماهير جديدة لم تكن تستهلك المحتوى الثقافي من قبل ولا سيما الشباب. إنها دمقرطة الثقافة التي تقرب الشعوب وتجعل الثقافة في متناول الجميع.
> هل لديكم مشاريع مع مؤسسات ثقافية عربية؟
- تلقينا عرضاً من جهة رسمية عربية وهو في طور الدراسة ولا أستطيع الإفصاح عن معلومات أكثر في هذه المرحلة. نحن عموماً نوجه نشاطنا الآن نحو الخارج ونُولي اهتماماً كبيراً بمنطقة الشرق الأوسط التي تمتلك كنوزا من التراث الثقافي ونحلم بالتعاون مع المؤسسات الثقافية السعودية تحديداً لأن هذا البلد غني بتراث متنوع جميل وثقافة عريقة تستحق تسليط الأضواء عليها.