تعود أجواء الصدام بين السلطة التنفيذية اللبنانية والجهاز المصرفي، على خلفية التباين الصريح في التوجهات الرسمية التي تتضمنها خطة التعافي لجهة التحديد النهائي لحجم الفجوة المالية والمقدرة بنحو 73 مليار دولار، كما حول توزيع الأعباء التي تقتصر، حتى الساعة، على شطب 60 مليار دولار من توظيفات البنوك لدى البنك المركزي، والتي يعود ثلثاها، على أقل تقدير، إلى المودعين.
ومع ترقب إعادة فتح نافذة المفاوضات التقنية والإجرائية مع بعثة صندوق النقد الدولي التي ستزور بيروت قريباً، وفي برنامجها الاطلاع على «خريطة» العمل والمتابعة للاتفاق الأولي، وبما يشمل «مصير» حزمة مشاريع القوانين التي تشكل مجتمعة الشروط المسبقة لعقد الاتفاقية الموعودة بين الطرفين، تستعيد التحركات المصرفية زخمها بهدف إعادة تصويب ما تصنفه «انحرافات» أوردتها الحكومة، بسياق مستقل عن الخطة تحت عنوان «مذكرة بشأن السياسات الاقتصادية والمالية».
ويؤكد مسؤول مصرفي كبير لـ«الشرق الأوسط»، أن أجواء الارتياح النسبي التي سادت في أوساط القطاع المالي، عقب ما أبداه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، من جهوزية لإعادة إخضاع الخطة لـ«لشرح والمناقشة والتعديل»، رغم المصادقة عليها في آخر جلسة لمجلس الوزراء، يقابلها توجس لا يقل وزناً بفعل إصرار نائبه ورئيس الفريق المفاوض مع صندوق النقد الدولي، سعادة الشامي، على معادلة أن شطب التوظيفات «تستند إلى مبدأ تراتبية الحقوق والمطالب لاستيعاب الخسائر، وهو مبدأ عالمي يتماشى مع أبسط القواعد والمعايير الدولية، بمعنى أنه لا يمكن المساس بأموال المودعين قبل استنفاد رؤوس أموال أصحاب المصارف».
ويوضح المسؤول المصرفي أن «في أفضل الأحوال، ومع عزل ما تم استنزافه في مراحل انفجار الأزمات النقدية والمالية التي تشرف على ختام عامها الثالث في الخريف المقبل، يمكن التقدير نظرياً بأن الأموال الخاصة للمصارف تبلغ نحو 20 مليار دولار. وبالتالي فإن استنفاد هذه المبالغ لردم جزء من الفجوة يعني تلقائياً إيقاع نحو 40 مليار دولار، أي ما يوازي 40 في المائة من إجمالي الودائع المحررة بالعملات الصعبة، على عاتق المودعين وفق المعادلة عينها». وهو ما يتعارض أيضاً مع تأكيدات رئيس الحكومة بالحرص «على عمل المصارف فهي ركيزة أساسية في الاقتصاد، ولا يجب استثناؤها من الحل وخطة النهوض».
ويتمدد الالتباس في المقاربات إلى التعهدات الحكومية بتمكين 90 في المائة من الحسابات، أي ما مجموعه نحو 2.2 مليوني حساب، من ضمان الحصول على مبلغ 100 ألف دولار، وربما يصل الحد المضمون إلى 150 ألف دولار. فيلفت المسؤول إلى ضرورة الافصاح وبشفافية تامة عن ماهية هذه الضمانات ومصدر ضخ الأموال والكيفية المعتمدة والجداول الزمنية للسداد التي يفترض أن تشمل جميع المودعين.
ويستغرب المسؤول منهجية الرفض الفوري لما يتم عرضه اقتراحات بناءة، وتحت شعارات شعبوية غير مقنعة، لمعاونة الفريق الاقتصادي على إجراء تعديل جوهري ينهي فرضية تنصل الدولة، من مسؤولياتها وموجباتها في احتواء الأزمات المتحرجة وتداعياتها، وبما يشمل تغطية الفجوة التي تقر بها في مصرفها المركزي بوصفه من مؤسسات القطاع العام. فنواة الانهيار تكمن في الدين العام الذي تتعدى أرقامه 105 مليارات دولار. بينما استسهلت الحكومة السابقة إخراج البلد ومؤسساته من أسواق التمويل الدولية عبر تعليق دفع مستحقات سندات الدين الدولية بدءاً من ربيع عام 2020، فيما تلكأت حكومة ميقاتي عن بذل أي جهود جدية وضمن رؤية محددة للتفاوض المباشر مع الدائنين المحليين والأجانب لإعادة تصويب هذا الانحراف.
ومن باب الدلالات المضافة وذات الأهمية البالغة في استنباط ما أضاعته سلطات الدولة من وقت ثمين في درء الانهيارات وتبعاتها الكارثية اقتصادياً واجتماعياً ومعيشياً، وفق التوصيفات المتكررة من قبل البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية، يشير المسؤول إلى أن الحصيلة الموعودة لبرنامج الاتفاق مع الصندوق توازي فقط وعبر آلية دين جديد نحو 15 في المائة فقط من إجمالي 20 مليار دولار تم تبديدها من احتياطات البنك المركزي منذ انفجار الأزمات، وإنفاق مبالغها على دعم عقيم، لم يصل أكثر من ثلثه إلى مستحقيه، لسلع ومواد وسلف الكهرباء ومصاريف الدولة الخارجية. وهو ما أفضى أيضاً إلى تضاؤل فرص حفظ حقوق المودعين بسبب التناقص الحاد الذي شهده احتياط العملات الصعبة لدى البنك المركزي ونزوله أخيراً دون خط 11 مليارات دولار، أي دون الاحتياط الإلزامي الخاص بالودائع المصرفية، البالغ نحو 14 مليار دولار.
وريثما تتضح معالم المسار الحكومي المعلق على ضبابية المشهد السياسي الداخلي وصعوبات تشكيل حكومة جديدة، تعكس هوية «الأكثرية» النيابية في المجلس الجديد، يبدي المسؤول المصرفي خشية من التوسع المستمر للفجوة المالية، الذي لا يقل عن مليار دولار شهرياً، وفق أكثر التقديرات تواضعاً. وذلك سنداً إلى أن وضعية «تصريف الأعمال» التي تتولاها الحكومة المستقيلة بفعل تجديد السلطة التشريعية منتصف الشهر الماضي، لا تحتمل قانونياً إنجاز اتفاق برنامج مع إدارة صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل محدد بنحو 3 مليارات دولار لمدة 46 شهراً وفقاً لمندرجات الاتفاق الأولي.
وبخلاف ما أدرجته الحكومة في خطتها من مهل زمنية لالتزام حزمة محددة من الشروط التشريعية، وإقرارها في المجلس النيابي، فإن المجلس السابق لم يقر أي قانون من هذه المشاريع المحالة إليه. وبالتالي، يلفت المسؤول المصرفي إلى أولوية متابعة المسار التشريعي، وكيفية تفاعل الكتل الوازنة والمقررة لضمان الأكثرية الواجبة للإقرار. علماً بأن أغلب الفائزين بالمقاعد النيابية، الممثلين لأطراف حزبية أو مستقلين، تعهدوا مسبقاً بأولوية حماية حقوق المودعين ومعارضة أي تشريع ينتقص من حقوقهم ومدخراتهم.
وتتضمن التعهدات المسبقة لإبرام الاتفاقية مع الصندوق، أربعة مشاريع قوانين على مجلس النواب إقرارها، بدءاً من مشروع قانون الموازنة العامة للعام الحالي، ووضع ضوابط استثنائية على الرساميل والتحويلات (كابيتال كونترول)، واقتراحات تعديلات مهمة على قانون السرية المصرفية، ومشروع إعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي تأخرت الحكومة المستقيلة عن إنجاز صيغته النهائية، مما يبقيه معلقاً إلى حين تأليف حكومة جديدة.
كما تشمل التدابير الموازية، إنجاز التدقيق المالي في مصرف لبنان الذي شارف على الانتهاء عبر شركة دولية (KPMG)، واستراتيجية قطاع الطاقة. الأهم توحيد سعر الصرف، والشروع بعمليات التدقيق في الوحدات المصرفية الكبيرة. وتشكل مجمل هذه الالتزامات خريطة الطريق لبلوغ محطة عرض الاتفاق النهائي على مجلس إدارة الصندوق توطئة لإبرامه بين الطرفين وبدء الضخ المتدرج لمبلغ 3 مليارات دولار، وفقاً لالتزام تنفيذ برنامج الإصلاح الهيكلي والمالي.
لبنان: عودة الصدام الحكومي ـ المصرفي حول خطة التعافي
حزمة الشروط المسبقة معلقة على هوية الأكثرية النيابية الجديدة وتعهداتها
لبنان: عودة الصدام الحكومي ـ المصرفي حول خطة التعافي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة