ليس من قبيل الصدفة أن يكون «اللوفر» أشهر متاحف العالم، فهو أكبر صالة عرض لتاريخ الفنون الإنسانية ويمتد تاريخه عبر مئات السنين ويحظى بنصيب الأسد من زوار المتاحف على المستوى الدولي. من هنا تأتي أهمية كتاب «اللوفر... فجر العشق والغرام الإبداعي - خريطة لونية جديدة لزيارة المتحف الباريسي» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، حيث يلاحظ مؤلفه عبد الرازق عكاشة، أنه يتم تصنيف الزيارة إلى أقسام هذا المتحف على أسس تقليدية جغرافية، حتى الخريطة التي طبعها القسم الدعائي بالمتحف نفسه بكل اللغات تعتمد الطريقة ذاتها في اقتراح زيارة المكان قسماً تلو الآخر أو على مدار حقبة زمنية تلو الأخرى.
ويقترح عكاشة، وهو فنان وناقد تشكيلي مصري مقيم بفرنسا، زيارة «اللوفر» وفق خريطة جديدة يقودنا فيها اللون على نحو يرتبط بالمشاعر والبصيرة، مستهلاً مقترحه باللون الأحمر. لماذا هو اللون؟
يقول المؤلف إن مئات من درجات هذا اللون تصادفك وأنت تتجول في المتحف، فأحمر دافنشي مختلف عن أحمر مايكل أنجلو، كما أن أحمر رفائيل مختلف عن أحمر يتسيانو فيتشيليو، وكذلك أحمر عصر النهضة مختلف عنه في عصر ما بعد النهضة مثل «الباروك»، كما أن فناني أوروبا يختلفون فيما بينهم، فالإيطاليون متميزون عن الهولندي رمبراندت، والإسباني فرانشيسكو جويا، كل منهم له لون مشتق من الأحمر وقصة معه.
- تنصيب نابليون
ويتوقف المؤلف طويلاً أمام لوحة «تنصيب نابليون» للفنان الفرنسي جاك لوي ديفيد (1748 – 1825)، فاللون الأحمر فقط، بعيداً عن الإعجاز الفني في اللوحة، يجسد شيئاً يفوق التصديق والخيال في إبداع أكاديمي مذهل، يتجلى في طريقة رسم وشاح الملك وغطاء الملكة وجمال ملابس الجنود، «كل ذلك ينطوي على شيء من السحر الأخاذ متفاعلاً مع عصب العين وذائقة المتلقي ومزاجه»، لافتاً إلى أن ديفيد لعب على كل درجات اللون الأحمر متأثراً بفناني عصر النهضة في استخدام «الأحمر البندقي» الذي هو عبارة عن صبغة ذات ظل داكن تتكون من أكسيد الحديد الثلاثي، لون صنعه أهل منطقة في إيطاليا مجاورة لمدينة البندقية في عصور قديمة واستعمله فنانو عصر النهضة تحديداً. وينتقل الفنان إلى درجة أخرى من درجات هذا اللون هي «الأحمر الحسّي» عبر لوحته الشهيرة «مدام ريكاميه» التي تعامل فيها بتوازن في الخطوط وانسجام في درجات الألوان لدى تصويره إحدى سيدات عصره.
واشتهر يوجين ديلاكروا (1798 – 1863) بلوحاته عن المغرب العربي ليدهشنا من خلال أعماله هناك بتعامله مع نفس الدرجة من الأحمر ومنها لوحة «نساء الجزائر» الموجودة بـ«اللوفر» التي شرع في إنجازها في عامه الأول في الجزائر المحتلة من طرف فرنسا في أثناء تجنيده. وفي هذه اللوحة التي هي الأهم في إنتاجه عام 1832 نستشفّ امتلاءها بصدق المشاعر وعفوية العاطفة.
ويتوقف المؤلف عند لون آخر هو «الأحمر المعدني»، ذلك اللون الذي يخطف العين، ويجذبك بعمق، رغم أنه قد يبدو للبعض غير عميق في البداية لكنه سوف يجبرك على إعادة النظر مرة أخرى. قد يثيرك على نحو عصبي لكن سرعان ما يعيد إليك الهدوء. وتعد لوحة «نابليون يزور الجنود المصابين بالطاعون في يافا» أبرز تجليات هذا اللون في «اللوفر» ويعدها النقاد من أقوى اللوحات التي رسمت صورة غير عادية للزعيم الفرنسي خلال حملته على الشرق، وقد كلف بها نابليون أحد الرسامين المصاحبين له في الحملة. وعلى عكس عشرات الأعمال الأخرى، لا تركز هذه اللوحة على فكرة الأبهة العسكرية، فلا نرى نابليون يرتقي صهوة حصانه، ولا يتوج في كاتدرائية، ولا يقف خطيباً مفوهاً يصنع التاريخ، بل فقط يزور ملجأ في مدينة يافا الفلسطينية يضم عدداً من جنوده المصابين بالطاعون متخلياً عن جبروته في حنوٍّ أبوي وتعاطف إنساني دون أن يخشى العدوى أو الإصابة.
- شاعرية اللون الأسود
ويصل المؤلف في زيارته اللونية للوحات متحف «اللوفر» إلى محطة جديدة هي اللون الأسود معتبراً أن آن لويس جيردويت (1767 – 1824) أحد المتأملين الكبار في جماليات هذا اللون في إطار بحثه عن الجمالي المثالي حين بدأ الانتقال من اللوحة الكلاسيكية إلى اللوحة الرومانسية.
ويعد جيردويت شاعر اللون الأسود والمجدِّد البصري الخطير الذي يمتعك تأمل لوحاته كأنك تنظر في الخيال والأفق البعيد من خلال هذا اللون الذي هو في حقيقته سطح محايد يقوم بامتصاص جميع الأشعة الساقطة عليه دون أن يعكس أي منها ليتحول إلى لون معتم نطلق عليه مجازاً الأسود. ويستخدمه جيردويت كلون للنور وليس ظلاً، وهو ما يتجسد في لوحته الشهيرة «الجنة» التي يستلهم فيها الأساطير الإغريقية القديمة حيث الشاب «إنديميون» يتلقى زيارة ليلية من «ربة القمر» التي صورها جيردويت على أنها شعاع من الضوء في حالة شاعرية فاتنة تُكتب فيها قصائد من النور.
وحسب المؤلف، فإن رساماً آخر هو رامبرانت (1603 – 1669) يعد أيضاً أحد شعراء اللون الأسود، الحساس العاشق للظل والنور الممتع في التأمل، الساحر في التعبير، العاشق لزوجته ثم المحب لعاملة نظافة. لم يتعامل رامبرانت مع هذا اللون على أنه ظلال فقط إنما تعامل معه كحالة إبداعية قائمة بذاتها ناثراً عطره على درب التجديد وثورات الإبداع. ومن هنا لا تستغرب حين تجده يرسم بعض لوحاته مثل لوحة «يوم الحساب» بالأبيض والأسود فقط كأحد أهم أعمال الفنان الهولندي الأشهر الذي عاش حياة غريبة بين اليسر والعسر. ويرجع تاريخ العمل المنفذ باستخدام الريشة والحبر الأسود إلى عام 1655 وكانت جزءاً من معرض فني أقامه غاليري بمركز «لينيتريس» في سان فرنسيسكو.
- الأزرق سيد الهدوء
ونصل إلى المحطة اللونية الأخيرة ونحن نسبر أغوار أروقة المتحف الباريسي الشهير متتبعين اللون الحالم الذي يحمل وفق قاموس الشعراء معاني البهجة ويفتح آفاق التأمل عبر السماوات والبحار؛ إنه الأزرق، سيد الهدوء ورمز السلام، سر شهرة بيكاسو في مرحلته الزرقاء. تتجول في طرقات «اللوفر» فيسحرك هذا اللون، كما يذكر المؤلف، ويخدّر عقلك في رحلة تبدأ من ليوناردو دافنشي (1452 – 1519) لا سيما «لوحة العذراء» حيث الوشاح من الأزرق السماوي البديع. هذا اللون المقسم إلى أكثر من 20 درجة جمالية مختلفة تمنح الراحة للعين وتفتح مساحات التأمل في فضاءات العمل.
وتعد تلك اللوحة مثالاً آخر على كيفية تحول دافنشي إلى ضحية للوحته الأشهر «الموناليزا» التي ظلمت بقية أعماله، فقد جعلت العامة يتخيلون أنها عمله الوحيد أو الأوحد أو ربما الأهم بينما لهذا الرسام العبقري المخترع الفذ مئات الأعمال الخالدة والتي من بينها تلك اللوحة الواقعة في الطرقة الأساسية في متخف «اللوفر».
أما الفنان الثاني الذي يأخذنا في رحلة الأزرق السماوي فهو أيضاً أحد فناني عصر النهضة، ونعني باولو فيرونيس (1528 – 1588)، هذا الساحر الذي يطعّم أعماله باللون الأزرق ويضعه في أماكن مهمة من اللوحة مثل منتصفها لجذب نظر المتلقي للمشاهدة الجدية وربما للسيطرة على حالته الوجدانية وهذا ما جعله يتمتع بشعبية حقيقية في حياته لا سيما في مدينة البندقية.
سطر المؤلف رحلته الشيقة عبر 155 صفحة من القطع المتوسط، وفي سياق أربعة فصول يضم كل منها ملحقاً من الصور جيدة الطباعة على ورق مصقول.