أسرار ولادة «يونيب» كما يرويها مؤسس مفهوم «دبلوماسية البيئة»

50 عاماً على مؤتمر استوكهولم حول البيئة البشرية (1)

مؤتمر استوكهولم يونيو (حزيران) 1972
مؤتمر استوكهولم يونيو (حزيران) 1972
TT

أسرار ولادة «يونيب» كما يرويها مؤسس مفهوم «دبلوماسية البيئة»

مؤتمر استوكهولم يونيو (حزيران) 1972
مؤتمر استوكهولم يونيو (حزيران) 1972

يُفتتح اليوم في العاصمة السويدية مؤتمر «استوكهولم +50»، في ذكرى مرور نصف قرن على «مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة البشرية»، الذي عُقِد في استوكهولم في يونيو (حزيران) عام 1972. وقد أطلق هذا المؤتمر العمل الدولي في مجال البيئة، إذ تمخّض عنه إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، الذي قاد العمل البيئي العالمي منذ ذلك التاريخ. وقد برز في المؤتمر اسم العالم المصري مصطفى كمال طُلبة، رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا آنذاك، الذي مثّل بلده واختارته الدول العربية والأفريقية متحدثاً باسمها. ويُعتبر طُلبة مؤسس مفهوم «دبلوماسية البيئة»، إذ نجح في تحويل العمل البيئي من شعارات وأمنيات أطلقها مؤتمر استوكهولم حول البيئة الإنسانية عام 1972، إلى معاهدات واتفاقات دولية، منذ عمل مع موريس سترونغ على تأسيس «يونيب»، قبل أن يتولى قيادة المنظمة كمدير تنفيذي حتى عام 1992. وهو استمر في نشاطه البيئي الدولي حتى وفاته في جنيف عام 2016.

طُلبة مُستقبِلاً كورت فالدهايم الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك خلال زيارته مقر «يونيب» في نيروبي عام 1981

خلال السنوات الأخيرة من حياته، عكف طُلبة على كتابة مذكّراته، التي طلب مني مراجعتها وتحريرها، قبل أن تُنشر على حلقات في مجلة «البيئة والتنمية» في السنة التي سبقت وفاته. هذا المقال حول استوكهولم وبدايات «يونيب» يستند إلى ذاكرة مصطفى كمال طُلبة وأحاديثي معه، وقد رافقتُه وعملت معه في مهمات عدة منذ 1977.
- البداية من استوكهولم
انتخب مؤتمر استوكهولم للبيئة البشرية مصطفى كمال طُلبة نائباً للرئيس، وعيّنته المجموعتان العربية والأفريقية متحدثاً باسمهما. تأزمت الأمور في المؤتمر حول مسودة «إعلان استوكهولم»، إذ دار حوله جدل كبير بين الدول النامية والدول الصناعية، في جلسات مفتوحة كانت تمتد حتى ساعات الصباح. وفي محاولة لحل الخلافات، شكّل الأمين العام للمؤتمر، موريس سترونغ، لجنة مصغّرة من رؤساء الوفود، نصفهم من الدول النامية ونصفهم الآخر من الدول الصناعية، يجتمعون في مشاورات غير رسمية لإيجاد حل للقضايا المعلّقة. وبعد مباحثات استمرت يومين كاملين في حجرة مغلقة تم التوصل إلى حل. وقد كان لطُلبة الدور الأساسي في إعداد صياغات توفيقية بين الدول النامية والدول الصناعية، وصولاً إلى صيغة مقبولة من الطرفين. وكما في الاتفاقيات البيئية اللاحقة، وأبرزها تلك المتعلقة بالمناخ، كان محور الخلاف حول تحديد درجات المسؤولية عن التلويث واستنزاف الموارد، تمهيداً لتوزيع الأعباء والتكاليف.

موبوتو سيسي سيكو رئيس زائير (الكونغو الديمقراطية حالياً) إلى جانب طُلبة في مؤتمر «استوكهولم +10» عام 1982 بمناسبة مرور 10 سنوات على تأسيس «يونيب»

ذهب موريس سترونغ بنتائج المؤتمر، إعلان استوكهولم وخطة العمل، إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر (تشرين الأول) 1972، وكان المؤتمر قد أوصى بإنشاء منظمة أو كيان ما في الأمم المتحدة لمتابعة تنفيذ توصياته. وبالفعل أنشأت الجمعية العامة برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) كما اقترحه المؤتمر، أي يتكوَّن من مجلس محافظين من 56 دولة تنتخبها الجمعية العامة، وصندوق تمويل، وسكرتارية يرأسها مدير تنفيذي، يُنتخب بواسطة الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى مجلس تنسيق مع منظمات الأمم المتحدة الأخرى يسمّى مجلس تنسيق البيئة. وكان الكندي موريس سترونغ أول مدير تنفيذي تنتخبه الجمعية العامة.
مع انطلاق برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) بداية 1973، تمنى سترونغ على طُلبة قبول ترشيحه كنائب للمدير التنفيذي «لأنه يحتاج إلى شخص قادر علمياً ومقبول من الدول النامية إلى جانبه». كان تبريره لذلك أن الدول النامية ما زالت غير متحمسة لقضية البيئة، ووجود أحد أبنائها في القيادة يحفزها على الاهتمام بالموضوع. وبعدما حصل الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كورت فالدهايم على موافقة الحكومة المصرية، تم تعيين طُلبة نائباً للمدير التنفيذي للمنظمة الجديدة.
- من جنيف إلى نيروبي
بدأ برنامج الأمم المتحدة للبيئة عمله من مكاتب مؤقتة في جنيف، قبل أن ينتقل إلى مقره الدائم في نيروبي في أواخر صيف 1973. ويتذكر طلبه أن اختيار نيروبي مقراً للبرنامج لم يكن أمراً سهلاً. فعند إقرار إنشاء «يونيب»، عرضت كينيا مشروع قرار يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة من فقرتين، تنصّ الأولى على أن أي منظمة جديدة تُنشأ في الأمم المتحدة لا بد أن يكون مركزها الرئيسي في دولة نامية، إذ لم يكن هناك أي منظمة في ذلك الوقت خارج أميركا الشمالية وأوروبا الغربية. وتنصّ الفقرة الثانية من مشروع القرار على اختيار نيروبي مقراً للمنظمة الجديدة.

المقر المؤقت لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) في نيروبي 1975

وافقت كل الدول النامية على الفقرة الأولى، ودار تنافس على مقر البرنامج بين المكسيك والهند وكينيا. فازت نيروبي، عاصمة كينيا، لأنها اعتبرت الأجمل جواً وطبيعة وموقعاً جغرافياً، وكان عرضها سخياً. فقد قدمت الحكومة الكينية للأمم المتحدة ناطحة سحاب جديدة في نيروبي تحمل اسم «مركز كينياتا للمؤتمرات»، نسبة إلى جومو كينياتا أول رئيس للجمهورية في كينيا. وتم تخصيص ستة عشر طابقاً في المبنى المكوَّن من 29 طابقاً للمنظمة الوليدة، تتكفل الحكومة الكينية بدفع نصف إيجارها لمدة خمس سنوات، بالإضافة إلى مائة فدان من الأراضي في منطقة غابات جيجيري خارج نيروبي مباشرة.
ويروي طُلبة أنه، بعد سنتين من العمل في نيروبي، اقترح موريس سترونغ على الحكومة الكينية أن تدفع مقدماً قيمة مساهمتها في إيجار المقر عن السنوات الثلاث الباقية، ووافقت الحكومة الكينية على ذلك. أبلغ سترونغ بعدها مجلس المحافظين في «يونيب» أنه حصل على مليون دولار، هو نصيب الحكومة الكينية في الإيجار عن السنوات الثلاث التالية. وطلب موافقة المجلس على قبول هذا المبلغ، على أن يستدين من صندوق المنظمة مليون دولار أخرى ليشيّد مبنى خاصاً ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة على الأرض التي قدمتها كينيا، وأن يُعيد المبلغ إلى صندوق المنظمة على أقساط سنوية تعادل قيمة الإيجار بعد الانتقال إلى المبنى الجديد. وافق المجلس، وشيّد «يونيب» مبنى بسيطاً تسلمه في نهاية 1975، كما شغلت المكاتب الإقليمية لمنظمات أخرى أقساماً منه بالإيجار.
بعد أقل من ثلاث سنوات على إدارته لـ«يونيب»، أقنع موريس سترونغ الحكومة الكندية بإنشاء مؤسسة وطنية للطاقة، تم تعيينه رئيساً لها، وترك «يونيب» في نهاية 1975. عقب هذا، انتخبت الجمعية العامة للأمم المتحدة مصطفى كمال طُلبة مديراً تنفيذياً للبرنامج لأربع سنوات، وتم تجديد ولايته أربع مرات حتى عام 1992.
وكان «يونيب» قد انتقل عام 1984 إلى مكاتبه الدائمة، التي شيّدها بالاشتراك مع منظمات أخرى في الأمم المتحدة، في طليعتها برنامج المستوطنات البشرية (هابيتات). وضمّ المقر، الذي بُني في أحضان الطبيعة، مركزاً حديثاً للمؤتمرات. وكانت قد فازت بعقد البناء شركة عبد المحسن الخرافي الكويتية، نتيجة لمناقصة عالمية، من بين المشاركين فيها شركة إسرائيلية. ونتج عن هذا احتجاجات شديدة، اتهمت مصطفى طُلبة بالانحياز، ووصلت إلى حد تقديم شكوى إسرائيلية إلى الرئيس المصري أنور السادات، تتهم طُلبة بالعمل ضد معاهدة السلام، لكنه نجح بحنكته الدبلوماسية في الخروج من المأزق.
- بين مطرقة الاستخبارات وسندان إسرائيل
ويتذكر طلبه مشكلتين واجهتاه مع الولايات المتحدة بعد قضية المقر، كانت وراءهما السياسة. الأولى عام 1987 حين كانت الحرب الباردة على أشدّها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فقد أبلغ البيت الأبيض نيّته إلغاء الدعم الطوعي الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى «يونيب»، ومقداره عشرون مليون دولار، لأن المنظمة، في رأيهم، «مفتوحة لرجال الاستخبارات السوفيات كي ينقلوا كل شيء إلى حكومتهم». ويعلّق طُلبة أن هذا بدا أمراً غريباً، رغم الحرب الباردة. «فمنذ بدء عمل (يونيب) كان في المناصب الكبرى الأميركي بيتر ثاتشر، الذي كان يعمل أصلاً في وكالة الاستخبارات الأميركية، والروسي سفين أفتييف. وكلّنا كان يعلم أن الترشيح لأي منصب كبير في الأمم المتحدة من الاتحاد السوفياتي لم يكن يتم إلا إذا كان للمرشح وضع خاص مع الاستخبارات السوفياتية». وبعدما اعترض طُلبة على الملاحظات الأميركية، قررت الولايات المتحدة الاستمرار في تسديد مساهمتها. فبعدما لمَّح إلى تشابه الممارسات الأميركية والسوفياتية، أوضح أنه ليس لدى البرنامج أي أسرار لا يعرفها كل مندوبي الدول الدائمين المعتمدين لديه في اللقاءات الشهرية التي تُعقد معهم.
أما المشكلة الثانية مع الولايات المتحدة فحصلت عام 1991 حين هدد أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي بعدم الموافقة على المساهمة في ميزانية «يونيب» لعدم تعيين موظفين ومستشارين إسرائيليين فيه ولعدم قيام المدير التنفيذي بزيارتها. وكان رد طُلبة أن التعيين يتم بناءً على اقتراح لجنة شؤون العاملين، التي تختار أفضل ثلاثة مرشحين تقدمهم إلى المدير التنفيذي للاختيار من بينهم. وإذا لم تقدم اللجنة أي اسم من إسرائيل، فهذا يعني أن إسرائيل لا ترشح إلا من هم في مستوى متواضع من القدرة العلمية لا يرقى إلى مستوى المنافسة مع مرشحي الدول الأخرى. كما شرح طُلبة أنه عيّن أحد الإسرائيليين مستشاراً في مكتب اتفاقية برشلونة لحماية البحر المتوسط في أثينا، لكنه عمل لأشهر معدودة، استقال بعدها لأنه لم يستطع التأقلم مع زملائه في المكتب. أما عن زيارة إسرائيل، فوعد بتلبية الدعوة حين يتلقاها كرئيس منظمة دولية، لكنه أشار إلى قرار من المجلس التنفيذي لـ«يونيب» بأن يقدم له تقريراً سنوياً عن حالة البيئة في الأراضي المحتلة من فلسطين، ولا بد أن يتضمن برنامج الزيارة تنفيذ هذا الطلب. فما كان من أعضاء مجلس الشيوخ المحتجّين إلا الموافقة على المساهمة في الميزانية تجنباً للإحراج. ويعلّق طُلبة أنه «لم يكن لهذا أي علاقة بعمل المنظمة أو كفاءتها، ولكن الأمر كلّه كان مرتبطاً بدعم مجلس الشيوخ الأميركي لإسرائيل».
- البحار الإقليمية
كانت مشكلات البيئة التي حددها مؤتمر استوكهولم عام 1972 تتفاقم، وكان لا بد من التركيز على قضية التعاون الدولي في حلّها، لأنها جميعاً نتيجة النشاط الإنساني، ولكن نتائج هذا النشاط عابرة للحدود والقارات. وكان رأي طُلبة أن يبدأ «يونيب» بالمشكلات الإقليمية، انطلاقاً من البحر المتوسط، باعتبار أن المشكلات التي ترتبط بالبحار أقل تعقيداً من تلك الناجمة عن مصادر المياه العذبة، التي صُنّفت أيضاً بين الأولويات.
كان الكابتن كوستو، وهو بحّار فرنسي كرَّس نفسه لخوض غمار البحار والدعوة إلى محاربة التلوث فيها، قد جاب البحر المتوسط بسفينته الشهيرة «كاليبسو»، ثم أعلن في مؤتمر صحافي في باريس أن البحر المتوسط يموت بسبب التلوث. وكانت هذه فرصة مواتية لمحاولة عقد اتفاقية إقليمية بين كل الدول المطلة على البحر المتوسط، أُطلقت فكرتها عام 1974 لكن الدول العربية الثماني التي تطل على البحر المتوسط، بما فيها مصر والأردن، كانت في حالة حرب مع إسرائيل وترفض أن تجلس معها إلى طاولة الحوار، ناهيك بالمفاوضات. إضافةً إلى ذلك، كانت الجزائر والمغرب على خلاف مستمر بسبب الصحراء. ومن ناحية أخرى، كانت الدول العربية، أي دول جنوب وشرق البحر المتوسط، تُحمِّل الدول الصناعية في شماله مسؤولية التلوث، ولذا عليها أن تتحمل مسؤولية الإنقاذ. أما دول شمال البحر المتوسط، الأوروبية، فكانت ترى أن دول الجنوب هي المسؤولة عن التلوث بسبب ما تُلقيه في البحر من مخلّفات بشرية غير معالجة. وفي دول شمال المتوسط نفسها، كانت اليونان وتركيا على خلاف بسبب قبرص.
بعد حوار استمر شهوراً طويلة، نجح فريق طُلبة بإقناع الدول بأنْ لا بديل من التعاون لإنقاذ المتوسط، فجلست أخيراً إلى طاولة المفاوضات، بما في ذلك الدول العربية وإسرائيل. وانتهى الأمر إلى إقرار خطة عمل لحماية البحر المتوسط عام 1974 أعقبتها اتفاقية برشلونة عام 1975، وهي اتفاقية دولية ملزمة. وقد أقرّت الدول كلها خطة العمل ووقّعت على الاتفاقية، وأنشئت في أثينا سكرتارية للإشراف على التنفيذ.
عُدّ هذا أول نجاح لـ«يونيب» في تحقيق واحد من أهم أهداف حماية البيئة، مما شجّع دولاً في مناطق أخرى على مطالبة «يونيب» بإجراء مفاوضات توصلاً إلى اتفاقيات مماثلة لحماية البيئة البحرية. وهي تطورت لاحقاً لتشمل قضايا متشعبة أخرى، بينها التنوع البيولوجي والتصحر والنفايات الخطرة والأوزون والتغيُّر المناخي.

خفايا الاتفاقيات البيئية... من الأوزون إلى المناخ


مقالات ذات صلة

غوتيريش يحث من «كوب 29» العالم على سد فجوة تمويل بـ359 مليار دولار

الاقتصاد يشاهد المشاركون عرضاً تقديمياً خلال جلسة عامة في مؤتمر الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ في «كوب 29».(إ.ب.أ)

غوتيريش يحث من «كوب 29» العالم على سد فجوة تمويل بـ359 مليار دولار

جدَّدت مناقشات اليوم الثاني من فعاليات مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في العاصمة الأذربيجانية باكو، تطلعات دول العالم إلى التوصل لاتفاقات جادة.

«الشرق الأوسط» (باكو)
أوروبا طفل وسط مخيمات النازحين في وسط غزة (رويترز)

كوارث الطقس دفعت 220 مليون شخص إلى النزوح في العقد الأخير

يُسهم تغير المناخ في دفع عدد قياسي من الناس إلى الفرار من منازلهم حول العالم.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
الاقتصاد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر متحدثاً في «كوب 29» (د.ب.أ)

رئيس الوزراء البريطاني يحدد هدفاً جديداً للمناخ لعام 2035

قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، إن بريطانيا ستخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 81 في المائة بحلول عام 2035.

«الشرق الأوسط» (باكو)
الاقتصاد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يتحدث في مؤتمر «كوب 29» في باكو (د.ب.أ)

غوتيريش يحذر في «كوب 29»: ادفعوا... أو واجهوا كارثة تهدد البشرية

قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، لقادة العالم في قمة «كوب 29» في باكو يوم الثلاثاء، إنهم بحاجة إلى «دفع المال»؛ لمنع الكوارث الإنسانية

«الشرق الأوسط»
الاقتصاد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف يتحدث في حفل افتتاح مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (رويترز) play-circle 01:32

الرئيس الأذربيجاني في «كوب 29»: النفط والغاز «هبة من الله»

أكد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف الذي تستضيف بلاده مؤتمر «كوب 29» للمناخ الثلاثاء أن النفط والغاز والموارد الطبيعية الأخرى هي «هبة من الله».

«الشرق الأوسط» (باكو)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!