صدرت أخيراً في المغرب رواية «المعلم بلال» للكاتب محمد أحمد الومان، بدعم من وزارة الثقافة المغربية.
صفحات الرواية المائة والأربعون شكلت حلقات درامية متعددة الأصوات، أُثير فيها عددٌ من القضايا الاجتماعية والنفسية التي تنبش في المسكوت عنه ضمن سياق ثقافي مميز هو الجنوب المغربي بخصوصياته الثقافية المعروفة. بدأت الرواية في فضاء تقليدي هو الجنوب، لكن مجريات الأحداث سرعان ما انتقلت جغرافياً من أزقة طانطان في عمق الصحراء المغربية صوب مدينة فاس بدروبها القديمة وفضاءاتها المسكونة بالأسرار والتقاليد.
القاسم المشترك بين البيئتين كان احتضانهما معاً لمهنة الصانع التقليدي، وإنْ كان هذا القاسم المشترك قد حمل دلالات رمزية مختلفة حد التناقض.
بطل الرواية «المعلم» بلال عاش تجربة الاغتراب داخل فضائه الاجتماعي في جغرافيا الصحراء، وكان عليه أن يكابد تبعات التقسيم الطبقي الصارم الذي يصنف الصناع التقليديين في درجة اجتماعية غير لائقة، وهو ما لم يكن يتلاءم بالطبع مع القيمة الفنية والمهارة التي يحظون بها دون غيرهم. وعطفاً على ذلك فإن أعراف المجتمع - كما هو مبين في متن الرواية - كانت تمنع فئة الصناع التقليديين من الاختلاط بباقي الشرائح وفق تقاليد ثقافية متوارثة من زمن القبيلة بالصحراء. هذا التصنيف الثقافي للصانع لا يقتصر عليه هو فقط، بل يتجاوزه إلى النسل من أبناء وأحفاد، فنَجْلُ «المعلم» بلال مثلاً لم يستطع الزواج بفتاة أحلامه، لكونه ورث صفة «الصانع» عن أبيه، وفي هذا الباب يحكي الكاتب عبر تقنية «البلويفونيا» بأصواتٍ متعددة عن المعاناة النفسية المزمنة لصانع تقليدي مكافح غادر مسقط رأسه بحثاً عن الخلاص، ولم تشفع له الجوائز التي نالها لقاءَ نجاحه المهني الباهر، ولم تسهم المكانة الاقتصادية المرموقة التي حظي بها في جعله ينعتق من تراث التصنيف الثقافي لطبقات المجتمع الحساني (الصحراوي) الذي ظل بحكم العُرف حبيس الثابت النمطي في تعاطيه مع الأفراد وانتماءاتهم.
خلافاً لذلك، تبرز في مدينة فاس تلك النظرة الإيجابية للصانع التقليدي، فيبدو من خلالها مقترناً بصفات الجودة والنشاط باعتباره صاحب قدرة جمالية على الخلق والإبداع في قالب فني ومهني مرموق.
ضمن هذا السياق كانت هجرة «المعلم» بلال في حد ذاتها سفراً نحو الذات في مكان آخر، إنه سفر نحو تأويل جديد للمهنة وللانتماء وللثقافة السائدة.
لقد وصف الكاتب خلال حلقات الرواية المتنامية على نحو درامي هادئ صلابة الموروث الثقافي في الصحراء وجموده في كثير من الأوقات، فهو موروثٌ قبلي استعصى لمدة طويلة على التغيير، رغم كل التحولات الاجتماعية والمؤسساتية التي شهدها مجتمع الجنوب في الصحراء المغربية. لكن الكاتب نفسه، ومن وحي الرحلة التي قادت بطل الرواية إلى دروب فاس العتيقة يستشرفُ أفقاً آخر لفكرة المدنية الناشئة، تلك التي تعيد للإنسان كينونته البكر، وتجعله يتحرر من أحكام السياق الثقافي، متخففاً من عبء التاريخ بكل موروثه وأعرافه، وفي المقابل، تقترح هذه الفكرة المدنية الناشئة عنصر الإبداع كمعيار حديث للتميز دون الحاجة إلى أي تصنيف.
«المعلم بلال»... رواية مغربية تنبش في المسكوت عنه
فضاؤها الجنوب المغربي بخصوصياته الثقافية المعروفة
«المعلم بلال»... رواية مغربية تنبش في المسكوت عنه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة