كان ذلك في عام 1776. مستعمرات القارة الأميركية أعلنت للتو استقلالها عن بريطانيا العظمى، واحتدم الجدل بين الآباء المؤسسين للدولة الفتية: هل يحق للأميركيين حمل السلاح فرديّاً؟ أم فقط إن كانوا عناصر في ميليشيات محلية؟
عودة إلى عام 2022. في أقل من أسبوعين، وقع حادثا إطلاق نار أودى أولهما بعشرة أميركيين سود، والثاني بـ19 طفلاً ومدرّستين. مجزرتان جديدتان حرّكتا السجال القائم منذ نشأة الولايات المتحدة الأميركية، سجال يتعذر فهمه على كل الدول المتطورة الأخرى.
فمع الوقت، اقترن إرث حرب الاستقلال بحسب الخبراء بقناعة متزايدة لدى الأميركيين، بأن عليهم امتلاك أسلحة للحفاظ على سلامتهم، وهي قناعة تستند إلى أسطورة كاملة أسبغت عليها دلالات دينية.
وما شجّع إلى حدّ بعيد على هذا التطور، قطاع صناعة الأسلحة الذي لعب على وتر العنصرية والخوف من انعدام الاستقرار، برأي راين باس، أحد قدامى هذا القطاع.
كتب باس هذا الأسبوع في مجلة «ذي بولوارك» الإلكترونية، أن المجازر الأخيرة «هي النتاج الثانوي لنموذج صناعي مصمم للاستفادة من تأجيج الكراهية والخوف ونظريات المؤامرة».
كانت الأسلحة النارية ضرورة لا غنى عنها في سبعينات وثمانينات القرن الثامن عشر في البلد الناشئ.
وامتلاك سلاح ناري كان يعني الوقوف بوجه الأنظمة الملكية المستعمرة، وخصوصاً الجيش البريطاني.
وأشاد جيمس ماديسون الذي يعرَّف عنه على أنه «أبو الدستور» الأميركي، بـ«ميزة امتلاك السلاح التي يتفوق بها الشعب (الأميركي) على كل البلدان الباقية تقريباً».
وبمواجهة حكومة فيدرالية لا تزال متلعثمة، حرصت أولى الولايات الأميركية على وضع قوانينها الخاصة والاحتفاظ بسلاحها.
فهل أن الأسلحة النارية فعلاً أساسية لمكافحة الطغيان؟ ألا يجدر الاعتماد على ميليشيات محلية منظمة؟ لكن هذه الميليشيات نفسها ألن تتحول بدورها إلى قوة طغيان؟
إنّه جدل يصعب فهمه خارج الولايات المتحدة، وخصوصاً في أوروبا؛ حيث مفهوم الأمن يحكمه ما اختزله عالم المجتمع ماكس فيبر بعبارة «احتكار العنف المشروع»، أي فكرة أن يعول المواطنون على قوات حفظ النظام للدفاع عنهم لقاء التخلي عن تحقيق العدالة بأنفسهم.
وهذا المفهوم أبعد ما يكون عن التسوية التي تم التوصل إليها عام 1791، وأرساها ما يعرف بالتعديل الثاني للدستور الأميركي، وجاء فيه: «بما أن ميليشيا منظمة بشكل جيد ضرورية لأمن دولة حرة، فلا يجوز انتهاك حق الناس في الاحتفاظ بالأسلحة وحملها».
خلال القرنين التاليين، تحوّلت الأسلحة النارية إلى عنصر أساسي في أسطورة الولايات المتحدة وتاريخها، بصفحاته المجيدة كما القاتمة.
فهل يمكن تصوّر روّاد الغرب الأميركي يواجهون بيئة طبيعية معادية، ويحاربون قطّاع طرق وخارجين عن القانون من دون بنادقهم؟ أو أبطال «أفلام الويسترن» يخوضون مغامراتهم من دون سلاحهم؟
يشير ديفيد يامان، الأستاذ في جامعة «وايك فورست» الذي كتب عن هذا الانتقال من «ثقافة أسلحة نسخة أولى» إلى «ثقافة نسخة ثانية»، إلى الدور الدموي الذي لعبته الأسلحة النارية في إرضاخ القبائل الهندية والسيطرة على العبيد.
وبحلول بداية القرن العشرين، ومع توسّع المدن وانتشارها المتزايد، وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام مستويات عنف بسبب الأسلحة النارية لا تقارن بالدول الأخرى.
وأحصى المؤرخ ريتشارد هوفشتادتر أكثر من 265 ألف جريمة قتل بالأسلحة النارية بين 1900 و1964.
واتخذت السلطات الفيدرالية إجراءات، منها حظر البنادق الرشاشة عام 1934، وإلزام مالكي الأسلحة بالتصريح عنها.
بموازاة ذلك، فرضت الولايات نفسها قيوداً، فمنعت على سبيل المثال حمل السلاح في العلن.
وكان الرأي العام مؤيداً لضبط الأسلحة، إذ أعرب 60 في المائة من الأميركيين عام 1959 عن تأييدهم لحظر الأسلحة النارية كلياً للأفراد، بحسب استطلاع للرأي أجراه معهد «غالوب».
غير أن أي مساع بهذا الصدد اصطدمت بالحملات الشديدة التي شنتها دفاعاً عن حق حمل السلاح شركات الأسلحة و«الجمعية الوطنية للبنادق»، لوبي الأسلحة الذي بات ذائع الصيت. ونجحت هذه الحملات حتى في منع فرض قيود تحد من استخدام السلاح ولو من دون حظره. ولم يبقَ سوى حظر على بيع الأسلحة النارية بالمراسلة، وحتى هذا الحظر يمكن بسهولة الالتفاف عليه.
بعد ذلك، وقفت الجمعية الوطنية للبنادق صفاً واحداً مع الحزب الجمهوري للدفاع عن التعديل الثاني للدستور، باعتباره كرّس «الحق الجوهري» في امتلاك أسلحة نارية وفق تفسيرها له.
وأوضح ماثيو لاكومب الأستاذ في كلية «بارنارد»، أنه من أجل الوصول إلى هذا التفسير، نسج اللوبي أسطورة حقيقية حول الأسلحة النارية يغرف منها حاملو الأسلحة لحيازة مكانة اجتماعية.
وباتت الأسلحة أداة بالغة الأهمية لتحديد الهوية السياسية، لا سيما في الأرياف التي لطالما سعى الجمهوريون للاحتفاظ بالسيطرة عليها على حساب الديمقراطيين.
كما تشير جيسيكا داوسون الأستاذة في كلية «وست بوينت» العسكرية إلى الرابط الذي أقامه لوبي الأسلحة مع اليمين الديني. وكتبت أن اللوبي «بدأ يستخدم تعابير ذات دلالة دينية ليرتقي بالتعديل الثاني عن القيود التي أقرتها حكومة علمانية».
ولم تثمر هذه الاستراتيجية عن نتيجة على الفور؛ بل بدأت مبيعات الأسلحة تتراجع مع صرف الأميركيين اهتمامهم تدريجياً عن الصيد ورياضة الرماية.
وبحثاً عن وسيلة تسويق جديدة، ركزت «الجمعية الوطنية للبنادق» والشركات المصنعة على استخدام آخر للأسلحة النارية، وهو الدفاع عن النفس، بحسب ما أوضح راين باس.
عندها بدأ بث إعلانات تصوّر أعمال شغب وعمليات سرقة، وتعرض ترسانة حقيقية من المعدّات «التكتيكية» بدءاً بالسترات الواقية من الرصاص وصولاً إلى الأسلحة الثقيلة، وذلك في وقت كانت البلاد تشهد فيه صعود الحركات المروجة لنظرية تفوّق البيض مع انتخاب باراك أوباما، أول رئيس أسود للولايات المتحدة.
وواجهت بعض الولايات تفاقم العنف بقوانين تجيز حمل السلاح من دون ترخيص، ما شكل منعطفاً برأي ديفيد يامان، وأدى إلى ازدياد المبيعات لدى مختلف فئات السكان.
وبدءاً من عام 2009، سجلت المبيعات زيادة كبيرة وصولاً إلى أكثر من 10 ملايين قطعة سلاح في السنة منذ 2013، مع تسجيل طلب هائل على الأسلحة شبه الأوتوماتيكية. وكشفت «الدراسة الاستقصائية للأسلحة الخفيفة» في يونيو (حزيران) 2018، أن الأميركيين كانوا يملكون حوالى 45 في المائة من الأسلحة النارية المدنية المنتشرة في العالم في أواخر 2017، في حين أنهم لا يمثلون سوى حوالى 4 في المائة من سكانه.
الحرية والخوف وجذور نشأة ثقافة السلاح في الولايات المتحدة
الحرية والخوف وجذور نشأة ثقافة السلاح في الولايات المتحدة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة