سهرة مع كيم جونغ أون

سهرة مع كيم جونغ أون
TT

سهرة مع كيم جونغ أون

سهرة مع كيم جونغ أون

في تلك الليلة، حيث تناولتُ من «الفراكة» أكثر مما تسع المعدة، نمت نوماً معتكراً، وراحت تعبث بي أحلام صغرى سريعة العبور. لكنْ فجأة، وجدت أمامي رجلاً يقف منتصباً، يلبس معطفاً من الفرو أبيض اللون، ويربّت على شعره الملمّع كمن يسوّي خصلاته ويجانسها.
وهو كان يضحك ضحكة متفجّرة كفيلة بإيقاظي، إلاّ أنّني، على ما يبدو، لم أستيقظ واكتفيت بأن فتحت عينيَّ بشيء من الكسل وقلت له: «لماذا تضحك بلا سبب يا هذا؟». لم أعرفه في البداية وهو، رغم محاولته إخفاء استيائه مما ظنّه تجاهلاً مقصوداً، حيّاني بعربيّة بليغة قائلاً: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»، ففاجأتْني تحيّتُه. وإذ حدّقت بوجهه انتبهت إلى أنّه الزعيم الكوري كيم جونغ أون، فسألته بعينين جاحظتين: «أين تعلّمت العربيّة يا سيّد كيم»، فأجابني بأنّه يتكلّم معظم لغات الأرض، مُزورّاً بوجهه عنّي كما لو أنّ سؤالي أثار فيه غضباً يصعب كتمانه. لكنّ كيم ما لبث أن أضاف، كأنّه يسامحني على غلطي ويعزّز، في الوقت نفسه، مفاجأتي به، أنّه يجيد تراثنا الأدبيّ، بشعره ونثره، إجادة تامّة، بل يعرف أيضاً أغانينا ويغنّيها مُسمّياً فيروز وفهد بلاّن. وبعد غمزة رشيقة من إحدى عينيه، حاول عبرها التقرّب منّي، أعلمني أنّ أكثر ما يحبّه في هذا التراث خطب الحجّاج بن يوسف الثقفيّ، عارضاً أن يلقي على مسامعي واحدة من تلك الخطب. وهذا، في الحقيقة، أراحني إذ أعفاني من التواصل معه باللغة الكوريّة التي لا أجيد حرفاً منها. لكنّني، رغم شعوري بالارتياح، رجوتُه ألاّ يتلو عليَّ خطبة حجّاجيّة تمنعني لوقت طويل من النوم، وقد توقظ جيراناً كثيرين في بنايتنا.
وبهدوء ولطف جلس كيم على مقعد متروك في غرفة نومي، مُطلقاً ابتسامة ودودة راحت تنتشر على وجهه كما لو أنّها تضيئه من الخدّ إلى الخدّ. فحين سألته عن سبب تشريفه لي بهذه الزيارة، قال لي: «إحزر»، ولمّا لم أحزر، عدّل جلسته قليلاً وأخبرني بأنّه سوف يصارحني بالحقيقة: «أنا سوف أضرب قنبلة ذرّيّة في صباح الغد». هكذا قال حرفيّاً وانفجر بضحكة قويّة جعلتني أجفل وأهتزّ اهتزازاً عميقاً. وتحت وطأة المفاجأة ورفع الكلفة بيننا، بدليل اطّلاعي على سرّه الكبير، أحسست أنّ في وسعي مخاطبته باسمه الأوّل: «لا يا كيم، لا تفعلها، إيّاك أن تفعلها، إيّاك...»... لكنّ كيم شرد عنّي كأنّه لا يسمعني، وبدأتْ عيناه تحدّقان مدهوشتين بكُرة صغيرة نسيَها حفيدي في زاوية الغرفة. وفجأة راح يمطّ جسمه باتّجاهها حتّى قبض عليها بيديه الاثنتين، كما لو أنّها طائر قد يُفلت ويطير بعيداً إن لم يقبض عليه. وسرت البهجة في كيم الذي جعل يقذف الكرة باتّجاه الحائط فكلّما ارتدّت صوبه عاود قذفها ثانية. وهو كان يفعل هذا بحماسة لا تصفها الكلمات، حماسة أرفقَها بدندنة أغنية «لاركب حدّك يا الموتور» لفهد بلاّن.
وإذ بدأ صبري يخونني وأنا أتابع غناءه العجيب ومداعبته للكرة، قلت له بغضب: «توقّف عن هذا يا كيم. هذه الكرة ليست لك. هي لطفل في السابعة من عمره يلهو بها، وأنا أنتظر الانتهاء من لعبك السخيف بها حتّى نعود إلى موضوع القنبلة الذريّة وأين ستضربها وفي أي ساعة، ولماذا اخترتَني أنا لإبلاغي بهذا الأمر الخطير؟».
وإذا بكيم يشدّ بقبضة يده اليمنى على الكرة التي قرّبها من صدره كما لو أنّه يريد الاستحواذ عليها، فصرخت به مستجمعاً كلّ قدرتي على الصراخ: «اتركها لحفيدي يا كيم. هذه ليست لك. اتركها وإلاّ...»...
لكنْ في تلك اللحظة، وعلى نحو مباغت، توقّف عن الغناء وبدأ يبكي مطلِقاً أصواتاً عجيبة صحبتها كلمات كوريّة لم أفهمها، كما راح يضرب قدميه بالأرض احتجاجاً، وبيده ينكش خصلات شعره المرتّبة كما لو أنّه يرثي حاله، ثمّ بعد لحظة قصيرة مدّ سبّابته باتّجاهي وقال: «سوف أضربك أنت بالقنبلة الذرّيّة. سوف أصيبك شخصيّاً. لن تستطيع أن تفلت منّي».
ويبدو، حسبما أذكر، أنّني خفت ورحت أهدّئ من روعه قائلاً له: «الأمر لا يستدعي هذا كلّه. أنا أعتذر عمّا قلته لك، ومستعدّ أن أشتري لك كرة أخرى حين أستيقظ. لكنْ أرجوك، لا تضربني بقنبلة ذريّة».
وفي محاولة منّي لاسترضائه، فضلاً عن رغبتي في كسر الصمت الذي انتشر في الغرفة، سألته: «أنت قادم من مكان بعيد، من كوريا، ألست جائعاً يا كيم، ألا تريد أن تأكل شيئاً؟».
«آكل؟ نعم، أنا جائع. أريد الزلابية التي وصفها شاعركم ابن الرومي».
«زلابية؟ هذا مستحيل الآن في هذا الوقت المتأخّر. أستطيع أن آتيك بـ...»... وقاطعني كيم مستعيداً الغضب الذي ظننتُ أنّه فارقَه: «إذاً سأضربك بالقنبلة ما دمتَ لا تقدّم لي صحناً من الزلابية». وفكّرت لوهلة بأن أستنجد بأبيه كي يردعه ثمّ تذكّرت أنّ أباه مات، فاستجمعتُ قواي مجدّداً وقلت له: «أنت تنوي ضرب الإمبرياليّة بالقنبلة، وأنا لست إمبرياليّاً يا كيم. أنا مواطن بسيط لا يشكّل خطراً على أحد، وخصوصاً على أحبّائنا الكوريين». وعندها قهقه قهقهة مجلجلة أخرى ثمّ وقف وترك لشفتيه، اللتين تباعدت واحدتهما عن الأخرى، أن تفصحا عن كتلة هائلة من البياض المقيم في أسنانه. مدّ يده صوبي فتصافحنا وراح يشدّ على يدي بقوّة كادت تكسر عظامها، أو أنّ هذا ما تراءى لي، ثمّ أردف: «أنت أعجبتني بجوابك، وأنا سوف أعطيك قنبلة ذريّة...»، وراح يفتّش في جيوب معطفه.
«ولكنْ ماذا أفعل بها يا كيم؟».
«تضربها. اضربها على بلد لا تحبّه. على شعب لا تحبّه. على شخص لا تحبّه. جيرانك في الطابق الأعلى، ألا يزعجونك بخبط أقدامهم؟ اضربهم بها... أنا أملك الكثير منها، ويمكنني، إذا شئتَ، أن أعطيك قنبلة أخرى تعطيها لحفيدك الذي أنوي أن أقدّم له هديّة صغيرة، خصوصاً وقد لعبت بِكُرته».
«حفيدي، ابن السبع سنين، ستعطيه قنبلة ذريّة يا كيم؟».
هنا نظر إليَّ باستغراب ممزوج بالغضب:
«أنتم تُربّون أولادكم تربية سيّئة جدّاً. تريدونهم أن يطلعوا مثل شادي الذي خطفته الإمبرياليّة ولم يجدوا له أثراً حتّى الآن».
«لكنْ من هو شادي يا كيم؟».
«ألا تعرفه؟ إلى هذا الحدّ أنتم تنسون أبطالكم! كلّ الشعب الكوري يغنّي اليوم أغنية مطربتكم فيروز عن شادي الذي خطفته الإمبرياليّة، ونحن مصممون على إعادته». وراح بصوت حزين وعينين مغرورقتين بالدمع يدندن:
«ويوم من الأيّام ولعت الدني- ناس ضدّ ناس علقوا بهالدني- وصار القتال يقرب عَ التلال والدني دني».
ولم أتمالك نفسي فقلت له بكثير من التوتّر:
«هذه مهزلة يا كيم. إنّها أغنية سخيفة لا دخل لها بالإمبرياليّة، وشادي ولد مُتخيَّل لا يمكن أن تُضرب من أجله قنابل ذرّيّة».
هنا، وكما لو أنّني هدمت قصراً من الأحلام مقيماً في رأسه، راح يصرخ: «حتماً سوف أضربك بالقنبلة الذرّيّة. هذه ساعاتك الأخيرة على وجه هذه الأرض. لن تستطيع الإمبرياليّة إنقاذك، لن تستطيع...»... وأنا بدوري زاد غضبي وتضاءلت قدرتي على لجمه: «اثبتْ على رأي يا كيم. اثبتْ على رأي. ساعة تريد أن تضربني بالقنبلة وساعة تريد أن تهديني قنبلة. اثبتْ على رأي يا كيم...»... ورحت أكرّر هذه العبارة الأخيرة بصوت مرتفع فيما كانت زوجتي تستيقظ مذعورة هي الأخرى. لقد رأت وجه حسن نصر الله مطبوعاً على سطح الغرفة يحدّق بها ويهدّدها بالخنق، وهي لم تعرف لغضبه سبباً واضحاً.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

أحمد سعد يستعيد قديمه في دبي ويَعدُ زوجته بحفل زفاف جديد

الفنان المصري أحمد سعد أصبح بصحّة جيّدة (إنستغرام)
الفنان المصري أحمد سعد أصبح بصحّة جيّدة (إنستغرام)
TT

أحمد سعد يستعيد قديمه في دبي ويَعدُ زوجته بحفل زفاف جديد

الفنان المصري أحمد سعد أصبح بصحّة جيّدة (إنستغرام)
الفنان المصري أحمد سعد أصبح بصحّة جيّدة (إنستغرام)

استعاد الفنان المصري أحمد سعد أغنياته القديمة في حفل أحياه، الجمعة، بدبي، شهد حضوراً عربياً حاشداً. وتأتي مشاركته في الحفل بعد غياب نحو 9 أشهر عن الغناء في دولة الإمارات العربية، بعدما كان قد أحيا حفلاً في فبراير (شباط) الماضي في «القرية العالمية»، كما أنها أولى حفلاته الغنائية خارج مصر، بعد شفائه من الجراحة التي أُخضع لها مؤخراً.

وصعد الفنان المصري إلى المسرح على نغمات أغنيته الشهيرة «جت الملوك» التي استقبل بها جمهوره، وألحقها بتقديم الشكر إلى الجمهورَيْن المصري والعربي، مؤكداً أنها تُعد ليلة من لياليه الجميلة في الآونة الأخيرة؛ ليستكمل الحفل بأغنية «إيه اليوم الحلو ده».

مازح أحمد سعد، خلال وصلته الغنائية، 4 أشخاص من الجمهور، فقال لأحدهم: «عامل فيها رئيس مجلس إدارة الحفل، اضحك وغنِّ معنا»، ليستكمل الأمسية بتقديم أغنيات «وسَّع وسَّع»، و«اختياراتي مدمّرة حياتي»، و«نغزة»، و«عليكِ عيون».

أحمد سعد يستعيد أغنياته القديمة في دبي (إنستغرام)

وطلب الفنان المصري من الجمهور مشاركته في الرقص على وَقْع أغنية «سايرينا يا دنيا» التي كان قد ابتكر لها رقصة خاصة، وحينما أخفقوا في ذلك، علَّق: «حسناً فلنغنّها سوياً». وأكمل الحفل بتقديم عدد من أغنياته القديمة قبل أن يختتمه، مجدداً، على نغمات أغنية «إيه اليوم الحلو ده».

كان أحمد سعد قد اصطحب زوجته علياء البسيوني إلى الحفل، فاكتفت بالحضور في الكواليس من دون الظهور على المسرح. لذلك وجَّه إليها كلمة خاصة خلال مقابلته مع وسائل الإعلام: «علياء معي في الحفل، وأعد بأنه سيكون هناك حفل زفاف جديد خاص بها مع نهاية ديسمبر (كانون الأول) المقبل أو بداية العام الجديد. سأرتدي بدلة بيضاء وأغنّي لها».

وطمأن جمهوره عن صحّته في الوقت الراهن، فعلَّق لـ«الشرق الأوسط»: «صحّتي جيدة حالياً. أجريت جراحة في الهيكل الخاص بفمي تمت بنجاح، واستعدتُ عافيتي خلال الأيام الماضية بإحياء أكثر من حفل في مصر. أنا حالياً في الإمارات حيث يُسعدني الغناء على أرضها ويُشعرني بالفخر، قبل أن أستكمل باقي حفلاتي في جميع البلدان العربية، من بينها حفل كبير ستشهده الكويت بداية الشهر المقبل».