قراءة في السينما العربية غير الروائية

تختلف المستويات ويسود رصد الواقع

«حلال سينما» لأمين بوخريص
«حلال سينما» لأمين بوخريص
TT

قراءة في السينما العربية غير الروائية

«حلال سينما» لأمين بوخريص
«حلال سينما» لأمين بوخريص

حفل العام 2021 بالعديد من الأفلام التسجيلية والوثائقية، تلك التي تختار ما هو واقع، أو ما يفترض به أن يكون واقعياً، وتقدمه لمن يريد التعرف عليه.
الواقع والواقعي ليسا واحداً. الواقع هو صورة مجردة. الواقعي الصورة ذاتها مُعاشة بواقعية سواء أكان الفيلم روائياً أو غير روائي. لكن الخلط واقع في العديد مما نراه وذلك منذ سنوات، وكلما طُلب من شخص أن يمشي مسافة في طريق ما تلاحقه الكاميرا لكي يطرق باباً فيفتح له من في الداخل. ذلك الباب هو تمثيل تحت مظلة تسجيلية، وهذا ما بات حاصلاً بكثرة ليس عربياً فقط، بل وكان عالمياً.

تسقط السينما وترتفع القضية
السينما العربية غير الروائية تشهد، كسواها، تنوعاً شديداً في المواضيع التي تطرحها، وآخر ما أنجز منها هذا العام (ثلاثة أفلام تونسية عُرضت في مهرجان أيام قرطاج السينمائية الذي انتهى قبل أيام) يشبه ما أُنجز في مطلع السنة لجهة هذا التنوع. لكن الجامع الأهم هو أنها أفلام قضايا. هذا لأنه، وعلى عكس السينما الروائية، من المستبعد قدرة مخرج على صنع فيلم لا يحمل قضية إلا إذا كان من نوع محدد. في هذا الإطار لا يوجد - مثلاً - فيلم يشابه ما قام به الأميركيان أندي وورهول وجون بالمر عندما تركا الكاميرا لثماني ساعات تصور مدخل مبنى «إمباير» والداخلين إليه أو الخارجين منه. ليس لقضية بل لشيء ما يزال غير مفهوم إلا لمن يستطيع منحه تفسيراً خاصاً. في حقيقته، «إمباير» فيلم آلي عن كاميرا تستطيع أن تحدق من زاوية واحدة لا تتغير لساعات المساء وحتى فجر اليوم التالي. بذلك طلب الفيلم من مشاهديه (القلة) متابعة عمل لا قضية له ولساعات لا يمكن قبولها على هذا النحو.
لا يوجد، في السينما العربية، والحمد لله، ما يماثل هذا الترف الخالي من القيمة الفعلية. الحياة العربية ومجتمعاتها مليئة بالقضايا السياسية والمعيشية والمشاكل الفردية فيها لا تُحصى. وسواء استعادت جزءاً من التاريخ أو حصرت نفسها في الحاضر فإن لديها الكثير مما تود قوله والتعبير عنه، وتفعل ذلك على مستويات بعضها أفضل نتيجة من بعضها الآخر.
السينما التسجيلية والوثائقية (الأولى تصور أكثر والثانية تستند إلى الوثائقيات أكثر) في العام 2021 ازدحمت في خانة القضايا من بحث مخرج عن سبب ولعه بسعاد حسني، إلى بحث آخر في حالة قريبين له هاجرا سوريا إلى ألمانيا مروراً بموضوع اختفاء سينمائيين عن الواجهة وحياة رجل يعيش في بيئة خطرة، وتلك الفتاة التي تتحجب هنا وتخلع الحجاب هناك وفي اليوم ذاته.
في الكثير من الأحيان يبقى الموضوع (حامل القضية) أقوى من فن التعبير عنه. تسقط السينما وترتفع القضية عوض أن يحدث العكس. الحاصل أن العديد من صانعي الأفلام يعتقدون أن كل ما هو مهم هو إبراز المضمون لأنه «واقعي»، والكاميرا في هذه الحالة مجرد أداة لنقل ما في الصورة لا أكثر إلا قليلاً (أو لا أكثر مطلقاً).
«نحن من هناك» (صُور سنة 2020 وشهد عروضه الأميركية في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي)، هو فيلم من النوع المتكاثر منذ سنوات. المخرج يختار الحديث عن فرد من أهله أو عائلته. قد يكون والده أو والدته أو شقيقه أو، كما الحال في «نحن من هناك» أولاد عمه.
«نحن من هناك» لوسام طانيوس مثال واضح على ذلك. يتابع المخرج، في مراحل غير متوالية، سعي ولدي عمه ترك سوريا والهجرة إلى الغرب. يمهد في مقابلاته الأولى معهما لتأسيس الشخصيتين الحالمتين بالهجرة ثم يقابلهما بعد وصولهما إلى لبنان، وبعد ذلك خلال رحلتهما إلى أوروبا من تركيا وبالقارب، ثم تمر فترة ليست بالقصيرة قبل أن يلتقطهما في ألمانيا. هذا الوصف هنا هو أكثر سلاسة مما نراه على الشاشة. المقابلات لا تقول الكثير رغم تعددها، والمخرج حصر قضية فيلمه في إطار هذا المسعى لإنجاز فيلم عن شخصيتيه. لا شيء آخر على جانبي الفيلم.
الفخ هنا، وفي أفلام مشابهة، هي أن الفيلم قد يؤول إلى الاكتفاء بطرح مشكلة شخصية لا تهم سواه. في هذا النموذج لا وجود لقضية مهمة تتجاوز مسألة وهي «الأقربون أولى بالمعروف». لا طرح لمشاكل الوطن ولا لما يحدث في الوطن البديل ولا المصاعب المترامية بين الوطنين.

أفلام عائلية
الوضع أفضل قليلاً في فيلم «طريق للبيت» (المغرب) الذي عرض في مطلع هذا العام في مهرجان «مخرجون جدد/ أفلام جديدة» في نيويورك. يصف الفيلم وضع المخرجة كريمة سعيدي إزاء حالة أمها التي بدأت تفقد ذاكرتها. تريد المخرجة تحقيق فيلم يسجل ما قد تنساه والدتها مستقبلاً. تختار لذلك أسلوب عرض بني على مشاهد ثابتة (غالباً) كما على طرح الأسئلة على الأم.
في كل خانة من هذه الخانات نجاح محدود. المشاهد الحية لأشخاص يمشون في الشوارع قد تفي بالغرض المحدد منها، لكنها لا تشكل العنصر المؤثر في كيان العمل. اللقطات الثابتة تُعالج كصور فوتوغرافية: باب. نافذة. بحر. يد. الخ… المنوال على تكراره يبدو كما لو أن خطأ في سياق الفيلم وقع، أدى إلى اللا - حركة. أما طرح الأسئلة فإنه يتحول إلى استجواب أم تُعاني وابنة تريد أن تصنع فيلماً عنها. هذه الناحية الأخيرة قاسية والأم تشعر بذلك لهذا تقول لابنتها أكثر من مرة إنها «تزعجها» و«تغضبها». وفي مرة تقول لها: «توقفي عن إغضابي».
في الفيلم المصري «العودة للبيت» (عروض مهرجان الجونة)، تفتح المخرجة سارة الشاذلي الباب على نحو أوسع. هو عن عودة فتاة بعد غربة عشر سنوات لتعيش، مضطرة، مع والديها. لكن ما يبدأ اضطراراً يتحول إلى قبول ومعايشة وإعادة اكتشاف ضمن فيلم ينجز ما وعد به.
في التيار ذاته، عرض مهرجان «أيام قرطاج السينمائية» الذي انتهت دورته في السادس من هذا الشهر، فيلم «مقرونة عربي» لريم التميمي عن أب جزائري وأم إيطالية الأصل وكلاهما ولدا في تونس. تبحث المخرجة في أصل والديها عن طريق تصوير مشاهد من المقابلات وأخرى من الصور. الموضوع يلفت الاهتمام لنحو نصف ساعة ثم يفتر هذا الاهتمام لأن التاريخ الشخصي لا يتضمن نقاطاً يمكن لها أن تثري العمل لأكثر من تلك المدة. هذا لا يعني أن الفيلم يخلو فيما تبقى منه من وقفات تكشف جديداً، لكن منوال سرده لا يفتأ عن سرد مواقف وأحداث لا صدى لها خارج الدائرة الأسروية التي تدور في رحاها.
هذا الفيلم هو واحد من ثلاثة أفلام تونسية دخلت مسابقة الفيلم الوثائقي في «أيام قرطاج السينمائي» وخرجت بلا جوائز. الفيلمان الآخران يختلفان.
«أبي، فيم أفنيت شبابك؟» لأكرم عدواني يتحدث عن الكاتب التونسي غيلبرت نقاش من خلال مقابلات معه ومع ابنه سليم. البون واسع في السن (الأب 80 سنة والابن 25 سنة) كما في المفاهيم. غيلبرت نقاش شيوعي ملتزم آمن بالماركسية وآمن بها كمنهج نافع للبشر جميعاً، لكنه، وبسبب هذا الإيمان عرض نفسه للاعتقال ولديه الكثير مما يرويه عن تلك الفترة، واستعداد الرئيس الراحل بورقيبة للعفو عنه وعن رفاقه. بالنسبة للابن، سليم، نجده يتفهم نوازع والده السياسية، لكنه لا يوافق عليها. ففي حين يرى الأول أن الشعوب حول العالم تستحق حياة أفضل، يعتبر الابن أن الناس هي ضحية ما تقوم به «أنظر حولي وأرى أن ما يحدث معهم هو ما يستحقونه. هم مسؤولون عنه».
فيلم جيد لولا أن العديد من المفردات تتكرر وبعضها يخلو من الجديد، والأهم تصرف الابن في مواجهة الكاميرا التي تعكس، أحياناً كثيرة، ارتباكه. عوض إعادة التصوير يُكمل المخرج عدواني الحديث. هذا مقبول مرة أو ثلاث مرات، لكن المسألة سريعاً ما تفضي إلى حالة تستدعي الحل.
الفيلم الثاني هو «حلال سينما» لأمين بوخريص. فيه نتعرف على إمام مسجد اسمه علي، يخطب في المصلين ويمضي باقي الوقت في مسعاه لإعادة افتتاح صالة سينما مغلقة منذ 25 سنة. دافعه هو أن السينما تستطيع التوجيه والإفادة والتعليم والتثقيف. لا يرى، وهو محق في ذلك، أي تناقض بين دوريه في الحياة، فالأول شفهي والثاني بصري عبر انتقاء مجموعة من الأفلام التي تدور حول قضايا إسلامية ومجتمعية. ذروة الفيلم هي حين ينجح علي في افتتاح الصالة وتشغيل الفيلم المختار كبداية (ليس «الرسالة» لمصطفى العقاد الذي دار الحديث عنه أكثر من مرة).

أزمة لبنان المستعصية
هذا أفضل الأفلام الثلاثة لأكثر من سبب من بينها الملامسة الطبيعية للموضوع ومنح الكاميرا الدور المناسب لمواكبة الحوارات بين الموافقين على هذه الفكرة والمعارضين لها. هذا الحوار يشمل كذلك ما إذا تعدى على دور الخطيب في المجتمع أم لا.
السينما وحالها كانت موضوع فيلم آخر جاء من المغرب هذه المرة. «قبل زحف الظلام» لعلي الصافي بحث في وثائق السبعينات ومآلات مخرجين سينمائيين غابوا.
الفيلم وثيقة تاريخية ذات رسالة. وفي 70 دقيقة يجري المخرج مقابلات نادرة مع ممثلين ومخرجين ويعرض وثائقيات عما حدث في الفترة الممتدة من 1971 إلى 1974 التي شهدت صدام السلطات مع المثقفين والسينمائيين. يتابع الفيلم الثري باختياراته من المشاهد الحية والتوثيقية والمقابلات، ما حل بسينمائيين من أمثال عبد العزيز طرق (قضى 11 سنة في السجن)، والمخرج الراحل مصطفى الدرقاوي مخرج «عن بعض أحداث بلا دلالة»، والممثلة ليلى شنا، لعبت دوراً مسانداً في فيلم «مونراكر» أمام روجر مور سنة 1979.
من لبنان حفنة من الأفلام التي تستدعي الانتباه، لكن الكثير منها لا يرتفع إلى المستوى المرغوب. «نَفَس» لرامي عيتاني يدور حول ذلك الرجل الذي يعيش في بيئة اجتماعية تمنعه عن النمو ونبذ العنف. هو ارتاح في بيئته، لكنه يدرك أن عليه أن يبدأ حياة جديدة لو يستطيع.
في «يوم بلا غد» يصل المخرج محمد سويد إلى بيروت ليطرح شكواه على عدد من المعارف. يبوح بأنه يعاني من الأرق. يطلب منهم سرد حكاية للنوم. يطلب ذلك خلال المقابلة كترميز للحالة. وفي الوقت ذاته يطرح أسئلة عن سبب هيامه بالممثلة سعاد حسني وأفلامها.
سليم صعب في «أرزة أكتوبر» ينطلق لتسجيل حركة الرفض الشعبي للفساد المنقطع النظير في لبنان من قِبل الطبقة الحاكمة في بلد تهيمن عليه سياسات شتى. خلال المظاهرات الفعلية التي اجتاحت العاصمة قبل عامين. هو فيلم صادق وبلا نيات خفية أو تحزبات. يعبر فيه المخرج عما يعرضه عبر المقابلات ورسوم الغرافيتي والموسيقى.
لعل أفضل فيلم لبناني مما شاهدناه حتى الآن هو «سحين أزرق» لزينة دكاش، الذي هو تكملة لما طرحته سنة 2013 عبر فيلمها الرائع «يوميات شهرزاد»، عندما أمّت سجن بعبدا للنساء وجالت في رحى حالاته. هنا هي في سجن مخصص لذوي الاضطرابات النفسية الذين ارتكبوا جرائم. فيلم جيد على أكثر من صعيد ويحتاج لوقفة منفصلة.
مهرجان «أيام قرطاجة السينمائية» حفلت بالأفلام التسجيلية في المسابقة وخارجها ومنها «كما أريد» لليليان الراهب (لبنان)، و«الرقص مع الرصاصة» لضياء جودة (العراق)، و«كابتن الزعتري» لعلي العربي (مصر)، و«فلسطين الصغرى» لعلي الخطيب (فلسطين)، وهي مجموعة أخرى مما يجب التوقف عنده لاحقاً.


مقالات ذات صلة

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق تماثيل وقوالب من الفخار مصنوعة قبل الميلاد (مكتبة الإسكندرية)

«صناعة الفخار»... وثائقي مصري يستدعي حرفة من زمن الفراعنة

يستدعي الفيلم الوثائقي «حرفة الفخار» تاريخ هذه الصناعة التي تحمل طابعاً فنياً في بعض جوانبها، على مدى التاريخ المصري القديم، منذ أيام الفراعنة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من الفيلم تجمع «شاهيناز» وأولادها (الشركة المنتجة)

«المستريحة»... فيلم مصري يتناول النصّابين يمزج الكوميديا بالإثارة

تصدَّرت مجسّمات دعائية للأبطال دار العرض عبر لقطات من الفيلم تُعبّر عنهم، فظهرت ليلى علوي في مجسّم خشبيّ جالسةً على حافة حوض استحمام مليء بالدولارات.

انتصار دردير (القاهرة )

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».