«الجونة السينمائي» أطلق دورته الخامسة بافتتاح مبهج

يتجاوز «إطلالة الفنانات» باستعراض عروضه القوية

TT

«الجونة السينمائي» أطلق دورته الخامسة بافتتاح مبهج

بحضور نجوم الفن وصنّاع الأفلام من كل أنحاء العالم، أطلق مهرجان الجونة السينمائي دورته الخامسة متجاوزاً عقبة اشتعال النيران بمسرح بلازا، وسط أجواء احتفالية مبهجة، غلب عليها تذكر الفنانين الراحلين سمير غانم ودلال عبد العزيز.
وفي مستهل الافتتاح مساء أول من أمس، عبّر مدير المهرجان انتشال التميمي، خلال كلمته عن سعادته بنجاح المهرجان، وقال: «نفخر بأننا قدمنا مشروعاً ناجحاً في خريطة المهرجانات الدولية، والفضل في ذلك لفريق العمل الذي بذل كل الجهد حتى نحظى بتلك المكانة».
ويسعى «الجونة السينمائي» في دورته الخامسة لتغيير الصورة النمطية التي علقت في أذهان بعض المتابعين بخصوص إطلالات الفنانات طوال دوراته الماضية، وهو ما أثاره مؤسسه رجل الأعمال نجيب ساويرس، في المؤتمر الصحافي الذي سبق حفل الافتتاح، بقول: «نعرض أهم الأفلام العالمية، ثم نفاجأ بتركيز البعض على إطلالات الفنانات»، لافتاً إلى أن المهرجان «يسعى للتركيز على الأفلام القوية التي ينفرد بعرضها والفعاليات المهمة لصناع الأفلام».
وغاب عن الحفل الفنان الفلسطيني محمد بكري، الذي يمنحه المهرجان هذا العام جائزة الإنجاز الإبداعي، بسبب عدم حصوله بعد على التأشيرة، وقال بكري في تصريحات عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، إنه يأمل أن تنتهي إجراءات التأشيرة حتى يتمكن من اللحاق بالمهرجان، موجهاً الشكر لإدارة «الجونة السينمائي» لبذلها كل الجهود لضمان حضوره وتكريمه في حفل الختام.
وفيما أكد مدير المهرجان في تصريح لـ«الشرق الأوسط» سعيه لتمكين بكري من حضور حفل الختام، عبّر عن رضاه عن حفل الافتتاح، وقال: «هذه الدورة تعكس نضجاً للمهرجان، سواء على مستوى التنظيم أو في أفكاره وتوجهاته وبرامجه».
وأهدى الفنان أحمد السقا جائزة الإنجاز الإبداعي التي حازها لأشخاص عدة من بينهم الفنانان الراحلان سمير غانم ودلال عبد العزيز، ووالده الفنان الراحل صلاح السقا، ووالدته نادية السروجي، وزوجته الإعلامية مها الصغير.
وتزامن مع تكريم السقا عرض فيلم قصير ضم لقطات من أبرز أعماله، كما ضم شهادات لبعض زملائه من بينهم منى زكي وشريف منير والمخرج عمرو عرفة، وأثارت كلمته عن السينما قبل مرحلة التسعينات لغطاً بين رواد السوشيال ميديا الذين رأوا فيها «انتقاصاً من السينمائيين الذين عملوا قبلها»، مما جعله ينفي ذلك خلال المؤتمر الصحافي الذي عُقد له أمس، وقال السقا: «كلامي كان واضحاً، لقد تحدثت عن التقنيات ودور العرض التي لم تأخذ حقها بسبب الظروف السياسية التي عاشتها أجيال سابقة خلال النكسة والحروب، ولا أجرؤ أن أنتقص من أحد، لأن هذه الأفلام التي تربينا عليها وتعلمنا منها».
وتابع: «ولو أن هناك مَن فهم كلامي بشكل خاطئ فأنا أعتذر»، مؤكداً أن التطور التكنولوجي المتلاحق غيّر من شكل ومستوى الأفلام التي ظهرت بتكنيك أعلى. وعلق السقا على تجسيده للمشاهد الخطرة في أعماله «بأن ذلك ليس من باب استعراض العضلات»، وأضاف: «لست مختلاً، لكن الله أعطاني قدرة معينة لا أبخل بها بل أستمتع بأدائها، ولا بد من وجود عامل الأمان».
ونوه إلى أن مشاهد الأكشن تتطلب أن يتمتع مؤديها «بقلب جامد»، وأكد أن تكريمه مبكراً منحه دفعة قوية جعلته يشعر كأنه يبدأ من جديد، مشيراً إلى أن وقوفه أمام الكاميرا «متعته الوحيدة».
وشهدت الـ«ريد كاربت» خلال حفل الافتتاح توافد النجمات بشكل خاص، بإطلالات مختلفة، التي غلب على بعضها اللون الأبيض، ومنهن منة شلبي، بينما تعثرت منى زكي في أطراف فستانها المنسدلة أرضاً، وهو الآخر جمع بين اللونين الأبيض والأسود، كما ظهرت دينا الشربيني على «الرد كاربت» بصحبة الفنان حسن أبو الروس الذي لفت الانتباه بحركات راقصة وبدلته المزركشة، وتشابه تصميم فستان كل من شيرين رضا وبشرى الذي ينتهي بـ«كلوش واسع».
واحتفى المهرجان في حفل الافتتاح بالفنانين الراحلين خلال العام الماضي، وقدم الفنان سيد رجب فقرة الاحتفال بالراحلين كأنه يروي حدوتة، مؤكداً أهمية التعبير والتشخيص الذي يقوم عليه الفن، ليؤكد إبداعه المستمر حتى بعد رحيله، بينما ظهرت على الشاشة الخلفية أسماء وصور الفنانين الراحلين من الممثلين والمخرجين والكتاب والمنتجين في السينما العربية والعالمية.
وظهرت الفنانة لبلبة لتروي حكاية أخرى عن «صانع السعادة» الراحل سمير غانم، قائلة: «نحن هنا لنقول له: وحشتنا». وصاحب ذلك عرض لفقرة استعراضية ضمت مشاهد من أبرز أعماله في السينما والتلفزيون مزجت في براعة بين رقصات فوق المسرح ولقطات على الشاشة، واختُتمت بشخصية «فطوطة» الشهيرة التي قدمها في فوازير رمضان.
وأثار اختيار الفنان محمد رمضان لتقديم أحدث أغنياته «جو البنات» في ختام الحفل جدلاً كبيراً بين من يرونه اختياراً موفقاً، وآخرين وجّهوا إليه انتقادات. وغنّى رمضان بمشاركة «ريد ون وسالكسو»، في أول أغنية ناطقة بالعربية تنتجها «يونيفرسال آراب ميوزيك»، لتفاجئه الفنانة بشرى بباقة ورد على المسرح، ويردّ رمضان قائلاً: «الصلح خير»، في إشارة إلى إنهاء الخلاف الذي وقع بينهما بعد تقديم بشرى لأغنية سابقة رداً على أغنيته «نمبر وان».
وبدأت لجان التحكيم عملها أمس، داخل مسابقات المهرجان المختلفة حيث أقيمت ثلاث مسابقات رئيسية، إحداها للأفلام الروائية الطويلة، وتضم 16 فيلماً، ويترأس لجنة تحكيمها المنتج روب ألين، الرئيس التنفيذي لشركة «مارجيت هاوس فيلمز»، ومنتج فيلم «نتفليكس»، «أنا لم أعد هنا»، وعضوية الفنانة منة شلبي، والمخرج والمنتج اللبناني جورج هاشم، والمخرج الهندي كبير خان، إلى جانب سارة هوش، المؤسس والمدير التنفيذي لمهرجان «جوانا خواتو» بالمكسيك.
فيما ترأس المكسيكية مارتا سوسا لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية الطويلة التي يتنافس على جوائزها عشرة أفلام، وتترأس المخرجة كاملة أبو ذكري لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة، فيما ضمّت لجنة تحكيم مسابقة أفلام البيئة التي يقيمها المهرجان لأول مرة كلاً من الفنانة أروى جودة، والمخرج كيان مشايخ، والصحافية رنا نجار.


مقالات ذات صلة

وفاة الممثل البريطاني راي ستيفنسون نجم «ثور» و«ستار وورز»

يوميات الشرق الممثل البريطاني راي ستيفنسون (أ.ب)

وفاة الممثل البريطاني راي ستيفنسون نجم «ثور» و«ستار وورز»

توفي الممثل البريطاني راي ستيفنسون الذي شارك في أفلام كبرى  مثل «ثور» و«ستار وورز» عن عمر يناهز 58 عامًا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «إسماعيلية رايح جاي» يشعل «الغيرة الفنية» بين محمد فؤاد وهنيدي

«إسماعيلية رايح جاي» يشعل «الغيرة الفنية» بين محمد فؤاد وهنيدي

أثارت تصريحات الفنان المصري محمد فؤاد في برنامج «العرافة» الذي تقدمه الإعلامية بسمة وهبة، اهتمام الجمهور المصري، خلال الساعات الماضية، وتصدرت التصريحات محرك البحث «غوغل» بسبب رده على زميله الفنان محمد هنيدي الذي قدم رفقته منذ أكثر من 25 عاماً فيلم «إسماعيلية رايح جاي». كشف فؤاد خلال الحلقة أنه كان يكتب إفيهات محمد هنيدي لكي يضحك المشاهدين، قائلاً: «أنا كنت بكتب الإفيهات الخاصة بمحمد هنيدي بإيدي عشان يضحّك الناس، أنا مش بغير من حد، ولا يوجد ما أغير منه، واللي يغير من صحابه عنده نقص، والموضوع كرهني في (إسماعيلية رايح جاي) لأنه خلق حالة من الكراهية». واستكمل فؤاد هجومه قائلاً: «كنت أوقظه من النوم

محمود الرفاعي (القاهرة)
سينما جاك ليمون (يسار) ومارشيللو ماستروياني في «ماكاروني»

سنوات السينما

Macaroni ضحك رقيق وحزن عميق جيد ★★★ هذا الفيلم الذي حققه الإيطالي إيتوري سكولا سنة 1985 نموذج من الكوميديات الناضجة التي اشتهرت بها السينما الإيطالية طويلاً. سكولا كان واحداً من أهم مخرجي الأفلام الكوميدية ذات المواضيع الإنسانية، لجانب أمثال بيترو جيرمي وستينو وألبرتو لاتوادا. يبدأ الفيلم بكاميرا تتبع شخصاً وصل إلى مطار نابولي صباح أحد الأيام. تبدو المدينة بليدة والسماء فوقها ملبّدة. لا شيء يغري، ولا روبرت القادم من الولايات المتحدة (جاك ليمون في واحد من أفضل أدواره) من النوع الذي يكترث للأماكن التي تطأها قدماه.

يوميات الشرق الممثل أليك بالدوين يظهر بعد الحادثة في نيو مكسيكو (أ.ف.ب)

توجيه تهمة القتل غير العمد لبالدوين ومسؤولة الأسلحة بفيلم «راست»

أفادت وثائق قضائية بأن الممثل أليك بالدوين والمسؤولة عن الأسلحة في فيلم «راست» هانا جوتيريز ريد اتُهما، أمس (الثلاثاء)، بالقتل غير العمد، على خلفية إطلاق الرصاص الذي راحت ضحيته المصورة السينمائية هالينا هتشينز، أثناء تصوير الفيلم بنيو مكسيكو في 2021، وفقاً لوكالة «رويترز». كانت ماري كارماك ألتوايز قد وجهت التهم بعد شهور من التكهنات حول ما إن كانت ستجد دليلاً على أن بالدوين أبدى تجاهلاً جنائياً للسلامة عندما أطلق من مسدس كان يتدرب عليه رصاصة حية قتلت هتشينز. واتهم كل من بالدوين وجوتيريز ريد بتهمتين بالقتل غير العمد. والتهمة الأخطر، التي قد تصل عقوبتها إلى السجن خمس سنوات، تتطلب من المدعين إقناع

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
سينما سينما رغم الأزمة‬

سينما رغم الأزمة‬

> أن يُقام مهرجان سينمائي في بيروت رغم الوضع الصعب الذي نعرفه جميعاً، فهذا دليل على رفض الإذعان للظروف الاقتصادية القاسية التي يمر بها البلد. هو أيضاً فعل ثقافي يقوم به جزء من المجتمع غير الراضخ للأحوال السياسية التي تعصف بالبلد. > المهرجان هو «اللقاء الثاني»، الذي يختص بعرض أفلام كلاسيكية قديمة يجمعها من سينمات العالم العربي من دون تحديد تواريخ معيّنة.


100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)