«الإنترنت»... والحق في النسيان

يقول الخبر إن قاضياً إسبانياً «صدم» جماعات حقوق المرأة في بلاده، إثر رفضه دعوى تطالب بتجريم تصوير نساء سراً بينما كن يتبولن في أحد الشوارع، بسبب عدم وجود دورات مياه عمومية، أثناء مشاركتهن في احتفال عام.
وفي تفاصيل الخبر، الذي نشرته وسائل إعلام عالمية عديدة، يوم الجمعة الماضي، فإن نحو 80 امرأة صوّرن خلال مشاركتهن في مهرجان «ماروكسينا»، ببلدة سيرفو، في عام 2019، قبل أن يتقدم عدد منهن بشكاوى قانونية، إثر اكتشافهن وجود مقاطع فيديو لهن في الشارع. ورغم اعتراض عدد من المنظمات الحقوقية، فقد أمر القاضي بابلو فانكيز بتعليق القضية، بداعي أن المقاطع «تم تصويرها في مكان عام، ولذا لا يمكن اعتبارها جناية». ولكن، لا يبدو أن القضية ستتوقف عند هذا الحد؛ إذ تصر بعض الشاكيات على مواصلة السعي لمنع المواقع الإلكترونية من تداول تلك المشاهد، بداعي أن «مجرد وجود شخص ما في مكان عام لا يعني بالضرورة أن تصويره في وضع حميمي ونشر التسجيل ليس جريمة، لأن هذا الأمر يعد من الحقوق الأساسية»، كما تقول إحدى المتضرّرات.
من جانب آخر، فإن تلك الشكوى أخذت أبعاداً سياسية، بعدما دخلت وزيرة المساواة الإسبانية إيرين مونتيرو على خط القضية متضامنة مع الشاكيات، إثر حملة منظمة على «الإنترنت» استهدفت «إنصافهن». والواقع أن تلك القضية تتسع لتشمل أبعاداً إعلامية بجانب البعدين الحقوقي والقانوني؛ ولعلي أذكر في هذا الصدد أنني حضرت مؤتمراً لمنظمة «الأمبودسمان» العالمية (منظمة أهلية لمحرري شكاوى الصحافة)، بمدينة هامبورغ الألمانية، في عام 2015، لمناقشة مسائل أخلاقية ومهنية تتعلق بمعالجة الأخطاء التي تقع في عالم صناعة الإعلام. ومن بين الجلسات المهمة التي شهدها هذا المؤتمر جلسة بعنوان «الحق في أن تُنسى»؛ وهي الجلسة التي تقاسم الحديث فيها عدد من الخبراء، الذين راحوا يعرضون تجاربهم مع الشكاوى المثيرة للجدل.
وفي هذه الجلسة استعرض أحد المتحدثين قضية شاب صودف أنه «كان في المكان الخطأ والزمان الخطأ حين وقع حادث سرقة، حيث تم الاشتباه به، وأُلقي القبض عليه، وبعد التحقيق معه، ثبت أنه بريء، فأفرج عنه، من دون توجيه أي اتهام أو لوم».
ويشير المتحدث إلى أن هذا الفتى نسي تلك الحادثة تماماً، وراح يكمل حياته ويبحث عن عمل، من دون أن يلتفت إلى أن بعض وسائل الإعلام البريطانية كانت قد نشرت اسمه باعتباره مشتبهاً به في هذا الحادث. لكن معظم جهات العمل التي تقدم لها هذا الشاب كانت «تغوغل» اسمه عند فحص سيرته الذاتية. ولسوء الحظ، كانت الروابط التي تشير إلى صلته بهذا الحادث تظهر في المقدمة، لتعطي انطباعاً بأن هذا الشاب تورط سابقاً في حادث سرقة، حتى وإن لم يكن هناك ما يشير إلى ثبوت الاتهام في حقه.
يقول المتحدث إنه توقف أمام تلك الحالة؛ لأنها أثارت سؤالاً جوهرياً، عما إذا كان من الإنصاف حذف الروابط، التي تحمل اسم هذا الشاب، لكي يتسنى له أن يجد وظيفة مناسبة، أم يجب عدم الاستجابة إلى ذلك الطلب، وبقاء الروابط كما هي دفاعاً عن حق القارئ في المعرفة، وعن وظيفة «التوثيق» في الصحافة؟
تلك معضلة أخلاقية ومهنية كبيرة تطرح تحديات باستمرار، حيث يبحث البعض عن أسمائنا على محركات البحث، وفي بعض الأحيان تكون القصص والأخبار والمعلومات المنشورة غير دقيقة أو مشينة؛ فهل نملك الحق في طلب حذفها، وهل يمكن أن تستجيب وسائل الإعلام فتحذف هذه الروابط؟
بسبب هذه المعضلة نشأت فكرة «الحق في أن نُنسى»، ومفادها أن بعض الروابط أو المواد التي تُبث على «الإنترنت» وتحمل صورنا أو معلومات عنا يمكن أن تسبب لنا المشكلات؛ وهو ما يدعونا إلى المطالبة بإزالتها، لممارسة «حقنا» في أن «نُنسى».
والشاهد أن فتح الباب أمام الدعاوى التي تطالب بحذف معلومات أو أخبار أو فيديوهات متسقة مع اعتبارات البث على «الإنترنت»، بداعي حق أبطال تلك المشاهد والقصص في الحصول على النسيان أو تفادي الإحراج، أمر شائك، لأنه من الممكن أن يطيح حق الجمهور في المعرفة، ويجعل الساحة مجالاً لتلاعب أصحاب النفوذ. ومع ذلك فثمة ضرورة مهنية وأخلاقية لحجب هويات المتورطين في مثل تلك الحوادث إذا كان ذلك لا يؤثر سلباً في حق الجمهور في المعرفة وحق أطر المحاسبة العمومية في الحصول على توثيق للانتهاكات والممارسات المثيرة للجدل.