سميحة أيوب: فقدت حماسي للعودة إلى المسرح

قالت لـ«الشرق الأوسط» إن أغلب أفكار السينما قديماً كانت ساذجة

الفنانة المصرية الكبيرة سميحة أيوب  -  المخرج خالد جلال يكرم «سيدة المسرح العربي»
الفنانة المصرية الكبيرة سميحة أيوب - المخرج خالد جلال يكرم «سيدة المسرح العربي»
TT

سميحة أيوب: فقدت حماسي للعودة إلى المسرح

الفنانة المصرية الكبيرة سميحة أيوب  -  المخرج خالد جلال يكرم «سيدة المسرح العربي»
الفنانة المصرية الكبيرة سميحة أيوب - المخرج خالد جلال يكرم «سيدة المسرح العربي»

أكدت الفنانة الكبيرة سميحة أيوب أنها فقدت حماسها للعودة للمسرح بسبب تخبطات إدارية جعلت العرض المسرحي الذي أجرت بروفاته على مدى عام كامل لا يظهر للنور، وقالت في حوارها مع «الشرق الأوسط» إنها تعتز بمسيرتها الفنية الطويلة، وبتكريم ثلاثة رؤساء لها، المصري جمال عبد الناصر، والسوري حافظ الأسد، والفرنسي فاليري جيسكار ديستان، مشيرة إلى أن جائزة النيل للفنون التي حصلت عليها قبل أعوام توجت مسيرتها، وقد عبّرت سميحة أيوب عن تضامنها مع كبار الفنانين والفنيين الذين يجلسون في بيوتهم من دون عمل، مؤكدة وجود خلل جسيم في توزيع الأدوار على الفنانين.
وتعد سميحة أيوب صاحبة مسيرة فنية طويلة ملهمة، حيث بدأت عملها الفني وهي في الخامسة عشرة وظهرت لأول مرة في فيلم «المتشردة» عام 1947. وشاركت في فيلم «شاطئ الغرام» 1951 أمام ليلى مراد، والتحقت بالمعهد العالي للتمثيل وتتلمذت على يد الفنان الكبير زكي طليمات، وقدمت أعمالاً سينمائية ومسرحية وتلفزيونية مهمة، إلا أنها استحقت عن جدارة لقب «سيدة المسرح العربي» وفق نقاد، لتقديمها عروضاً كلاسيكية مميزة، من بينها «سكة السلامة، أنطونيو وكليوباترا، ست الملك، العباسة، الخديوي، مصرع كليوباترا».
وبينما كانت تستعد سميحة أيوب للعودة للمسرح القومي بعرض جديد هو «المورستان» المأخوذ عن مسرحية «بير السلم» للكاتب الراحل سعد الدين وهبة، فإنها كشفت عن اعتذارها عن المسرحية قائلة: «أنا تقريباً اعتذرت عن المسرح بسبب التخبطات الإدارية، فقد ظللنا نجري بروفات على مدى عام كامل، وكنت مبتهجة للعودة للمسرح، وذهبت للبروفات في أيام حر وبرد بجانب (كورونا)، طوال هذه السنة كنا نعمل دون مقابل لأن اللوائح تنص على عدم الحصول على أجور إلا بعد بدء العرض بـ15 يوماً، وبعيداً عن الأجور فإننا نعمل بالمسرح حباً فيه، لكن الروح الحلوة التي عدت بها بدأت تتراجع شيئاً فشيئاً حتى تلاشت، فكيف أوصل إحساس الحب للجمهور وأنا نفسي فقدته بمرور الوقت وطوله.«
وبسؤالها عن إمكانية إعادة تقديم عروضها المسرحية المهمة مع كبار نجوم المسرح، قالت: «هذا طموح كبير غير موجود... العروض الجديدة للأسف تتعثر، فما بالك بإعادة عروض سابقة، المشكلة في الإدارة».
وتولت سميحة أيوب رئاسة المسرح القومي العريق مرتين بين عامي 1975 و1989. واتسمت إدارتها بالجدية، ونجحت في تقديم عروض مهمة سافرت بها إلى باريس، وعن تلك الفترة تقول: «كنا نعاني من البيروقراطية أيضاً، لكن المهم أن نتغلب عليها ونضئ أنوار المسرح، الإدارة تحتاج قوة، فنحن نتعامل مع كبار المثقفين، ومع عمال، ولا بد أن نحقق العدالة حتى لا نسمع من يقول (لماذا فلان)، هذا سؤال لم أسمعه أبداً خلال رئاستي للمسرح القومي، لأنني طبقت مبدأ العدالة والثواب والعقاب، وكان يهمني أن تظل أنوار المسرح مضاءة، وخرجت بعروض مصرية ومنها مسرحية (إيزيس) لتوفيق الحكيم، التي عرضناها في باريس لمدة 15 يوماً، فالإدارة تتطلب حب للمسرح ورغبة في ازدهاره.

إجازة مفتوحة
ويبدو أن نجاح مسلسل «الطاووس»، الذي شاركت به الفنانة الكبيرة خلال شهر رمضان الماضي فتح شهيتها للدراما التلفزيونية، حيث تصور حالياً مسلسل «إجازة مفتوحة» أمام شريف منير ولقاء الخميسي، وتجسد من خلاله شخصية الأم التي تلعب دوراً إيجابياً في حياة أولادها وأحفادها وحسبما تقول: «أعجبني المسلسل لأنه عمل اجتماعي يناقش أحوال الأسرة، والسلوكيات السلبية والإيجابية، وكيف نربي الأحفاد على قيمنا، وهو عمل كوميدي خفيف، كنا قد بدأنا تصويره في شهر رمضان وعدنا لاستكماله مع قرب عرضه.«
وعن شخصية «ماتيلدا» التي جسدتها في «الطاووس» تقول: «(ماتيلدا) شخصية ترمز للعطاء، وتعد نموذجاً للوحدة الوطنية، وقد أعجبني السيناريو جداً، والمخرج رؤوف عبد العزيز شخصية رائعة وأنا أحب التعامل مع الشباب الجديد لأن لديهم رؤى طازجة، كما سعدت بفريق العمل كله، وفي مقدمتهم جمال سليمان، وهو فنان رائع يملك أدواته، وأتابع أعماله بشغف كبير، وأسعدني نجاح المسلسل، فهو يقدم رسالة مهمة للمشاهد بعيداً عن أي ابتذال، وبعيداً عن المتاجرة بالواقع، وطرح مشاهد العنف والبلطجة تحت دعوى طرح الواقع، علينا أن نجمل الواقع، وعلى مدى عمر السينما المصرية، وهي تقدم الواقع دون إسراف في مشاهد عنيفة صار الناس يتعلمونها من الدراما والأفلام الحالية، بينما المفترض أن يرتقي الفن بالناس لا أن يهبط بهم». حسب وصفها.

مسؤولية الممثل
وتؤمن سميحة أيوب بمسؤولية الممثل تجاه ما يقدمه من أدوار، إذ ترى أنه يجب أن يقدم للجمهور ما يساهم في بناء عقله ووجدانه بشكل سليم، مشيرة إلى رفضها لأعمال فنية لا تحقق ما تنشده: «أختار من بين الأعمال التي تعرض علي، أعمالاً ليس بها مشاهد عنف وقتل، أنا ضد هذه الأعمال التي تدخل البيوت، وهناك أطفال يتأثرون بها فنخلق جيلاً عنيفاً، لكن هناك من يقبلونها تحت ضغط الحاجة التي تجعل الفنان يتنازل حين يكون لديه التزامات أسرية ملحة ماذا سيفعل، الحقيقة أن الناس تعتقد أن الفنانين يحصلون على الملايين، هؤلاء لا يتجاوزن أصابع اليدين، بينما الأغلبية تحصل على الملاليم، وهناك من يجلسون في بيوتهم بلا عمل، ليس ممثلين فقط، بل مخرجين وكتاب وفنيين وعمال إضاءة وصوت وجيوش من العمال لا يعملون ويعيشون مآسي، هذا يعكس غياب العدالة في توزيع الأدوار، وتعامل لا يليق في أجور كبار الفنانين، فهي متدنية جداً بالنسبة لتاريخهم وعطائهم، وتتم معاملتهم كخيل الحكومة، والحل في رأيي يكمن في المنتج المثقف الذي يمنح لكل فنان قيمته، بالنسبة لي فإن مركزي والحمد لله محفوظ جداً، الفنان ليس تاريخاً فقط، بل شخصية ومواقف تجبر الآخرين على احترامه، شخصياً لم يعد يستهويني شيء، هناك أشياء جميلة وتطور يحدث في بلادنا، لكن الناس دائماً تنتقد، هذا يشعرني بالمرارة فلا بد أن نحمد الله على الصحة، وهي أغلى ما نملك، لقد سيطرت المادة وشغلت الناس عن كل شيء، لكن في الفن يستهويني العمل الذي يؤدي مهمة إنسانية، يستفيد منها المشاهد، لأن الفن رسالة تنويرية عظيمة. لا تنشغل الفنانة الكبيرة بمساحة وجودها في الأعمال التي تشارك بها، بل يعنيها قدر تأثيرها في العمل بحسب تأكيدها: «ما يحمله العمل الفني للناس من قيمة وما يحمله دوري من استفادة للناس أهم عندي من عدد المشاهد، قد يكون هناك دور أكبر، لكنه بلا تأثير ومشهد واحد قد يكون تأثيره أقوى».
وانتهت النجمة الكبيرة من تصوير دورها في فيلم «ليلة العيد» مع الفنانة يسرا وغادة عادل وإخراج سامح عبد العزيز وتقول عنه: «الفيلم يطرح أزمات عدة نساء في ليلة العيد، ويقف ضد اضطهاد المرأة، ويسعدني العمل مع المخرج سامح عبد العزيز لأنه من أعادني للسينما بعد 18 عاماً، حيث توقفت عن المشاركة في أفلام لضعف مستواها وأعادني سامح بفيلم (تيتة رهيبة) مع محمد هنيدي، والحقيقة أن السينما في السنوات الأخيرة أفضل بكثير من أيامنا، حيث كانت أغلب الأفكار ساذجة جداً، الآن يوجد فنانون ومخرجون شباب لديهم أفكار جيدة وجديدة، ورؤى طازجة في السينما والدراما، كذلك لدينا ممثلون وممثلات على مستوى رائع في الأداء من بينهم حنان مطاوع وسهر الصايغ، لكن هناك من يملكون الموهبة لكن لا يهتمون بتطويرها، فلا بد أن يكون للمثل شخصية تميزه شكلاً ومضموناً».
أيام سعد الدين وهبة
وتعتز الفنانة الكبيرة بثلاثة تكريمات حظيت بها من ثلاثة رؤساء سابقين هم عبد الناصر وحافظ الأسد وجيسكار ديستان، ومنذ عامين حصلت على جائزة النيل للفنون، وهي أكبر جوائز الدولة وتفخر بذلك قائلة: «الرئيس السوري حافظ الأسد هو من منحني أكثر لقب أحبه حين قال لي أثناء تكريمه لي (تقدمي يا سيدة المسرح العربي، بعدها وجدت الناس في سوريا والصحافة والتلفزيون يرددون هذا اللقب». وبينما تزوجت سميحة أيوب من الفنانين الكبيرين محسن سرحان، ومحمود مرسي، فإنها قضت أكثر من ثلاثين عاماً مع الكاتب سعد الدين وهبة الذي تقول عنه: «هو رجل لن يجود الزمان بمثله، إنسان رائع، مبتكر وطموح ومثقف ووطني وحنون جداً، علاقتنا كفنانة وكاتب تنتهي عند الأسانسير لكننا في البيت زوج وزوجة، كنا أصدقاء أكثر من أزواج، لم نكن نخفي شيئاً عن بعض، أحبني كممثلة قبل أن يحبني كإنسانة، وفي مرضه الأخير كان يزورنا د.
فوزي فهمي ونعم الباز وحسن شاه، فقال لهم لو أنجاني الله سأصدر كتاباً عن سميحة عنوانه (المرأة التي تحملتني)».


مقالات ذات صلة

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
يوميات الشرق برنامج «حركة ونغم» يهدف لتمكين الموهوبين في مجال الرقص المسرحي (هيئة المسرح والفنون الأدائية)

«حركة ونغم» يعود بالتعاون مع «كركلا» لتطوير الرقص المسرحي بجدة

أطلقت هيئة المسرح والفنون الأدائية برنامج «حركة ونغم» بنسخته الثانية بالتعاون مع معهد «كركلا» الشهير في المسرح الغنائي الراقص في مدينة جدة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق أشرف عبد الباقي خلال عرض مسرحيته «البنك سرقوه» ضمن مهرجان العلمين (فيسبوك)

«سوكسيه»... مشروع مسرحي مصري في حضرة نجيب الريحاني

يستهد المشروع دعم الفرق المستقلّة والمواهب الشابة من خلال إعادة تقديم عروضهم التي حقّقت نجاحاً في السابق، ليُشاهدها قطاع أكبر من الجمهور على مسرح نجيب الريحاني.

انتصار دردير (القاهرة )
الاقتصاد أمسية اقتصاد المسرح شهدت مشاركة واسعة لمهتمين بقطاع المسرح في السعودية (الشرق الأوسط)

الأنشطة الثقافية والترفيهية بالسعودية تسهم بنسبة 5 % من ناتجها غير النفطي

تشير التقديرات إلى أن الأنشطة الثقافية والفنية، بما فيها المسرح والفنون الأدائية، تسهم بنسبة تتراوح بين 3 و5 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي بالسعودية.

أسماء الغابري (جدة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)