أدب الأطفال في قبضة الإنترنت

كتاب ومختصون وناشرون يدعون إلى تطويره لمواجهة منافسة التكنولوجيا

أدب الأطفال في قبضة الإنترنت
TT

أدب الأطفال في قبضة الإنترنت

أدب الأطفال في قبضة الإنترنت

حسب الآراء الواردة في هذا التحقيق، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي بحكم التطور التكنولوجي الهائل أكثر جذباً للأطفال من عالم الكتاب، وبذلك تراجعت عادة القراءة وانطفأ بريق القصص والحكي الشفاهي على ألسنة الجدات والأمهات، ما يشكّل خطورة على أفق الطفل الخيالي ونموه العقلي وتفاعله مع محيطة الإنساني... ما السبيل للخروج من هذه الأزمة؟
في هذا التحقيق آراء عدد من كتاب أدب الطفل ورسامي مجلات الأطفال، ودور النشر المتخصصة.

صفاء عبد المنعم، كاتبة أطفال وروائية: عودة الحكي القصصي
أولى المشكلات التي تواجه الكتابة للطفل وتساهم فيها الأسر والهيئات الثقافية المختلفة، تنحصر في الكتاب نفسه، فلا بد أولاً من تحديد الفئة العمرية على الغلاف، لأن كل مرحلة لها خصائص وأسلوب وطريقة وحكايات تناسبها.
والمشكلة الثانية مصدرها دور النشر، فكل كتاب يقدم لها هو من وجهة نظر كاتبه مهم للطفل، وهو وحده الذي يقبل هذا النص أو يرفضه، حسبما يتضمن من معلومات أو طريقة حكي مبهرة، لذا يجب عدم فرض الوصاية على الأطفال. طالما لا يوجد في الكتب تطرف، والمشكلة الثالثة مصدرها المؤسسات الثقافية التي تغلق أبوابها في وجه الأطفال وتمنعهم من القراءة.
أما عن الوسائل التي يمكن من خلالها تطوير أدب الأطفال، فتبدأ بعودة حكي القصص في المرحلة الابتدائية، فقد كانت معظم المناهج قديماً تعتمد على حكايات كليلة ودمنة، ومعظم الأجيال السابقة تعلمت بهذه الطريقة، وقد أصبح الطفل الآن يمتلك أداة مهمة، وهي التكنولوجيا ويمكن من خلالها نقل المعرفة إليه، ويمكن عمل كتب صوتية أو مصورة وأفلام قصيرة ملونة بأصوات الفنانين، ويمكن للكاتب نفسه أن يقرأ قصته وهو ما يعلّم الطفل الصغير قيمة أن يستمع لغيره حين يتكلم.

أحمد عبد العليم، باحث في المركز القومي لثقافة الطفل: دائرة ثقافية عالمية
أدب الأطفال -كمجال للبحث والتدريس- يشمل كل الأجناس الأدبية، والصيغ، والوسائط، وكل فترات الكتابة، وأنواعها، والحركات الأدبية من أي بقعة من العالم، وما يرتبط بذلك من المطبوعات المؤقتة والسلع أيضاً. وهو يشير إلى الأعمال التي وُجهت تحديداً على صغار السن، والأعمال التي باتت تُعد أدباً للأطفال من خلال تخصيصها لصغار القراء، والأعمال التي كان الأطفال يقرأونها فيما مضى، واقتصرت قراءتها الآن على دارسي الأدب.
وهنا من المهم أن نؤكد أنه لا يوجد نتاج أدبي واحد مترابط ومحدد يشكّل أدب الأطفال، ولكن يوجد عديد من أعمال أدب الأطفال التي تم إنتاجها في فترات مختلفة، وبطرق مختلفة، ولأغراض مختلفة، وباستخدام صيغ ووسائط مختلفة.
العولمة وما يصاحبها من وسائل الاتصال، والانضغاط في الزمان والمكان، يُخرج الفرد من دائرة الأسرة، إلى دائرة ثقافية عالمية، تسهم في تشكيل وعيه وبناء شخصيته، وهنا تتجلى قضية التنشئة والتي تضع الفرد أمام مؤثرات عديدة قد يجد نفسه مشتتاً أمامها إذا لم يضع لنفسه آليات تَكَيُّف تمكّنه من أن يحقق قدراً من التوازن بين القوى والمؤثرات المتناقضة، ويكون قادراً على أن يتقبل الثقافات الأخرى، مع المحافظة على هويته الشخصية والثقافية، وهو أمر يجبر كاتب الأطفال على التعامل مع قضية الإبداع بطريقة أكثر جدية، وأكتر تطوراً، بحيث يقدم إبداعاً قادراً على التعامل مع كل هذه المتغيرات في إطار عام يمكنه المساهمة بقدر في تنشئة الطفل وبناء شخصيته.
ومن هنا ينبغي أن يسهم الأدب في تنمية الأطفال من خلال جوانب متعددة، منها الجانب العقلي، والخيالي، والإدراكي، والوجداني... إلخ، ويلعب الأدب دوراً مهماً، من خلال سلوكيات الشخصيات الذين يُعجب بهم الطفل ويقدرهم، فيقلدهم ويتبنى ممارساتهم دون تردد، وعبر عملية اكتشاف الذات، ينتقل الطفل إلى إدراك الموجودات من حوله، وهي عملية مهمة، ويتم بناؤها اعتماداً على تعميق مدركاته وخلق المعاني التي يختارها بفاعلية ونشاط.

أحمد زحام، كاتب أطفال:
انغلاق منافذ النشر
يواجه أدب الطفل تحديات كثيرة منها مشكلة التواصل بين الكاتب والطفل بسبب قلة المعروض من الكتب والمجلات، فمجلات الأطفال محدودة، وتخدم عدداً محدوداً من الكتاب، كما تمتنع دور نشر عامة وخاصة عن استقبال كتابات جديدة، مما يؤدي إلى إغلاق منافذ النشر، ففي السنوات الأخيرة على سبيل المثال أغلقت دار الهلال سلسلتي «روايات الهلال للأولاد والبنات التاريخية»، و«كتب الهلال للأولاد والبنات»، كما تحول كتاب «قطر الندى» من إصدار نصف شهري إلى إصدار شهري، وهناك كثير من الكتب لا يخص الأطفال إلا في الشكل، أما المقدَّم من رواية وقصة مصورة فيظهر دائماً دون المستوى.
ويواجه أدب الطفل مشكلة عدم تطويره بما يواكب التغير العقلي لطفل اليوم الذي يمتلك وعياً كبيراً نتيجة المخترعات الحديثة التي يتعامل معها يومياً، كما أن دور النشر الخاصة أصبحت لا تتعامل إلا مع أسماء بعينها، وتفضل الحاصلين على جوائز بوصفهم أوراقاً مضمونة.
أما عن التطور التكنولوجي وسهولة تعامل الطفل معه، فقد قلل من اهتمام الأسرة بالكتاب، وتراجعت كتب الطفل الورقية أمام منصات الكتب على الإنترنت التي جذبت الأطفال إليها، وجعلت الحكايات القديمة خارج اهتمامه، لذا يجب أن يهتم كتاب أدب الطفل بتلك النقلة الموضوعية التي تشير إلى أننا في مرحلة انتقالية ما بين المطبوع والإلكتروني.

هشام علوان، كاتب أطفال وإعلامي: البحث عن آفاق جديدة
الطفل كائن ذكي، يكتسب خبراته بالملاحظة والمراقبة والتجربة، فتجذبه الكتب في سن مبكرة بحكايات بسيطة ورسومات جذابة، حتى يصبح قادراً على القراءة، وتتكون ذائقته في الاختيار، فينتقي ما يحبه من كتب تقدم له معلومات لزيادة وعيه المعرفي، تبتعد عن المباشرة والتقريرية، وبلغة سهلة، تثري قاموسه، وتضيف لوعيه الجمالي، وتنمي خياله.
أرى أن كل مبدع لديه قناعة بأفكاره التي يريد إيصالها للطفل، ولا يوجد كتالوج محدد للأمر، لكنْ هناك أطر عامة، مثل المرحلة العمرية الموجه إليها النص، حيث تختلف الأفكار واللغة وفقاً لذلك، وهناك ضرورة للانتباه إلى الألفاظ التي تحمل دلالات سلبية تحض على العنف والكراهية، وتخالف قيم المجتمع وعاداته.
ويحاول أدب الطفل حالياً البحث عن آفاق جديدة، يقاوم من خلالها منافسين أشداء، ظهروا مع تجليات الرقمنة ومواقع التواصل الاجتماعي، فالتطبيقات المنتشرة مؤخراً وما بها من مشهيات تجتذب الطفل، وتشده بعيداً عن عالم القراءة.
ويمكن لأدب الطفل أن يقدم نفسه بشكل موضوعي مقنع للطفل العربي، إذا ابتعد عن التكرار والكتابات التقليدية التي تنفر الطفل ولا تناسب مُدركاته، والبحث عن طرق وموضوعات مستحدثة متنوعة تشبع احتياجات الطفل في عصر المعلوماتية، وهنا تقع مسؤولية كبيرة على دور النشر.

أيمن شرف، كاتب ومترجم ومدير دار نشر «الترجمان»: الاستفادة من التطور العلمي
إذا ما قارنّا مثلاً محتوى أدب الطفل المكتوب بالعربية بنظيره المكتوب بالألمانية أو النرويجية أو السويدية سنجد أن الأدب المكتوب بتلك اللغات يستفيد استفادة كبيرة من التطور العلمي في معرفة نمط النمو العقلي للطفل ومراحله المتتابعة، ومن يكتبون للطفل في مراحله العمرية المختلفة يدرسون –في الغالب - أو يطّلعون على دراسات في هذا الشأن، بالإضافة إلى أن دور النشر توفر متخصصين في الصياغة أو محررين لمراجعة النصوص سواء كانت خيالية أو غير خيالية، وهناك بالطبع كتاب موهوبون يعتمدون في كتاباتهم على الحدس والموهبة الأدبية، لكن النسبة الغالبة تستند إلى المعرفة المتوفرة عن نمو الطفل في مراحله السنية المختلفة، وما يتطلبه ذلك من مواصفات في الكتاب، سواء كان مصوراً أو نصياً... وإجمالاً ليست هذه هي الحال في محتوى أدب الطفل المكتوب بالعربية.
أما عن جودة الكتاب وتكلفته، فسنجد أيضاً أن التكلفة العالية لكتاب الأطفال –المصور على وجه الخصوص- تفرض خفض الجودة، بما يقلل من نسبة قراءته، ولا يحظى بالكتاب عالي الجودة والتكلفة إلا أطفال الأسرة الميسورة، وهو ما يحدّ من إقدام كثير من الناشرين على إنتاج كتب للأطفال، وفي ظل تراجع دور الدولة التنموي لا تتوفر فرص إنتاج كتب للأطفال يمكنها أن تنمّي وعيهم وترقى بهم.
جانب ثالث –أحدث نسبياً- في مشكلات أدب الطفل، وهو توفر وسائط رقمية حديثة تنقل للطفل محتوى ثقافياً أكثر إثارةً وتشويقاً يعتمد على الصورة والصوت، وعلى محتوى لا يلبي بالضرورة احتياجات نموه النفسي والعقلي، لكنه ينجح في جذب اهتمامه وأسره في ألعاب إلكترونية تسيطر على انتباهه دون أن تعلّمه ما ينبغي أن يتعلمه من قيم أو تنمّي قدراته البدنية والذهنية، بل إنها ربما تعوق هذا النمو وتعطل قدراته وتفاعله مع محيطه الإنساني.

أسامة علي، رسام وكاتب أطفال: تأثيرات التكنولوجيا الضارة
اهتمّ العالم بالأدب الموجّه إلى الطفل منذ القرن السابع عشر تقريباً، لإدراكهم أن تشكيل عقل ووجدان الطفل لا يكون إلا باقتحام عالمه وتنمية خياله، ووصلت أهمية أدب الأطفال وتطورها إلى درجة أنه تم تحويل بعض روايات الأطفال من روايات وقصص مكتوبة إلى رسوم متحركة لنشرها بطريقة أكبر وأسرع جنباً إلى جنب مع الروايات المكتوبة، وتم تحويل بعض الروايات ذات المبيعات العالية إلى أفلام سينمائية، واستمر أدب الطفل في نجاحه وانتشاره حتى ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي، وهنا بدا اهتمام الأطفال بالقراءة يقل تدريجياً مع زيادة اهتمامه بوسائل وأدوات التكنولوجيا.
أما عن اهتمام الكُتاب والمبدعين بهذا المجال فبدأ يخفت تدريجياً مع سهولة الاستعاضة بالقصص المترجمة والمُعرّبة عوضاً عن روايات الأطفال ذات الطابع الشرقي العربي الأصيل، والانبهار بكل ما هو أجنبي.
وهناك مشكلة مهمة متعلقة بالنشر والتوزيع بعد أن أصبحت تكلفة الطباعة والنشر كبيرة، بالإضافة لاعتقاد البعض بعدم أهمية الكتابة للأطفال، مما جعل مجال الكتابة للأطفال طارداً للكُتاب وغير مشجع، ولحل هذه المشكلات يجب أن يدرك الآباء أن التكنولوجيا الحديثة لها جوانب عديدة سيئة في التأثير على الأطفال، فهي تقتل الخيال والإبداع، كما أن الجهات الحكومية المسؤولة لها دور في طرح مبادرات تشجيعية للأطفال على القراءة، إيماناً بدور الثقافة في تشكيلهم عقلياً ووجدانياً.


مقالات ذات صلة

بدء إصلاح كابل بيانات متضرر في بحر البلطيق

أوروبا كابل الاتصالات البحري «سي ليون 1» أثناء وضعه في قاع بحر البلطيق عام 2015 (أ.ف.ب)

بدء إصلاح كابل بيانات متضرر في بحر البلطيق

 بدأ إصلاح كابل اتصالات بحري متضرر بين هلسنكي وميناء روستوك الألماني في بحر البلطيق، الاثنين.  

«الشرق الأوسط» (كوبنهاغن)
المشرق العربي أطفال انفصلوا عن شقيقهم بعد فراره من شمال غزة ينظرون إلى صورته على هاتف جوال (رويترز)

انقطاع كامل للإنترنت في شمال غزة

أعلنت شركة الاتصالات الفلسطينية (بالتل)، اليوم (السبت)، عن انقطاع كامل لخدمات الإنترنت في محافظة شمال قطاع غزة، بسبب «عدوان الاحتلال المتواصل».

«الشرق الأوسط» (غزة)
يوميات الشرق حبُّ براد بيت سهَّل الوقوع في الفخ (رويترز)

«براد بيت زائف» يحتال بـ325 ألف يورو على امرأتين «مكتئبتين»

أوقفت الشرطة الإسبانية 5 أشخاص لاستحصالهم على 325 ألف يورو من امرأتين «ضعيفتين ومكتئبتين»... إليكم التفاصيل.

«الشرق الأوسط» (مدريد)
أوروبا سانيا أميتي المسؤولة في حزب الخضر الليبرالي (أ.ب)

مسؤولة محلية سويسرية تعتذر بعد إطلاق النار على ملصق ديني

قدمت عضوة في مجلس مدينة سويسرية اعتذارها، وطلبت الحماية من الشرطة بعد أن أطلقت النار على ملصق يُظهِر لوحة تعود إلى القرن الرابع عشر لمريم العذراء والسيد المسيح.

«الشرق الأوسط» (زيوريخ)
شؤون إقليمية كنعاني خلال مؤتمر صحافي في طهران (الخارجية الإيرانية)

إيران ترد على «مزاعم» اختراقها الانتخابات الأميركية

رفضت طهران ما وصفتها بـ«المزاعم المتكررة» بشأن التدخل في الانتخابات الأميركية، في حين دعت واشنطن شركات تكنولوجيا مساعدة الإيرانيين في التهرب من رقابة الإنترنت.


أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.