«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية

موسكو تدرج «التحديات الرقمية» في استراتيجية الأمن القومي

«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية
TT

«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية

«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية

لم يكن مستغرباً أن يظهر في النسخة المعدلة لاستراتيجية الأمن القومي الروسي التي أقرّها الرئيس فلاديمير بوتين أخيراً، بند خاص بالتحديات الجديدة في عالم أمن المعلومات. وهذا أمر لم تكن تطرقت إليه النسخ السابقة من استراتيجية الأمن الروسي.
المفارقة هنا أن موسكو، التي وُضعت في قفص الاتهام على مدى السنوات الماضية للاشتباه بوقوفها وراء عمليات تدخل وتخريب إلكتروني استهدفت التأثير على مزاج الناخبين والرأي العام في الولايات المتحدة وغالبية الدول الغربية الأخرى، هي التي تبادر حالياً إلى دق ناقوس الخطر، وتطالب بالحوار.
موسكو تدعو اليوم إلى معاهدة دولية مُلزِمة تنظم آليات الرقابة والمحافظة على أمن المعلومات. وبدا واضحاً من جولات الحوار الروسي الأميركي الأخيرة أن «معركة» الأمن السيبراني صارت تشغل مكانة بارزة، إن لم تكن تحظى بأولوية مطلقة على جدول أعمال النقاشات الجارية بين موسكو وواشنطن، وموسكو وعواصم غربية أخرى.
كشفت جولات الحوار الروسي الأميركي التي جرت خلال الأسابيع الأخيرة في مدينة جنيف السويسرية، أن الاهتمام الرئيس لم ينصبّ على ملفات الأزمات الإقليمية الساخنة، رغم أهمية وحضور هذه الملفات على طاولة البحث، ولا على ملفات التسلح والمعاهدات التي عملت موسكو وواشنطن بدأب وبشكل متبادل على تقويضها تدريجياً خلال السنوات الأخيرة. بل إن الملف الأساسي المطروح على «أجندة» النقاشات، كما برز من تصريحات الجانبين، يتعلق الآن بأمن المعلومات الذي بات يتخذ في الآونة الأخيرة بشكل متزايد صفة العنصر الرئيس للاستقرار الاستراتيجي.
جولات الحوار هذه باتت ممكنة بعد فترة طويلة من انقطاع قنوات الاتصال بين الطرفين، والمحرّك الأساسي لها كانت القمة الروسية الأميركية التي انعقدت منتصف الشهر الماضي في جنيف. وبات واضحاً بعدها أن لدى الجانبين حرصاً واضحا على توجيه الأمور نحو الاستقرار والقدرة على التنبؤ في واحدة من أبرز التحديات المعاصرة أمام العالم.
وبعد الجولة الأخيرة التي انعقدت قبل أيام، كشف سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي جانباً من تفاصيل الحوار حول الاستقرار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في جنيف. إذ قال ريابكوف إن المفاوضات ركّزت على الأمن السيبراني، وفي إشارة واضحة إلى صعوبة المباحثات، تابع الدبلوماسي الروسي أنه «من السابق لأوانه الحديث عن أي اتفاقات ملزمة في هذا المجال».
- قضايا أمن المعلومات
الواضح هنا تأكيد الجانب الروسي أن لدى موسكو إدراكاً بأن «قضايا أمن المعلومات، ابتداء من استخدام البرمجيات الخبيثة، ووصولاً إلى استهداف المواقع الحيوية للبنية التحتية، تتطلب مناقشة ثنائية معمقة ومحترفة، وهذا الحوار قد بدأ». ووفقاً للدبلوماسيين الروس المشاركين في الحوار، فإن الدعوة تنصب أساساً على ضرورة أن تكون المفاوضات حول الأمن السيبراني منتظمة، وأن يجري توسيع جدول الأعمال حول هذا الملف على طاولة النقاش، و«ليس الاكتفاء بمناقشة الهجمات المنفردة».
وكشفت العبارة الأخيرة جانباً مهماً من الخلاف الروسي الأميركي حول آليات مناقشة هذه المشكلة، إذ ترى موسكو أن واشنطن وحليفاتها الغربيات تدفع باتجاه أن ينحصر النقاش حول «الهجمات التي تعرّضت لها مواقع في الغرب من جانب قراصنة روس»، في حين تدعو موسكو إلى مناقشة أسس للتعاون المستقبلي في هذه القضية، عبر وضع آليات دولية ملزمة على شكل معاهدة خاصة بالأمن السيبراني. أيضاً ترى موسكو أن المدخل الأميركي للحوار، ليس فقط مجتزأ، بل أيضاً «يركز على قضية الهجمات السيبرانية بغرض الابتزاز السياسي، ولتوجيه الأنظار فقط إلى ملاحقة من يقفون وراء تلك الهجمات»، كما قال ريابكوف أخيراً.
الفارق بين المطلبين الروسي والأميركي في هذا الملف واضح. فروسيا لا تريد الخوض في الاتهامات المباشرة التي وُجِّهت ضدها، ولا تريد فتح تحقيق يؤدي إلى الكشف عن أشخاص محددين متورّطين - وفقاً للادعاءات الأميركية والغربية - بمهاجمة مواقع غربية، بل تريد تحويل النقاش نحو تأسيس القاعدة القانونية... وفي الوقت ذاته، تسعى إلى الرد على اتهام باتهام. والخلاصة هنا، كما يقول دبلوماسيون روس: «نريد من الأميركيين أن يفهموا أننا بحاجة إلى ردودهم على طلباتنا بشأن مختلف الحالات، بما في ذلك محاولات التأثير الخبيث على بنيتنا التحتية وعلى شخصياتنا الاعتبارية من مناطق الاختصاص القضائي الأميركي». وهذا الكلام يوضح أن جولات الحوار لم تحقق حتى الآن كثيراً في هذا المجال، إذ ما زالت موسكو تشكو من أن «الجانب الأميركي ما زال لا يتعامل مع وجهة النظر الروسية بشكل مطلوب».
- مسألة الأمن الاستراتيجي
اللافت أن موسكو ذهبت خطوة أبعد في الحوارات. إذ إنها لا تريد أن ينحصر النقاش على بعض الهجمات الإلكترونية التي استهدفت لجاناً انتخابية أو وسائل إعلام أو مراكز بهدف التأثير على الناخبين، باعتبار أن هذه «هجمات فردية» تسعى إلى لفت الأنظار إلى مخاطر أوسع محدقة بالأمن الاستراتيجي بسبب انعدام آليات لضمان الأمن السيبراني على المستوى الدولي، ومن بينها كما يقول دبلوماسيون روس «محاولات لاستخدام الإنترنت للتأثير على أنظمة التحكّم بالأسلحة، بما فيها الطائرات المسيرة».
أما عندما تعلق الأمر بطلبات محددة لتسليم أشخاص اتهموا بالوقوف وراء هجمات سيبرانية محدّدة - وهو مطلب مهم بالنسبة إلى الداخل الأميركي - فإن موسكو تصرّ على موقفها بأن «روسيا لا تسلّم مواطنيها، وعلى الولايات المتحدة أن تعمل مع روسيا بناء على اتفاقية المساعدة القانونية الموقعة عام 1999. بدلاً من إطلاق اتهامات وإثارة الضجة الإعلامية». لكن منطق الحوار بين الطرفين رغم اختلاف المداخل، لم يمنع من طرح موضوع تشكيل «فرق عمل خاصة» مشتركة لمواصلة النقاشات حول ملفات الأمن الاستراتيجي، وعلى رأسها الأمن السيبراني. ومع أن هذا التفاهم لم يرقَ بعد إلى مستوى الاتفاق على وضع آليات تنفيذية ضرورية لتنفيذ هذه المهمة، فإنه يشكل تطوراً مهماً يمكن البناء عليه.
- «قواعد لعبة» جديدة
هنا تجدر الإشارة، إلى أن واشنطن تجنّبت الكشف عن تفاصيل الحوارات الجارية، ورفض البيت الأبيض الكشف عن أجندة الحوار حول الأمن السيبراني تحديداً، وكذلك قائمة المشاركين في الحوار. وكما قالت الناطقة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، فإن «اللقاءات والمناقشات على مستوى الخبراء مع الجانب الروسي مستمرة. والأهم هو الحفاظ على المجال لمثل هذه المناقشات، ولتحقيق التقدم كما نأمل»... قبل أن تضيف: «لا نعتزم الكشف عن أجندة تلك اللقاءات أو قائمة المشاركين فيها».
وكشف هذا الموقف من الجانب الأميركي درجة صعوبة الحوارات، ومستوى الخلافات المتواصلة، وهو أمر سعت موسكو إلى لفت الأنظار إليه علناً، عبر فاسيلي نيبينزيا، مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، الذي اتهم «بعض الدول بمحاولة فرض قواعد لعبة في المجال المعلوماتي، وتبريرها بأنها ضربات سيبرانية استباقية ضد دول أخرى». وقال نيبينزيا أثناء اجتماع عقده مجلس الأمن الدولي أخيراً، لمناقشة موضوع الأمن السيبراني، إن ثمة أطرافاً تحاول أن تفرض على المجلس «قراءات أحادية الجانب» لاتفاقات سبق التوصل إليها في المنصات المعنية بالأمن المعلوماتي الدولي والتابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة. ثم أردف أن الكلام يدور عن توجه بعض الدول إلى «تبرير ممارسة ضغوط أحادية الجانب على دول أخرى، وفرض عقوبات عليها... وكذلك استخدام القوة المحتمل ضدها، وذلك عبر التلاعب بالاتفاقات السابقة، بما في ذلك حول الجوانب القانونية الدولية من استخدام تقنيات الإعلام والاتصالات».
وأضاف نيبينزيا أن ما يثير القلق البالغ لدى روسيا هو «تطلع بعض الدول المتقدمة من الناحية التكنولوجية إلى عسكرة المجال المعلوماتي عبر الترويج لمفهوم توجيه ضربات سيبرانية استباقية، بما في ذلك إلى البنى التحتية الحيوية». وأشار إلى أن «هذه النظريات المتسمة بروح المواجهة تناقض التمسك المعلن للدول الأعضاء في مجلس الأمن بمنع حدوث نزاعات في مجال استخدام تقنيات الإعلام والاتصالات»... وأن موسكو ترى فيها سعي الدول المعنية لفرض «قواعد اللعبة» الخاصة بها في المجال المعلوماتي، مؤكداً أن موسكو ستتصدى لمحاولات استخدام مجلس الأمن في مراجعة ما جرى الاتفاق عليه في منصات الجمعية العامة.
- استراتيجية الأمن القومي أولوية للأمن السيبراني
وخلافاً للنسخ السابقة من استراتيجية الأمن القومي الروسي، أعارت النسخة المحدثة منها التي وقّعها الرئيس فلاديمير بوتين أخيراً، اهتماماً خاصاً بملف الأمن السيبراني. وبهذا المعنى، فإن أمن المعلومات بات يشغل أولوية على جدول أعمال روسيا، ليس فقط على المستوى الخارجي، بل على المستوى الداخلي أيضاً.
وعموماً، يمكن بالاستناد إلى نص الوثيقة، اختصار التوجهات الرئيسة، أو المهام المحددة، التي برزت في الاستراتيجية الجديدة بأنها تشمل التحذير من أن التطور السريع لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات يفاقم من احتمال ظهور مخاطر على أمن المواطنين والمجتمع والدولة. وأن توسيع نطاق استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصالات للتدخل في شؤون دول وتقويض سيادتها ووحدة أراضيها بات يشكل خطراً على الأمن والسلام الدوليين. وهنا توقفت الاستراتيجية عند «تزايد عدد الهجمات على الموارد المعلوماتية الروسية، ومعظمها ينفّذ من خارج البلاد»، لتلفت الأنظار إلى أن «المبادرات الروسية الرامية إلى ضمان الأمن المعلوماتي الدولي تواجه معارضة من قبل دول أجنبية تسعى إلى الهيمنة في الفضاء المعلوماتي العالمي».
وبطبيعة الحال، يظهر نص الوثيقة معارضة روسيا الكاملة للاتهامات الغربية لموسكو، وفي المقابل، تردّ الرؤية الروسية باتهام أجهزة استخباراتية أجنبية بتكثيف أنشطتها الرامية إلى تنفيذ عمليات في المجال المعلوماتي الخاص بروسيا.
كذلك ترى الوثيقة أن روسيا تواجه «حملات تضليلية وتخريبية» في الإنترنت تستهدف بالدرجة الأولى الشباب، (منها تداول أنباء كاذبة عن خطر تنفيذ هجمات إرهابية ودعوات للانتحار ونشر مواد متطرفة والتحريض على ارتكاب أعمال غير قانونية وترويج تناول المخدرات وغيرها). وكما كان متوقعاً توقفت الوثيقة عند اتهام شركات دولية عملاقة مثل «غوغل»، ادّعت أنها «تسعى إلى ترسيخ احتكارها في الإنترنت، والسيطرة على كل الموارد المعلوماتية من خلال فرض الرقابة غير القانونية وإغلاق موارد معلوماتية بديلة». ورأت أيضاً أن «رواد الإنترنت الروس يواجهون محاولات تهدف إلى فرض رؤية مشوّهة عليهم إزاء الحقائق التاريخية والتطورات في روسيا والعالم لدواعٍ سياسية». وخلُصت إلى التحذير من أن «استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الأجنبية في روسيا يزيد من خطر تعرّض الموارد المعلوماتية في البلاد لمحاولات التأثير عليها من الخارج».
- «الحماية» من الغرب
بهذه «الرزمة» من التحذيرات والاتهامات للغرب، تدفع استراتيجية الأمن القومي الروسي عملياً إلى وضع ملف المواجهة السيبرانية وأمن المعلومات في مقدمة معركتها الحالية مع الغرب، رافعة شعار «حماية روسيا من التأثير الغربي الضار على المجتمع». ولذلك يظهر الهدف الرئيس في «تعزيز سيادة البلاد في المجال المعلوماتي». ويدفع هذا الهدف المعلن، إلى سلسلة من التدابير التي حددتها الوثيقة لحماية روسيا وتعزيز «سيادتها» الرقمية، وهنا يبدو أن منحى رفع جدران من «العزلة الرقمية» يتجسّد أكثر وأكثر في توجهات الاستراتيجية الروسية.
لتوضيح ذلك، يكفي أنه من بين الآليات التي وضعتها الاستراتيجية لتحقيق الهدف...
- إنشاء فضاء آمن لتداول المعلومات الموثوق بها
- تحصين البنى التحتية الخاصة بالمجال المعلوماتي في روسيا
- منع التأثير التخريبي بالوسائل المعلوماتية والتكنولوجية على الموارد المعلوماتية الروسية
- تهيئة الظروف الملائمة لكشف ومنع الجرائم في الإنترنت
- زيادة تحصين القطاع الروسي لشبكة الإنترنت ومنع أي سيطرة أجنبية على أنشطته.
كل هذا، مع أهداف أخرى، تمثلت في تقليص عدد حالات تسرب بيانات سرية وشخصية إلى أدنى حد ممكن، وتعزيز الأمن المعلوماتي الخاص بقوات الجيش الروسي ومنتجي الأسلحة والمعدات العسكرية، وتطوير وسائل وأساليب ضمان الأمن المعلوماتي باستخدام تكنولوجيات حديثة، منها الذكاء الاصطناعي، وإعطاء الأفضلية إلى استخدام التكنولوجيات محلية الصنع في البنى التحتية المعلوماتية في روسيا... وأخيراً، تعزيز التعاون مع الشركاء الأجانب في مجال ضمان الأمن المعلوماتي، بما يخدم خاصة إنشاء نظام دولي جديد خاص بهذا الشأن.
- استعداد مشروط للتعاون
كان لافتاً أن الإشارات التي وجّهتها موسكو حول مدى استعدادها للتعاون مع الغرب في مجال أمن المعلومات، ارتبطت دائماً بشروط واضحة تفرض على كل الأطراف الالتزام بتعهدات مسبقة. وكمثال، مهّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقائه مع نظيره الأميركي جو بايدن في جنيف أواسط الشهر الماضي، بالإشارة إلى أن موسكو مستعدة لتسليم مرتكبي الجرائم السيبرانية إلى واشنطن في حال إبرام الطرفين اتفاقية رسمية تنصّ على التزاماتهما المتبادلة في هذا الصدد.
ولفت الرئيس الروسي إلى أن هذه الالتزامات في الغالبية الساحقة من الاتفاقيات المماثلة متساوية، مضيفاً: «إذا اتفقنا على تسليم المجرمين فإن روسيا بطبيعة الحال ستفعل ذلك، لكن فقط إذا وافق الجانب الآخر - وفي هذه الحالة الولايات المتحدة - على الشروط نفسها، وستسلم المجرمين المطلوبين إلى روسيا». وشدد بوتين على أن مسألة الأمن السيبراني تعد من أهم القضايا اليوم، لأن هجمات سيبرانية قد تؤدي إلى إطفاء منظومات بأكملها، ما يجلب عواقب وخيمة للغاية.
هذا الحديث الروسي، مع المبادرات الروسية المتكرّرة لوضع آلية دولية أو معاهدة ملزمة على صعيد الأمن السيبراني، يتم إقرارها في مجلس الأمن، قوبلت دائماً من جانب الخبراء، بنقاشات موسعة حول آليات تنفيذها عملياً وعلى أرض الواقع.
- الخبيرة لايما جيرمانوفا: في تنظيم تدفق المعلومات مصلحة للمجتمع الدولي كله
> في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قالت الخبيرة لايما جيرمانوفا، مديرة مؤسسة «كريبروم»، وهي شركة أبحاث رائدة في روسيا، إنه إذا ما اعتُمدت المسودة النهائية للاقتراح الذي قدّمته روسيا إلى مجلس الأمن بشأن تبني معاهدة دولية لأمن المعلومات ستصبح هذه أول معاهدة عالمية لمكافحة الجريمة السيبرانية.
وأشارت الخبيرة - التي تشارك مؤسستها في دراسة العمليات الاجتماعية والسياسية القائمة على رصد وتحليل وسائل التواصل الاجتماعي - إلى أنه ليست هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها روسيا مثل هذه المبادرات، لكن إذا كان جوهر السؤال يكمن في البحث عن الحلول التكنولوجية الممكنة، سيكون ضرورياً توضيح أن جميع هذه القرارات أولاً، وقبل كل شيء، يجب أن تنفذ مبدأ السيادة الرقمية. بموجب هذا المبدأ، على الدولة ضمان أمن المعلومات وتنظيم تدفق المعلومات، وهذه ليست مصلحة روسية فقط، بل مصلحة للمجتمع الدولي. وتابعت: «هذا هو التحدي الذي يقف أمام جميع البلدان المشاركة في مجال المعلومات. ولحل هذه المشكلة، هناك حاجة إلى أدوات تكنولوجية لتتبع تدفق المعلومات والتحكم في امتثالها للتشريعات الحالية. إن التبادل اليومي للمعلومات، يحتوي على كمٍ هائل من البيانات الواجب تلقيها بطريقة ما، وفي مكان ما، بشكل منظم وآمن، كي تكون قادرة على تحديد ما ينتهك قوانين الدولة ويهدد أمن المعلومات ويشكل خطراً على المواطنين في تدفق المعلومات».
وحول فرص تقريب وجهات النظر مع الغرب، قالت جيرمانوفا: «لا توجد حدود في فضاء المعلومات. انتشار الإنترنت مرتفع في جميع أنحاء العالم تقريباً. والنشاط الإرهابي المدمر والمتطرف على الإنترنت يهدد جميع البلدان. ولمواجهة هذه التهديدات العالمية بشكل فعال، فإن أنجحها هو التعاون بين الدول وتجميع الجهود والمهارات من مختلف البلدان». وأضافت: «في رأينا، سيكون من المنطقي توحيد الجهود في مكافحة هذه التهديدات والتصدي لها بشكل مشترك. سيكون التفاهم المتبادل بين الدول الاستراتيجية الأنجع، والاستجابة الفضلى للتحدي. وهذا ما تهدف إليه المبادرة الروسية في الأمم المتحدة، وهذا ما تحدث عنه فلاديمير بوتين عندما أشار إلى استعداد روسيا لإبرام التزامات مماثلة مع الدول الأخرى في مكافحة الجرائم الإلكترونية».
في الوقت ذاته، أقرت الخبيرة الروسية أن جهود روسيا لتعزيز «السيادة الرقمية» تواجه اليوم تحدياً قوياً، لأنه «لا توجد حلول قادرة على تنفيذ وصيانة نظام مغلق تماماً غير متصل بالعالم الخارجي. فضاء المعلومات لا حدود له، ومستوى التطور التكنولوجي لا يسمح بعزلة كاملة للبلد بأكمله. لقد أصبح العالم شفافاً للغاية». ومع ذلك، تقول الخبيرة إن «الحاجة إلى شبكة إنترنت وطنية ملحّ بالطبع - وليس فقط في روسيا. هذا الموضوع مطروح على أجندة جميع البلدان، وهو يضعها في حيرة حيال هذه المشكلة». ثم تضيف أن روسيا «تعمل بالطبع في هذا الاتجاه، وفي الآونة الأخيرة نسبياً، جرى تبنّي مجموعة من القوانين التي تنظم الإجراءات في الجزء الروسي من الإنترنت وتجعله أكثر أماناً»، مشيرة إلى أن حكومات الدول الأخرى تتخذ خطوات مماثلة. قبل أن تقول: «هل هذا يعني العزلة؟ بالطبع لا، نحن نتحدث في المقام الأول عن حماية المواطنين ومصالحهم».


مقالات ذات صلة

سيول تتهم بيونغ يانغ بالتشويش على «جي بي إس»

آسيا هيئة الأركان المشتركة في كوريا الجنوبية نصحت السفن والطائرات في منطقة البحر الغربي بالحذر من تشويش إشارة نظام تحديد المواقع (أ.ف.ب)

سيول تتهم بيونغ يانغ بالتشويش على «جي بي إس»

كشف الجيش في كوريا الجنوبية اليوم (السبت) أن كوريا الشمالية قامت بالتشويش على نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس) أمس (الجمعة) واليوم.

«الشرق الأوسط» (سيول)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يقف إلى جانب محاميه تود بلانش في محكمة مانهاتن الجنائية (أ.ب)

تقرير: قراصنة صينيون تنصتوا على هاتف محامي ترمب

أبلغ مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) أحد كبار محامي الرئيس المنتخب دونالد ترمب أن هاتفه الجوال كان تحت مراقبة قراصنة صينيين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ أنباء عن متسللين إلكترونيين تابعين للحكومة الصينية رصدوا تسجيلات لاتصالات هاتفية لشخصيات سياسية أميركية (رويترز)

صحيفة: متسللون صينيون رصدوا تسجيلات صوتية لمستشار في حملة ترمب

ذكرت صحيفة واشنطن بوست، اليوم الأحد، أن متسللين إلكترونيين تابعين للحكومة الصينية رصدوا تسجيلات صوتية لاتصالات هاتفية لشخصيات سياسية أميركية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ صورة تعبيرية تظهر شخصاً جالساً أمام جهاز كمبيوتر وخلفه مزج بين علمي إيران والولايات المتحدة (رويترز)

قراصنة «روبرت» الإيرانيون يبيعون رسائل مسروقة من حملة ترمب

نجحت مجموعة قرصنة إيرانية، متهمة باعتراض رسائل البريد الإلكتروني لحملة المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترمب، أخيراً في نشر المواد التي سرقتها.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ رسم يُظهر العلمين الأميركي والصيني من خلال زجاج مكسور (صورة توضيحية - رويترز)

تقارير: قرصنة صينية لأنظمة تنصت أميركية

أفادت صحيفة أميركية بأن قراصنة إلكترونيين من الصين تمكّنوا من الوصول إلى شبكات مقدمي خدمات النطاق العريض في الولايات المتحدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر