«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية

موسكو تدرج «التحديات الرقمية» في استراتيجية الأمن القومي

«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية
TT

«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية

«معركة» الأمن السيبراني تحدّد مسار الحوارات الروسية الغربية

لم يكن مستغرباً أن يظهر في النسخة المعدلة لاستراتيجية الأمن القومي الروسي التي أقرّها الرئيس فلاديمير بوتين أخيراً، بند خاص بالتحديات الجديدة في عالم أمن المعلومات. وهذا أمر لم تكن تطرقت إليه النسخ السابقة من استراتيجية الأمن الروسي.
المفارقة هنا أن موسكو، التي وُضعت في قفص الاتهام على مدى السنوات الماضية للاشتباه بوقوفها وراء عمليات تدخل وتخريب إلكتروني استهدفت التأثير على مزاج الناخبين والرأي العام في الولايات المتحدة وغالبية الدول الغربية الأخرى، هي التي تبادر حالياً إلى دق ناقوس الخطر، وتطالب بالحوار.
موسكو تدعو اليوم إلى معاهدة دولية مُلزِمة تنظم آليات الرقابة والمحافظة على أمن المعلومات. وبدا واضحاً من جولات الحوار الروسي الأميركي الأخيرة أن «معركة» الأمن السيبراني صارت تشغل مكانة بارزة، إن لم تكن تحظى بأولوية مطلقة على جدول أعمال النقاشات الجارية بين موسكو وواشنطن، وموسكو وعواصم غربية أخرى.
كشفت جولات الحوار الروسي الأميركي التي جرت خلال الأسابيع الأخيرة في مدينة جنيف السويسرية، أن الاهتمام الرئيس لم ينصبّ على ملفات الأزمات الإقليمية الساخنة، رغم أهمية وحضور هذه الملفات على طاولة البحث، ولا على ملفات التسلح والمعاهدات التي عملت موسكو وواشنطن بدأب وبشكل متبادل على تقويضها تدريجياً خلال السنوات الأخيرة. بل إن الملف الأساسي المطروح على «أجندة» النقاشات، كما برز من تصريحات الجانبين، يتعلق الآن بأمن المعلومات الذي بات يتخذ في الآونة الأخيرة بشكل متزايد صفة العنصر الرئيس للاستقرار الاستراتيجي.
جولات الحوار هذه باتت ممكنة بعد فترة طويلة من انقطاع قنوات الاتصال بين الطرفين، والمحرّك الأساسي لها كانت القمة الروسية الأميركية التي انعقدت منتصف الشهر الماضي في جنيف. وبات واضحاً بعدها أن لدى الجانبين حرصاً واضحا على توجيه الأمور نحو الاستقرار والقدرة على التنبؤ في واحدة من أبرز التحديات المعاصرة أمام العالم.
وبعد الجولة الأخيرة التي انعقدت قبل أيام، كشف سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي جانباً من تفاصيل الحوار حول الاستقرار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في جنيف. إذ قال ريابكوف إن المفاوضات ركّزت على الأمن السيبراني، وفي إشارة واضحة إلى صعوبة المباحثات، تابع الدبلوماسي الروسي أنه «من السابق لأوانه الحديث عن أي اتفاقات ملزمة في هذا المجال».
- قضايا أمن المعلومات
الواضح هنا تأكيد الجانب الروسي أن لدى موسكو إدراكاً بأن «قضايا أمن المعلومات، ابتداء من استخدام البرمجيات الخبيثة، ووصولاً إلى استهداف المواقع الحيوية للبنية التحتية، تتطلب مناقشة ثنائية معمقة ومحترفة، وهذا الحوار قد بدأ». ووفقاً للدبلوماسيين الروس المشاركين في الحوار، فإن الدعوة تنصب أساساً على ضرورة أن تكون المفاوضات حول الأمن السيبراني منتظمة، وأن يجري توسيع جدول الأعمال حول هذا الملف على طاولة النقاش، و«ليس الاكتفاء بمناقشة الهجمات المنفردة».
وكشفت العبارة الأخيرة جانباً مهماً من الخلاف الروسي الأميركي حول آليات مناقشة هذه المشكلة، إذ ترى موسكو أن واشنطن وحليفاتها الغربيات تدفع باتجاه أن ينحصر النقاش حول «الهجمات التي تعرّضت لها مواقع في الغرب من جانب قراصنة روس»، في حين تدعو موسكو إلى مناقشة أسس للتعاون المستقبلي في هذه القضية، عبر وضع آليات دولية ملزمة على شكل معاهدة خاصة بالأمن السيبراني. أيضاً ترى موسكو أن المدخل الأميركي للحوار، ليس فقط مجتزأ، بل أيضاً «يركز على قضية الهجمات السيبرانية بغرض الابتزاز السياسي، ولتوجيه الأنظار فقط إلى ملاحقة من يقفون وراء تلك الهجمات»، كما قال ريابكوف أخيراً.
الفارق بين المطلبين الروسي والأميركي في هذا الملف واضح. فروسيا لا تريد الخوض في الاتهامات المباشرة التي وُجِّهت ضدها، ولا تريد فتح تحقيق يؤدي إلى الكشف عن أشخاص محددين متورّطين - وفقاً للادعاءات الأميركية والغربية - بمهاجمة مواقع غربية، بل تريد تحويل النقاش نحو تأسيس القاعدة القانونية... وفي الوقت ذاته، تسعى إلى الرد على اتهام باتهام. والخلاصة هنا، كما يقول دبلوماسيون روس: «نريد من الأميركيين أن يفهموا أننا بحاجة إلى ردودهم على طلباتنا بشأن مختلف الحالات، بما في ذلك محاولات التأثير الخبيث على بنيتنا التحتية وعلى شخصياتنا الاعتبارية من مناطق الاختصاص القضائي الأميركي». وهذا الكلام يوضح أن جولات الحوار لم تحقق حتى الآن كثيراً في هذا المجال، إذ ما زالت موسكو تشكو من أن «الجانب الأميركي ما زال لا يتعامل مع وجهة النظر الروسية بشكل مطلوب».
- مسألة الأمن الاستراتيجي
اللافت أن موسكو ذهبت خطوة أبعد في الحوارات. إذ إنها لا تريد أن ينحصر النقاش على بعض الهجمات الإلكترونية التي استهدفت لجاناً انتخابية أو وسائل إعلام أو مراكز بهدف التأثير على الناخبين، باعتبار أن هذه «هجمات فردية» تسعى إلى لفت الأنظار إلى مخاطر أوسع محدقة بالأمن الاستراتيجي بسبب انعدام آليات لضمان الأمن السيبراني على المستوى الدولي، ومن بينها كما يقول دبلوماسيون روس «محاولات لاستخدام الإنترنت للتأثير على أنظمة التحكّم بالأسلحة، بما فيها الطائرات المسيرة».
أما عندما تعلق الأمر بطلبات محددة لتسليم أشخاص اتهموا بالوقوف وراء هجمات سيبرانية محدّدة - وهو مطلب مهم بالنسبة إلى الداخل الأميركي - فإن موسكو تصرّ على موقفها بأن «روسيا لا تسلّم مواطنيها، وعلى الولايات المتحدة أن تعمل مع روسيا بناء على اتفاقية المساعدة القانونية الموقعة عام 1999. بدلاً من إطلاق اتهامات وإثارة الضجة الإعلامية». لكن منطق الحوار بين الطرفين رغم اختلاف المداخل، لم يمنع من طرح موضوع تشكيل «فرق عمل خاصة» مشتركة لمواصلة النقاشات حول ملفات الأمن الاستراتيجي، وعلى رأسها الأمن السيبراني. ومع أن هذا التفاهم لم يرقَ بعد إلى مستوى الاتفاق على وضع آليات تنفيذية ضرورية لتنفيذ هذه المهمة، فإنه يشكل تطوراً مهماً يمكن البناء عليه.
- «قواعد لعبة» جديدة
هنا تجدر الإشارة، إلى أن واشنطن تجنّبت الكشف عن تفاصيل الحوارات الجارية، ورفض البيت الأبيض الكشف عن أجندة الحوار حول الأمن السيبراني تحديداً، وكذلك قائمة المشاركين في الحوار. وكما قالت الناطقة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، فإن «اللقاءات والمناقشات على مستوى الخبراء مع الجانب الروسي مستمرة. والأهم هو الحفاظ على المجال لمثل هذه المناقشات، ولتحقيق التقدم كما نأمل»... قبل أن تضيف: «لا نعتزم الكشف عن أجندة تلك اللقاءات أو قائمة المشاركين فيها».
وكشف هذا الموقف من الجانب الأميركي درجة صعوبة الحوارات، ومستوى الخلافات المتواصلة، وهو أمر سعت موسكو إلى لفت الأنظار إليه علناً، عبر فاسيلي نيبينزيا، مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، الذي اتهم «بعض الدول بمحاولة فرض قواعد لعبة في المجال المعلوماتي، وتبريرها بأنها ضربات سيبرانية استباقية ضد دول أخرى». وقال نيبينزيا أثناء اجتماع عقده مجلس الأمن الدولي أخيراً، لمناقشة موضوع الأمن السيبراني، إن ثمة أطرافاً تحاول أن تفرض على المجلس «قراءات أحادية الجانب» لاتفاقات سبق التوصل إليها في المنصات المعنية بالأمن المعلوماتي الدولي والتابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة. ثم أردف أن الكلام يدور عن توجه بعض الدول إلى «تبرير ممارسة ضغوط أحادية الجانب على دول أخرى، وفرض عقوبات عليها... وكذلك استخدام القوة المحتمل ضدها، وذلك عبر التلاعب بالاتفاقات السابقة، بما في ذلك حول الجوانب القانونية الدولية من استخدام تقنيات الإعلام والاتصالات».
وأضاف نيبينزيا أن ما يثير القلق البالغ لدى روسيا هو «تطلع بعض الدول المتقدمة من الناحية التكنولوجية إلى عسكرة المجال المعلوماتي عبر الترويج لمفهوم توجيه ضربات سيبرانية استباقية، بما في ذلك إلى البنى التحتية الحيوية». وأشار إلى أن «هذه النظريات المتسمة بروح المواجهة تناقض التمسك المعلن للدول الأعضاء في مجلس الأمن بمنع حدوث نزاعات في مجال استخدام تقنيات الإعلام والاتصالات»... وأن موسكو ترى فيها سعي الدول المعنية لفرض «قواعد اللعبة» الخاصة بها في المجال المعلوماتي، مؤكداً أن موسكو ستتصدى لمحاولات استخدام مجلس الأمن في مراجعة ما جرى الاتفاق عليه في منصات الجمعية العامة.
- استراتيجية الأمن القومي أولوية للأمن السيبراني
وخلافاً للنسخ السابقة من استراتيجية الأمن القومي الروسي، أعارت النسخة المحدثة منها التي وقّعها الرئيس فلاديمير بوتين أخيراً، اهتماماً خاصاً بملف الأمن السيبراني. وبهذا المعنى، فإن أمن المعلومات بات يشغل أولوية على جدول أعمال روسيا، ليس فقط على المستوى الخارجي، بل على المستوى الداخلي أيضاً.
وعموماً، يمكن بالاستناد إلى نص الوثيقة، اختصار التوجهات الرئيسة، أو المهام المحددة، التي برزت في الاستراتيجية الجديدة بأنها تشمل التحذير من أن التطور السريع لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات يفاقم من احتمال ظهور مخاطر على أمن المواطنين والمجتمع والدولة. وأن توسيع نطاق استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصالات للتدخل في شؤون دول وتقويض سيادتها ووحدة أراضيها بات يشكل خطراً على الأمن والسلام الدوليين. وهنا توقفت الاستراتيجية عند «تزايد عدد الهجمات على الموارد المعلوماتية الروسية، ومعظمها ينفّذ من خارج البلاد»، لتلفت الأنظار إلى أن «المبادرات الروسية الرامية إلى ضمان الأمن المعلوماتي الدولي تواجه معارضة من قبل دول أجنبية تسعى إلى الهيمنة في الفضاء المعلوماتي العالمي».
وبطبيعة الحال، يظهر نص الوثيقة معارضة روسيا الكاملة للاتهامات الغربية لموسكو، وفي المقابل، تردّ الرؤية الروسية باتهام أجهزة استخباراتية أجنبية بتكثيف أنشطتها الرامية إلى تنفيذ عمليات في المجال المعلوماتي الخاص بروسيا.
كذلك ترى الوثيقة أن روسيا تواجه «حملات تضليلية وتخريبية» في الإنترنت تستهدف بالدرجة الأولى الشباب، (منها تداول أنباء كاذبة عن خطر تنفيذ هجمات إرهابية ودعوات للانتحار ونشر مواد متطرفة والتحريض على ارتكاب أعمال غير قانونية وترويج تناول المخدرات وغيرها). وكما كان متوقعاً توقفت الوثيقة عند اتهام شركات دولية عملاقة مثل «غوغل»، ادّعت أنها «تسعى إلى ترسيخ احتكارها في الإنترنت، والسيطرة على كل الموارد المعلوماتية من خلال فرض الرقابة غير القانونية وإغلاق موارد معلوماتية بديلة». ورأت أيضاً أن «رواد الإنترنت الروس يواجهون محاولات تهدف إلى فرض رؤية مشوّهة عليهم إزاء الحقائق التاريخية والتطورات في روسيا والعالم لدواعٍ سياسية». وخلُصت إلى التحذير من أن «استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الأجنبية في روسيا يزيد من خطر تعرّض الموارد المعلوماتية في البلاد لمحاولات التأثير عليها من الخارج».
- «الحماية» من الغرب
بهذه «الرزمة» من التحذيرات والاتهامات للغرب، تدفع استراتيجية الأمن القومي الروسي عملياً إلى وضع ملف المواجهة السيبرانية وأمن المعلومات في مقدمة معركتها الحالية مع الغرب، رافعة شعار «حماية روسيا من التأثير الغربي الضار على المجتمع». ولذلك يظهر الهدف الرئيس في «تعزيز سيادة البلاد في المجال المعلوماتي». ويدفع هذا الهدف المعلن، إلى سلسلة من التدابير التي حددتها الوثيقة لحماية روسيا وتعزيز «سيادتها» الرقمية، وهنا يبدو أن منحى رفع جدران من «العزلة الرقمية» يتجسّد أكثر وأكثر في توجهات الاستراتيجية الروسية.
لتوضيح ذلك، يكفي أنه من بين الآليات التي وضعتها الاستراتيجية لتحقيق الهدف...
- إنشاء فضاء آمن لتداول المعلومات الموثوق بها
- تحصين البنى التحتية الخاصة بالمجال المعلوماتي في روسيا
- منع التأثير التخريبي بالوسائل المعلوماتية والتكنولوجية على الموارد المعلوماتية الروسية
- تهيئة الظروف الملائمة لكشف ومنع الجرائم في الإنترنت
- زيادة تحصين القطاع الروسي لشبكة الإنترنت ومنع أي سيطرة أجنبية على أنشطته.
كل هذا، مع أهداف أخرى، تمثلت في تقليص عدد حالات تسرب بيانات سرية وشخصية إلى أدنى حد ممكن، وتعزيز الأمن المعلوماتي الخاص بقوات الجيش الروسي ومنتجي الأسلحة والمعدات العسكرية، وتطوير وسائل وأساليب ضمان الأمن المعلوماتي باستخدام تكنولوجيات حديثة، منها الذكاء الاصطناعي، وإعطاء الأفضلية إلى استخدام التكنولوجيات محلية الصنع في البنى التحتية المعلوماتية في روسيا... وأخيراً، تعزيز التعاون مع الشركاء الأجانب في مجال ضمان الأمن المعلوماتي، بما يخدم خاصة إنشاء نظام دولي جديد خاص بهذا الشأن.
- استعداد مشروط للتعاون
كان لافتاً أن الإشارات التي وجّهتها موسكو حول مدى استعدادها للتعاون مع الغرب في مجال أمن المعلومات، ارتبطت دائماً بشروط واضحة تفرض على كل الأطراف الالتزام بتعهدات مسبقة. وكمثال، مهّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقائه مع نظيره الأميركي جو بايدن في جنيف أواسط الشهر الماضي، بالإشارة إلى أن موسكو مستعدة لتسليم مرتكبي الجرائم السيبرانية إلى واشنطن في حال إبرام الطرفين اتفاقية رسمية تنصّ على التزاماتهما المتبادلة في هذا الصدد.
ولفت الرئيس الروسي إلى أن هذه الالتزامات في الغالبية الساحقة من الاتفاقيات المماثلة متساوية، مضيفاً: «إذا اتفقنا على تسليم المجرمين فإن روسيا بطبيعة الحال ستفعل ذلك، لكن فقط إذا وافق الجانب الآخر - وفي هذه الحالة الولايات المتحدة - على الشروط نفسها، وستسلم المجرمين المطلوبين إلى روسيا». وشدد بوتين على أن مسألة الأمن السيبراني تعد من أهم القضايا اليوم، لأن هجمات سيبرانية قد تؤدي إلى إطفاء منظومات بأكملها، ما يجلب عواقب وخيمة للغاية.
هذا الحديث الروسي، مع المبادرات الروسية المتكرّرة لوضع آلية دولية أو معاهدة ملزمة على صعيد الأمن السيبراني، يتم إقرارها في مجلس الأمن، قوبلت دائماً من جانب الخبراء، بنقاشات موسعة حول آليات تنفيذها عملياً وعلى أرض الواقع.
- الخبيرة لايما جيرمانوفا: في تنظيم تدفق المعلومات مصلحة للمجتمع الدولي كله
> في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قالت الخبيرة لايما جيرمانوفا، مديرة مؤسسة «كريبروم»، وهي شركة أبحاث رائدة في روسيا، إنه إذا ما اعتُمدت المسودة النهائية للاقتراح الذي قدّمته روسيا إلى مجلس الأمن بشأن تبني معاهدة دولية لأمن المعلومات ستصبح هذه أول معاهدة عالمية لمكافحة الجريمة السيبرانية.
وأشارت الخبيرة - التي تشارك مؤسستها في دراسة العمليات الاجتماعية والسياسية القائمة على رصد وتحليل وسائل التواصل الاجتماعي - إلى أنه ليست هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها روسيا مثل هذه المبادرات، لكن إذا كان جوهر السؤال يكمن في البحث عن الحلول التكنولوجية الممكنة، سيكون ضرورياً توضيح أن جميع هذه القرارات أولاً، وقبل كل شيء، يجب أن تنفذ مبدأ السيادة الرقمية. بموجب هذا المبدأ، على الدولة ضمان أمن المعلومات وتنظيم تدفق المعلومات، وهذه ليست مصلحة روسية فقط، بل مصلحة للمجتمع الدولي. وتابعت: «هذا هو التحدي الذي يقف أمام جميع البلدان المشاركة في مجال المعلومات. ولحل هذه المشكلة، هناك حاجة إلى أدوات تكنولوجية لتتبع تدفق المعلومات والتحكم في امتثالها للتشريعات الحالية. إن التبادل اليومي للمعلومات، يحتوي على كمٍ هائل من البيانات الواجب تلقيها بطريقة ما، وفي مكان ما، بشكل منظم وآمن، كي تكون قادرة على تحديد ما ينتهك قوانين الدولة ويهدد أمن المعلومات ويشكل خطراً على المواطنين في تدفق المعلومات».
وحول فرص تقريب وجهات النظر مع الغرب، قالت جيرمانوفا: «لا توجد حدود في فضاء المعلومات. انتشار الإنترنت مرتفع في جميع أنحاء العالم تقريباً. والنشاط الإرهابي المدمر والمتطرف على الإنترنت يهدد جميع البلدان. ولمواجهة هذه التهديدات العالمية بشكل فعال، فإن أنجحها هو التعاون بين الدول وتجميع الجهود والمهارات من مختلف البلدان». وأضافت: «في رأينا، سيكون من المنطقي توحيد الجهود في مكافحة هذه التهديدات والتصدي لها بشكل مشترك. سيكون التفاهم المتبادل بين الدول الاستراتيجية الأنجع، والاستجابة الفضلى للتحدي. وهذا ما تهدف إليه المبادرة الروسية في الأمم المتحدة، وهذا ما تحدث عنه فلاديمير بوتين عندما أشار إلى استعداد روسيا لإبرام التزامات مماثلة مع الدول الأخرى في مكافحة الجرائم الإلكترونية».
في الوقت ذاته، أقرت الخبيرة الروسية أن جهود روسيا لتعزيز «السيادة الرقمية» تواجه اليوم تحدياً قوياً، لأنه «لا توجد حلول قادرة على تنفيذ وصيانة نظام مغلق تماماً غير متصل بالعالم الخارجي. فضاء المعلومات لا حدود له، ومستوى التطور التكنولوجي لا يسمح بعزلة كاملة للبلد بأكمله. لقد أصبح العالم شفافاً للغاية». ومع ذلك، تقول الخبيرة إن «الحاجة إلى شبكة إنترنت وطنية ملحّ بالطبع - وليس فقط في روسيا. هذا الموضوع مطروح على أجندة جميع البلدان، وهو يضعها في حيرة حيال هذه المشكلة». ثم تضيف أن روسيا «تعمل بالطبع في هذا الاتجاه، وفي الآونة الأخيرة نسبياً، جرى تبنّي مجموعة من القوانين التي تنظم الإجراءات في الجزء الروسي من الإنترنت وتجعله أكثر أماناً»، مشيرة إلى أن حكومات الدول الأخرى تتخذ خطوات مماثلة. قبل أن تقول: «هل هذا يعني العزلة؟ بالطبع لا، نحن نتحدث في المقام الأول عن حماية المواطنين ومصالحهم».


مقالات ذات صلة

تقرير: هجوم سيبراني إيراني استهدف مرشح ترمب لقيادة «إف بي آي»

الولايات المتحدة​ كاش باتيل (أ.ف.ب)

تقرير: هجوم سيبراني إيراني استهدف مرشح ترمب لقيادة «إف بي آي»

قال مصدران مطلعان لشبكة «سي إن إن» الأميركية، إن كاش باتيل، المرشح الذي اختاره الرئيس المنتخب دونالد ترمب لتولِّي قيادة «إف بي آي»، تعرّض لعملية قرصنة إيرانية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم القراصنة قاموا بعمليات استطلاع وفحص محدودة لمواقع إلكترونية متعددة مرتبطة بالانتخابات الأميركية (أرشيفية - رويترز)

مسؤول: قراصنة إلكترونيون صينيون يستعدون لصدام مع أميركا

قال مسؤول كبير في مجال الأمن الإلكتروني في الولايات المتحدة إن قراصنة إلكترونيين صينيين يتخذون مواطئ قدم في بنية تحتية خاصة بشبكات حيوية أميركية.

آسيا هيئة الأركان المشتركة في كوريا الجنوبية نصحت السفن والطائرات في منطقة البحر الغربي بالحذر من تشويش إشارة نظام تحديد المواقع (أ.ف.ب)

سيول تتهم بيونغ يانغ بالتشويش على «جي بي إس»

كشف الجيش في كوريا الجنوبية اليوم (السبت) أن كوريا الشمالية قامت بالتشويش على نظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس) أمس (الجمعة) واليوم.

«الشرق الأوسط» (سيول)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يقف إلى جانب محاميه تود بلانش في محكمة مانهاتن الجنائية (أ.ب)

تقرير: قراصنة صينيون تنصتوا على هاتف محامي ترمب

أبلغ مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) أحد كبار محامي الرئيس المنتخب دونالد ترمب أن هاتفه الجوال كان تحت مراقبة قراصنة صينيين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ أنباء عن متسللين إلكترونيين تابعين للحكومة الصينية رصدوا تسجيلات لاتصالات هاتفية لشخصيات سياسية أميركية (رويترز)

صحيفة: متسللون صينيون رصدوا تسجيلات صوتية لمستشار في حملة ترمب

ذكرت صحيفة واشنطن بوست، اليوم الأحد، أن متسللين إلكترونيين تابعين للحكومة الصينية رصدوا تسجيلات صوتية لاتصالات هاتفية لشخصيات سياسية أميركية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.