تستطيع المنقوش إحراز هدف في مرمى أنقرة!

رغم أن الدوحة بدأت خطواتها لإعادة علاقتها مع القاهرة إلى طبيعتها، في التوقيت ذاته تقريباً الذي بدأت فيه أنقرة خطوات مماثلة، فإن الخطوات في حالتها القطرية قد مضت إلى الأمام بمقدار، وتوقفت في حالتها التركية في مكانها لا تكاد تغادره!... فما السبب؟!
السبب أن العاصمة القطرية أدركت منذ اللحظة الأولى، وبالتحديد منذ قمة مجلس التعاون الخليجي في مدينة العلا السعودية أول هذه السنة، أن قاهرة المعز جادة في العودة بالعلاقات إلى حيث يجب أن تكون، فبادلتها جدية بجدية منذ اللقاء الأول الذي انعقد بين مسؤولين في البلدين بعد قمة العلا، إلى اللقاء الخامس الذي انعقد قبل أيام، وقالت وزارة الخارجية المصرية إن ما جرى بين العاصمتين في اللقاءات الخمسة إيجابي في مجمله.
حدث هذا بالتوازي مع لقاء يتيم جرى أول مايو (أيار)، بين دبلوماسيين مصريين في مقر الوزارة على النيل، وبين دبلوماسيين أتراك، وكان على مستوى نائبي وزيري الخارجية في البلدين، وهو لقاء ما كاد ينفض على أمل لقاء آخر يتبعه على مستوى وزيري الخارجية، حتى تبخر اللقاء المرتقب ولم يعثر أحد له على أثر!
وكان مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، يبشر باللقاء الوزاري القريب، غير أنه لقاء بدا بعيداً مع مرور الوقت، لأن تركيا لم تكن تقدم ما يعجل بانعقاده، ولا كانت إلى اللحظة الحالية تقدم على الأرض ما يقربه، ثم يغري بلقاءات أخرى على مستوى أعلى في المستقبل.
في لقاء نائبي وزيري الخارجية على شاطئ النهر الخالد، كانت القاهرة واضحة بما يكفي، وكانت تضع أمام الجانب التركي ثوابت لا تقبل فيها الفصال، وكان ملف ليبيا على الحدود في الغرب يقف في المقدمة من هذه الثوابت، لأن وجود الأتراك فوق الأراضي الليبية بالشكل الحالي، كان ولا يزال مما لا تقبل به مصر، ولا تقره، ولا تستطيع التعامل معه تحت أي عنوان!
ولكن تركيا في المقابل كانت تتصور أن في مقدورها أن تمتطي حصانين في وقت واحد، وتنسى أنها إذا لم تدرك استحالة ذلك، وإذا لم تقلع عن الاعتقاد فيه، فإنها تصبح أقرب إلى حالة الرجل الذي يقال عنه في الثقافة الشعبية المصرية إنه صاحب بالين!
والغريب أنها راحت من قبل تتصرف مع الولايات المتحدة حسب هذا المعتقد نفسه، فكانت تتخيل أن في إمكانها أن تجمع بين الصواريخ الروسية إس 400، وبين الطائرات الأميركية إف 35، ولكن سرعان ما تبين لها أن ذلك بمثل ما كان غير ممكن في أيام ترمب، فإنه غير ممكن أيضاً في عصر بايدن.
وفي اجتماع حلف شمال الأطلسي الشهير بالناتو في بروكسل مؤخراً، أعادت إدارة الرئيس بايدن التأكيد على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أن الجمع بين صواريخ الشرق وطائرات الغرب لن يكون ممكناً وأن عليه أن يختار!
وهذا بالضبط ما يجد نفسه أمامه في ملف علاقاته العائدة مع القاهرة، لأن عودتها إلى ما كانت عليه قبل 2013، عندما انحاز إلى «الإخوان» بطريقة سافرة، هي عودة تظل مرهونة بأشياء مطلوبة منه وفي المقدمة منها خروجه من ليبيا، وتظل متوقفة على يقينه بأن خروج قواته من طرابلس العاصمة، سوف يتوازى مع دخوله إلى القاهرة ضمن علاقات طبيعية تقوم على قواعد واضحة.
ولكنه لا يزال يساوم ويفاصل، وقد كان موقفه في أثناء مؤتمر برلين 2 الذي انعقد في العاصمة الألمانية في 23 يونيو (حزيران)، عزفاً من نوع مختلف على نغمة المساومة ذاتها التي لن تجدي معه في النهاية!
فهو عندما فوجئ في المؤتمر بالمجتمعين يطالبونه بخروج قواته من ليبيا، ويعيدون تذكيره بأن هذا المطلب قائم لم يتغير من أيام مؤتمر برلين 1 الذي انعقد أول السنة الماضية، راح يتحفظ أولاً على بند في توصيات المؤتمر يدعوه إلى الخروج، ثم راح يتكلم عن أن قواته الموجودة في ليبيا ليست قوات أجنبية من النوعية التي يدعو المؤتمر إلى خروجها، وإنما هي قوات مكونة من مدربين ومستشارين وصلوا إلى طرابلس على أساس اتفاق مكتوب مع الحكومة الليبية السابقة برئاسة فائز السراج!
وهذا كلام لا نستطيع أن نصدقه، إلا بعد أن يجيب قائله عن السؤال الآتي: إذا كانت القوات التركية الموجودة في ليبيا تتشكل من مدربين ومستشارين، فمن الذي جاء بالمقاتلين الأجانب هناك، ومعهم عناصر الميليشيات والمرتزقة المنتشرون في طرابلس وفي ضواحيها؟!
إنه سؤال بلا إجابة حاضرة، وإجابته متوافرة لدى الجانب التركي إذا شاء، لأن حكومة السراج لم تكن تخفي علاقاتها مع الحكومة التركية، ولم تتوقف المواقع الإخبارية المتخصصة في الشأن العسكري وقتها، عن رصد طائرات كانت تقلع من مطارات تركية، وهي تحمل عناصر المقاتلين الأجانب إلى ليبيا على ظهرها.
وإذا كانت أنقرة تتحدث عن مدربين ومستشارين جاءوا حسب اتفاقيات أمنية مع الحكومة السابقة، فهذه الاتفاقيات لم يوافق عليها البرلمان الليبي، ومن السهل بالتالي أن تتحلل منها حكومة عبد الحميد الدبيبة الحالية، لأن اتفاقيات من نوعها لا يوافق عليها البرلمان تبقى غير نافذة! والظاهر أن الحكومة التركية بحديثها عن مدربين ومستشارين، لا عن مقاتلين أجانب وميليشيات ومرتزقة، إنما تقذف بالكرة في ملعب حكومة الدبيبة، متصورة أن هذه الحكومة سوف تجد حرجاً في التخلي عن اتفاقية وقّعت عليها الحكومة السابقة!
وبما أن السيدة نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية الليبية، تتبنى قضية العناصر الأجنبية، وتذهب إلى إثارتها في كل محفل دولي، وفي كل مناسبة تجدها مواتية لإثارة الموضوع من جديد، فهي تستطيع أن تتلقف هذه الكرة وأن تحرز بها هدفاً في المرمى التركي، إذا ما أشارت إلى أن الاتفاقيات المماثلة بين الدول لا تكتسب قوتها إلا من موافقة البرلمانات عليها.
تستطيع الوزيرة المنقوش، التي تستعيد بشجاعتها ذكرى البطل عمر المختار أن تقول، إن اتفاق الصخيرات الذي تشكلت على أساسه حكومة السراج، لم يكن يمنحها حق عقد اتفاقيات تتعلق بقضايا سيادية في البلاد، وإن الأمر إذا كان على هذه الصورة، وهو كذلك بالفعل، فلن يناقش أحد في أن الاتفاقيات الأمنية والعسكرية التي وقّعتها الحكومة السابقة كانت ذات طبيعة سيادية.
ليس القصد من وراء هذا الكلام أن نحجر على حق أنقرة في إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية مع طرابلس، ولكن القصد هو القول بأن فارقاً يظل يقوم بين وجود دبلوماسي تركي طبيعي في ليبيا، وبين وجود يصفه الجيش الوطني الليبي بأنه لا يختلف عن الاحتلال في شيء، والقصد كذلك هو أن تكف تركيا عن الحديث عن وجود شرعي لها في الأراضي الليبية، لأنها إذا لم تكن تعرف أن عبارة «وجود شرعي» ليست سوى تسمية للأشياء بغير أسمائها، فكل متابع جيد لوقائع وجودها يعرف من طبيعة هذا الوجود ما لا تريد هي أن تعرفه، أو ما تعرفه هي طبعاً غير أنها عند الجد تنكره!
وسوف يبقى في متناول يد المنقوش أن تحرز من الأهداف في مرمى تركيا ما تحب أن تحرزه، لأن ولاءها الذي نراه من خلال أدائها إنما يتركز في الصالح الليبي العام، ولأنها تنحاز إلى دولة المؤسسات لا دولة الميليشيات في ليبيا، ولأنها تتحلى فيما تقوله وتعلنه بجسارة عاش ومات عليها البطل المختار!