مكتبة «برونتي» المفقودة تظهر من جديد في مزاد «سوذبيز»

بيعت مجموعة من مخطوطات العائلة تعود إلى القرن الـ19

TT

مكتبة «برونتي» المفقودة تظهر من جديد في مزاد «سوذبيز»

في عام 2011، أدى بيع رواية قصيرة من تأليف شارلوت برونتي وكانت تبلغ وقتها 14 عاماً، إلى اندلاع حرب مزايدة تجاوزت المليون دولار. وفي عام 2016، أعلن متحف «برونتي بارسوناج» عن العثور على كتاب مليء بالرسومات والنقوش لبنات برونتي (بما في ذلك قصيدة غير معروفة من تأليف شارلوت) بين حطام سفينة.
والآن، من المقرر بيع مجموعة من المخطوطات العائلية التي تعود إلى عائلة برونتي بعد أن ظلت مختفية طيلة قرن كامل، في مزاد علني لدار «سوذبيز» كجزء مما صنفته الدار على أنّه بيع لـ«مكتبة مفقودة» من كنوز الأدب البريطاني.
تحتوي مكتبة «هونريسفيلد»، وهي مجموعة خاصة جمعها اثنان من رجال الصناعة الفيكتوريين التي اختفت عن الأنظار في ثلاثينات القرن الماضي، على أكثر من 500 مخطوطة ورسائل وطبعات أولى نادرة، وغيرها من المطبوعات اليدوية التي تعود لعدد من المؤلفين القانونيين، بما في ذلك مخطوطات والتر روب وروبرت برنز التي حملت عنوان «الكتاب الشائع الأول».
لكن نظراً للضجيج الذي أحاط بمزادات برونتي السابقة وتقديرات المزاد، فإنّ مادة برونتي من المرجح أن تتسبب في ضجيج أكثر من غيرها. ستتضمن المعروضات البارزة التي ستعرض في مزاد «سوذبيز» في نيويورك في الفترة من 5 إلى 9 يونيو (حزيران)، مخطوطة مكتوبة بخط اليد لقصائد إميلي برونتي، مع تعديلات بقلم الرصاص تعود إلى شارلوت، يُتوقع أن تُباع بنحو 1.3 مليون دولار إلى 1.8 مليون دولار.
يتضمن الكنز أيضاً خطابات عائلية وطبعات أولى ومخطوطات أخرى تعرض لمحة عن الحياة في منزل برونتي، منها نسخة من كتاب عالم التاريخ الطبيعي توماس بويك «تاريخ الطيور في بريطانيا» الذي تناولته شارلوت برونتي في افتتاحية روايتها «جين أير».
وصف غابرييل هيتون، المتخصص في الأدب الإنجليزي والمخطوطات التاريخية في دار «سوذبيز»، مكتبة «هونريسفيلد» بأنّها أفضل مكتبة شاهدها منذ 20 عاماً، وأنّ خبيئة برونتي التي ظهرت للعلن هي الأكثر أهمية على مدار جيل كامل. وفي مقابلة بالفيديو قبل إلقاء نظرة خاطفة على المعروضات، قال هيتون «إن حياة هؤلاء الأخوات غير عادية». فالنظر إلى المخطوطات «يعيدك مباشرة إلى اللحظة المذهلة حين كانت الشقيقات تخربشن بعيداً في بيت القسيس».
وفي السياق ذاته، قالت كلير هارمان، مؤلفة كتاب «شارلوت برونتي: قلب ناري»، إنّها «مهتمة بشدة» منذ أن علمت بالمزاد الذي سيقام على الإنترنت في يوليو (تموز)، بعد معاينات إضافية في لندن وإدنبرة، مضيفة «أنّه مذهل للغاية، فالعلماء والقراء يعرفون أنّ هذه الأشياء موجودة، لكنك تنسى عندما تكون في أيدٍ خاصة. إنّها مثل شابة جميلة نائمة».
لم تكن مكتبة «هونريسفيلد» بعيدة عن بيت القسيس، تحديداً على حافة مستنقعات ويست يوركشاير، حيث نشأت شارلوت وإميلي وآن وشقيقهم، برانويل (ولدوا بين عامي 1816 - 1820)، ليخلقوا عوالم خيالية متقنة ومشتركة.
جُمّعت المكتبة ابتداءً من تسعينات القرن التاسع عشر من قبل الأخوين ألفريد وويليام لو، وهما اثنان من أصحاب المطاحن العصاميين نشآ على بعد أقل من 20 ميلاً من منزل برونتي في «هاوورث» (الذي أصبح الآن متحف برونتي لبارسوناج).
تضمنت «مجموعة لو» المحفوظة في المكتبة في منزلهم «هونريسفيلد هاوس» ما أسماه هيتون «كتب منزل ريفي كبير»، منها «مطوية شكسبير الأولى» (بيعت منذ فترة طويلة). لكنّ الأخوين كانا أيضاً جامعان متحمسان للمخطوطات، وقد حصلا على خبيئة برونتي من تاجر اشتراها مباشرة من أرمل شارلوت. وقام ويليام، جامع التحف الأكثر جدية، بزيارات متكررة إلى «هاوورث» لشراء متعلقات الأسرة التي أنقذها الجيران والأقارب.
وبعد وفاة الأخوين (اللذين لم يتزوجا قط)، انتقلت المجموعة إلى ابن أختهما، الذي سمح باطلاع علماء مختارين عليها، وصنع نسخاً طبق الأصل من بعض العناصر. ولكن بعد وفاته في عام 1939 ذهبت النسخ الأصلية بعيداً عن الأنظار.
بحلول أربعينات القرن الماضي، باتت المجموعة «قريبة جداً وسهلة التتبع»، حسب أحد العلماء في ذلك الوقت. وفي العقود الأخيرة عُرضت بعض القطع الأثرية من المجموعة، مثل طاولة الكتابة الخاصة بشارلوت (الموجود الآن في متحف برونتي بارسوناج) للبيع بالمزاد. لكن مكان وجود باقي المقتنيات ظلّ مجهولاً.
يتذكر هيتون قائلاً «عندما تلقيت اتصالاً لأول مرة بشأن هذه المقتنيات، فكرت في أنّها ربما كانت هذه المجموعة. بعد ذلك كان الأمر مثيراً للغاية». (وكشف عن أن البائعين الذين يرغبون في عدم الكشف عن هويتهم من نسل عائلة لو).
لكنّ الأخبار التي تفيد بأنّ المجموعة التي ظهرت حديثاً ستُفرّق في المزاد لم ترق للجميع. فقد أصدر متحف «برونتي بارسوناج» بياناً الثلاثاء الماضي، دعا فيه إلى «الحفاظ على مادة برونتي سليمة للأمة»، وأعرب عن أسفه «للتسويق الضيق وخصخصة التراث».
تعتبر المواد التي خرجت من يد إميلي برونتي نادرة؛ إذ لا توجد مخطوطة لـ«مرتفعات ويذرنغ» التي نشرت لأول مرة عام 1847، قبل عام واحد من وفاتها بمرض السل. وأضاف هيتون «من المعروف أنّ رسالتين فقط كتبتهما إميلي قد نجيتا وموجودتان حتى الآن».
تتضمن المواد التي ستُباع في دار «سوذبيز» بعض «اليوميات» التي كتبتها إميلي وآن لبعضهما بعضاً في أعياد ميلادهما. (واحدة من إميلي، في عام 1841 تطلب من شقيقتها آن، أن تقرأها لاحقاً عندما تبلغ 25 عاماً). هناك أيضاً رسائل من عام 1840 من قبل شقيقتهما الأقل شهرة، برانويل برونتي، بما في ذلك رسالة إلى هارتلي كوليردج، ابن صموئيل تايلور كوليردج، التي تحتوي على نسخ من أشعاره وتصف طموحه الأدبي (الذي لم يتحقق).
لكنّ المادة البارزة، هي مخطوطة من 31 قصيدة بيد إميلي، مؤرخة في فبراير (شباط) 1844، ذكر هارمان أنّها لا تحافظ فقط على شعرها كما كتبته، لكنّها لعبت دوراً حاسماً في تحفيز الميول الأدبية لجميع الأخوات الثلاث.
كتبت إميلي قصائدها في الخفاء من دون نية للنشر، لكن في عام 1845، عثرت شارلوت عليها بالصدفة ووجدت أنها غير عادية. (هناك تدوينة بقلم رصاص ربما بقلم شارلوت في أسفل المخطوطة: «ليس هناك أروع من هذا أبداً» أسفل المخطوطة). وعلى الرّغم من أنّ إميلي كانت غاضبة في البداية، فقد وافقت على تضمينها في مجلد شعر ممول ذاتياً للأخوات الثلاث، استخدم أسماء مستعارة: كورير، وإليس، وأكتون بيل.
بيعت نسختان فقط من هذا المجلد الذي نُشر عام 1846. لكنّها دفعت الأخوات إلى البدء في العمل على رواياتهن التي أثارت ضجة كبيرة؛ مما أثار تكهنات مكثفة حول المؤلفين الحقيقيين وراء الأسماء المستعارة، وحول هوس الناس الأوسع ببرونتي الذي استمر حتى اليوم.
استطرد هارمان قائلاً «إذا كانت هذه المخطوطة هي التي نظرت إليها شارلوت خلسة، فقد كانت شاهداً على هذا المشهد المتوتر للغاية بين الأخوات، ناهيك عن أنّها تراث أدبي».
تتضمن مجموعة مزاد «سوذبيز» عناصر أخرى تقدم لمحات عن الحياة اليومية في بيت القسيس. فخلال مقابلة الفيديو، قلب هيتون صفحات كتاب «تاريخ الطيور البريطانية» لبيويك، المليء بالتعليقات التوضيحية التي كتبها والد الأشقاء باتريك برونتي. في المشاهد الأولى لرواية «جين أير»، تتصفح جين الكتاب بحثاً عن ملاذ خيالي من ظروفها القاتمة. وفي الحياة الواقعية، استخدم الأشقاء الكتاب نموذجاً لممارسة الرسم، في حين ملأها باتريك بملاحظات عملية عن أنواع الطيور لذيذة الطعم كغذاء (حسب الوصف المدون، فإنّ مذاق البط الاسكوتلندي عبارة عن «خليط من لحم البقر والرنجة الحمراء»).
تتضمن المجموعة أيضاً كتباً كتبتها شارلوت وأفراد آخرون في العائلة لمارثا براون، ابنة صديق العائلة، التي انتقلت للعيش مع العائلة عندما كانت في الحادية عشرة من عمرها وأصبحت خادمة في المنزل. من بينها الطبعة الأولى من «جين إير»، بخط يد باتريك، ودليل التدبير المنزلي بخط شارلوت.
هناك أيضاً طبعات أولى من رواية آن «أغنيس غراي» ورواية «مرتفعات ويذرنغ» لإميلي. واليوم تقدر دار مزادات «سوذبيز» أن يحقق المخطوطان ما بين 280.000 دولار و425.000 دولار. واللافت في الأمر، أنّ الأختين قد عبرتا عن غضبهما من عمل الناشر المليء بالأخطاء المطبعية. وأشار هيتون إلى عيب آخر في نسخة «مرتفعات ويذرنغ»؛ إذ إنّ بعض الصفحات غير مرتبة، «وهو ما يعطي سبباً جديداً للجدل الذي شاب نشر الرواية».

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

يوميات الشرق زاهي حواس (حسابه على فيسبوك)

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

أكد الدكتور زاهي حواس، أن رفض مصر مسلسل «كليوباترا» الذي أذاعته «نتفليكس» هو تصنيفه عملاً «وثائقي».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

وجد علماء الأنثروبولوجيا التطورية بمعهد «ماكس بلانك» بألمانيا طريقة للتحقق بأمان من القطع الأثرية القديمة بحثًا عن الحمض النووي البيئي دون تدميرها، وطبقوها على قطعة عُثر عليها في كهف دينيسوفا الشهير بروسيا عام 2019. وبخلاف شظايا كروموسوماتها، لم يتم الكشف عن أي أثر للمرأة نفسها، على الرغم من أن الجينات التي امتصتها القلادة مع عرقها وخلايا جلدها أدت بالخبراء إلى الاعتقاد بأنها تنتمي إلى مجموعة قديمة من أفراد شمال أوراسيا من العصر الحجري القديم. ويفتح هذا الاكتشاف المذهل فكرة أن القطع الأثرية الأخرى التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ المصنوعة من الأسنان والعظام هي مصادر غير مستغلة للمواد الوراثية

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

يُذكر الفايكنغ كمقاتلين شرسين. لكن حتى هؤلاء المحاربين الأقوياء لم يكونوا ليصمدوا أمام تغير المناخ. فقد اكتشف العلماء أخيرًا أن نمو الصفيحة الجليدية وارتفاع مستوى سطح البحر أدى إلى فيضانات ساحلية هائلة أغرقت مزارع الشمال ودفعت بالفايكنغ في النهاية إلى الخروج من غرينلاند في القرن الخامس عشر الميلادي. أسس الفايكنغ لأول مرة موطئ قدم جنوب غرينلاند حوالى عام 985 بعد الميلاد مع وصول إريك ثورفالدسون، المعروف أيضًا باسم «إريك الأحمر»؛ وهو مستكشف نرويجي المولد أبحر إلى غرينلاند بعد نفيه من آيسلندا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

لا تزال مدينة مروي الأثرية، شمال السودان، تحتل واجهة الأحداث وشاشات التلفزة وأجهزة البث المرئي والمسموع والمكتوب، منذ قرابة الأسبوع، بسبب استيلاء قوات «الدعم السريع» على مطارها والقاعد الجوية الموجودة هناك، وبسبب ما شهدته المنطقة الوادعة من عمليات قتالية مستمرة، يتصدر مشهدها اليوم طرف، ليستعيده الطرف الثاني في اليوم الذي يليه. وتُعد مروي التي يجري فيها الصراع، إحدى أهم المناطق الأثرية في البلاد، ويرجع تاريخها إلى «مملكة كوش» وعاصمتها الجنوبية، وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد نحو 350 كيلومتراً عن الخرطوم، وتقع فيها أهم المواقع الأثرية للحضارة المروية، مثل البجراوية، والنقعة والمصورات،

أحمد يونس (الخرطوم)
يوميات الشرق علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

اتهم علماء آثار مصريون صناع الفيلم الوثائقي «الملكة كليوباترا» الذي من المقرر عرضه على شبكة «نتفليكس» في شهر مايو (أيار) المقبل، بـ«تزييف التاريخ»، «وإهانة الحضارة المصرية القديمة»، واستنكروا الإصرار على إظهار بطلة المسلسل التي تجسد قصة حياة كليوباترا، بملامح أفريقية، بينما تنحدر الملكة من جذور بطلمية ذات ملامح شقراء وبشرة بيضاء. وقال عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس لـ«الشرق الأوسط»، إن «محاولة تصوير ملامح كليوباترا على أنها ملكة من أفريقيا، تزييف لتاريخ مصر القديمة، لأنها بطلمية»، واتهم حركة «أفروسنتريك» أو «المركزية الأفريقية» بالوقوف وراء العمل. وطالب باتخاذ إجراءات مصرية للرد على هذا

عبد الفتاح فرج (القاهرة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)