حفلة الأوسكار تمنح جوائزها في {العام الصعب»

اختلفت وتنوّعت... و«نومادلاند» ميّزها

أنتوني هوبكنز أثناء تصوير مشاهد من فيلمه «الأب» الذي فاز عنه بجائزة أفضل ممثل في حفل الأوسكار ليلة أول من أمس (أ.ب)
أنتوني هوبكنز أثناء تصوير مشاهد من فيلمه «الأب» الذي فاز عنه بجائزة أفضل ممثل في حفل الأوسكار ليلة أول من أمس (أ.ب)
TT

حفلة الأوسكار تمنح جوائزها في {العام الصعب»

أنتوني هوبكنز أثناء تصوير مشاهد من فيلمه «الأب» الذي فاز عنه بجائزة أفضل ممثل في حفل الأوسكار ليلة أول من أمس (أ.ب)
أنتوني هوبكنز أثناء تصوير مشاهد من فيلمه «الأب» الذي فاز عنه بجائزة أفضل ممثل في حفل الأوسكار ليلة أول من أمس (أ.ب)

لم تختلف نتائج الأوسكار عن توقعاتنا التي نشرت يوم أول من أمس إلا في خمس مسابقات من بين المسابقات الأخرى التي سيقت في التحقيق السابق. لكن حفل الأوسكار الـ93 الذي تم يوم أول من أمس (الأحد) حمل مفاجآت عديدة على أكثر من صعيد من أهمها أنه كان بمثابة رد روح للسينما الأميركية عموماً والأوسكار خصوصاً من خلال هذا الاهتمام الشاسع الذي شهده الاحتفال.
هذا الاحتفال لم يكن من بعيد لبعيد، على شبكات الإنترنت وحدها، بل أقيم في قاعة «يونيون ستاشن» ضمّت الجمهور (من السينمائيين) والضيوف والمقدّمين والفائزين أيضاً. بذلك جاءت حفلة الأوسكار مناسبة موقوتة لترفع من درجة الاستعداد لتحدي الأمر الواقع والعودة إلى ما كان عليه الحال قبل أكثر من سنة.
أما ما جاء على نحو شامل، فتكرّس من خلال ظاهرة أخرى مفادها أن الأميركيين كانوا الأكثر توقاً للخروج من شروط الحياة تحت عبء الجائحة. هذا يفسّر الاهتمام الكبير لمتابعة نتائج الأوسكار في عام صعب على مستوى التوقعات والتخمينات وصعب على مستوى التنفيذ والاحتفاء في مثل هذه الظروف.
لكن الاهتمام بالأوسكار لم يكن استثنائياً. إيرادات أيام الجمعة والسبت والأحد الماضيين لصالات السينما تلألأت بنجاحات لم تتحقق منذ أكثر من سنة: بعد أن حصد «غودزيلا ضد كونغ» أكثر من 86 مليون دولار في أسابيع ثلاثة، انطلق فيلمان جديدان جلبا نجاحاً آخر مريحاً بالنسبة لهوليوود: «مورتال كومباكت» حقق 23 مليون دولار و«ديمون سلاير» أنجز 20 مليون دولار. هذا وضع «مورتال كومباكت» في المركز الأول و«ديمون سلاير» في المركز الثاني بينما جاء «غودزيلا ضد كونغ» في المركز الثالث.

سوابق
الفيلم الفائز بالأوسكار لم يكن سوى «نومادلاند»، وفوزه لم يكن مفاجئاً بل متوقعاً بين معظم من تابع التاريخ القريب للترشيحات هذه المرّة. هذا ليس بحد ذاته جديداً. غالباً ما يخرج الفيلم الذي يتوقع النقاد نجاحه كفائز فعلي، لكن المميّز إلى حد بعيد هو أن «نومادلاند» هو أول فيلم في تاريخ الأوسكار يفوز بأقل قدر من النجاح التجاري، إذ بالكاد حقق نحو 3 ملايين دولار من عروضه. ليس أن الناس عزفت عن حضوره، بل هو وليد تلك الأشهر التي تم فيها إغلاق الصالات السينمائية.
هذا وحده يعكس اختلافاً ملحوظاً للأوسكار في الخمس عشرة سنة الأخيرة، عندما أخذت الأفلام المستقلة وتلك التي لا تحقق الكثير من الإيرادات (مثل The Hurt Locker الذي كان جمع 11 مليون دولار قبل فوزه سنة 2010 ثم أضاف إليها 6 ملايين أخرى بعد ذلك الفوز. قبل نحو عقدين من الزمن كان الفوز حليف الأفلام التي تنجز نجاحات تجارية كبيرة حتى وإن كانت ذات مواضيع شائكة، كما الحال - من باب الأمثلة فقط - مع «مدنايت كاوبوي» سنة 1970 أو «صمت الحملان» سنة 1992. في أعوام أخرى اعتادت الأفلام الكبيرة الوقوف فوق المنصّة لتسلم أوسكاراتها مثل «العراب 2» (سنة 1975 وبكل جدارة) و«صوت الموسيقى» (1966) و«باتون» (1971).
«نومادلاند» هو من بين أقل الأفلام التي فازت بتاريخ الأوسكار تكلفة، وما سبق يدخل في نطاق المتغيّرات التي حدثت داخل أعضاء أكاديمية العلوم والفنون السينمائية في العقدين الأخيرين عندما انضم إليها المزيد من السينمائيين الأقل سنّاً من الطاقم القديم والحامل مفاهيم مختلفة عنه أيضاً.
ليس أن «نومادلاند» هو الاستثناء في هذه الدورة، بل انتشر هذا التغيير في جوانب شتّى ولو أن «نومادلاند» حفل بها. فهذه هي المرّة الأولى التي تربح فيها مخرجة (كلووي زاو) بالأوسكار من أصول شرق آسيوية، والمرّة الثانية التي تربح فيها أنثى (بعد كاثرين بيغيلو عن «ذا هيرت لوكر»). زاو لجأت إلى الولايات المتحدة للدراسة والعمل في مطلع السبعينات ولم تغادرها منذ ذلك الحين.
وفي غير «نومادلاند» نالت الكورية الأصل يوه - جونغ يون أوسكار أفضل ممثلة مساندة عن دورها في «ميناري» وهو فوز لم يحدث من قبل كذلك.
ردات فعل الصينيين حيال فوز زاو كانت باهتة. نوع من So What‪?‬ لكن الكوريين الجنوبيين احتفوا بفوز ممثلتهم المهاجرة يوه - جونغ يون على نحو ظاهر.
إذا ما كان هذا موقفاً سياسياً، وهذا محتمل جداً كون العلاقات بين الولايات المتحدة والصين في وضع صعب، فإن السياسة قفزت إلى بعض التعليقات التي صاحبت الفائزين. هذه المرّة لم يكن هناك وقت محدد أمام كل فائز لكي يقول كلمته ويمشي، بل ليقل كلمته ويبقى. المواضيع التي تناوب على التطرّق إليها الفائزون تمحورت، بالضرورة، حول نبذ العنف والمطالبة بتقييد حرية اقتناء السلاح وضرورة إعادة تأهيل رجال البوليس وبالتالي عن العنصرية.
لخص كل ما سبق الممثل دانيال كالييولا، الذي فاز، حسب ما رجّحناه أيضاً، بأوسكار أفضل ممثل مساند عن «جوداس والمسيح الأسود» إذ قال: «سلام وحب وتقدم. عندما يلعبون لعبة فرّق لتسُد، نلعب لعبة اتحدوا وارتقوا».
لكن الممثلة الكورية يون لم تتطرق إلى أي قضية سياسية، بل نظرت إلى منافستها غلن كلوز وقالت: «لا أؤمن بالمنافسة. كيف لي أن أفوز في مواجهة غلن كلوز؟ هل هو احتفال أميركي بالممثل الكوري الذي جعلني أفوز؟ لست متأكدة».
في الواقع ما جسّدته غلن كلوز في «مرثاة المتخلّفين» أعلى قيمة - فنياً - مما وفّرته الممثلة الكورية، لكن ما حصدته كلوز في النهاية هو ثامن ترشيح أوسكاري لها من دون فوز واحد.

نتائج ومتغيّرات
النتائج التي تبلورت خلال الحفل ستبقى ذات تأثير على المواسم المقبلة من الأوسكار. في الأساس، ما زال الأوسكار إمبراطور الجوائز السنوية رغم كثرة هذا الجوائز حول العالم. لا شيء هز مكانته حتى مع ضعف الإقبال عليه في السنوات القليلة الماضية، بالمقارنة مع السنوات الأسبق. وما تؤكده هذه النتائج أيضاً هو أن المفاجآت، سارّة كانت أو غير سارّة (يعتمد ذلك على المتلقي) تعكس التحوّلات الديموغرافية التي حدثت للأكاديمية من ناحية وسعيها الدائم لعدم التقوقع في خانة التوقّعات كما حدث خلال دورات الأمس القريبة.
التالي، إذن، النتائج مع ما يسمح به المجال من تعليقات لا بد منها:
> أفضل فيلم: «نومادلاند»
- لا حاجة هنا لتكرار ما سبق قوله من أنه كان الأكثر ترجيحاً، نظراً لخامته المختلفة ووقوفه على أرض صلبة منذ البداية. جديد في معالجته وصميمي في نظرته لجانب من واقع الحياة الأميركية.
> أفضل ممثل أول: أنطوني هوبكنز
- تم تأجيل إعلان هذه النتيجة حتى النهاية على نحو غير مسبوق وغير واضح. هوبكنز، ابن الثالثة والثمانين لم يكن موجوداً لتسلم جائزته (أناب عنه واكين فينكس)، وبذلك فاز على شادويك بوزمن على نحو أثار مفاجأة بين النقاد والمتابعين.
> أفضل ممثلة أولى: فرنسيس مكدورمند
- لا يزال هذا الناقد يراها ذات نبرة أداء واحد لا يتغير لكن الحقيقة هي أنها ملتزمة به تبعاً للسيناريو وليس تقصيراً منها.
> أفضل تصوير: «مانك»
- رجحنا فوزه هنا لأسباب فنية بحتة هي ذاتها التي تبناها أعضاء الأكاديمية: تصوير بديع (بالأبيض والأسود) قام به إريك ميسرشميت محاولاً استرجاع تاريخ السينما الأميركية في تلك الفترة وعلى نحو قريب من فيلم «المواطن كين» بالنسبة لتوزيع المشاهد وإضاءتها والتفاصيل الفنية الأخرى.
> أفضل تصميم إنتاجي:
- فاز «مانك» أيضاً في هذه الفئة حتى على «تَنت» (واحد من ترشيحين لهذا الفيلم الذي أخرجه كريستوفر نولان. الثاني في فئة المؤثرات الخاصّة). «الأب» كان من بين المنافسين كذلك «مؤخرة ما رايني السوداء» و«أخبار العالم».
> أفضل مخرج: كلووي زاو
- فوزها يعني أن هناك أملاً متزايداً للمخرجين ذوي الرؤى المختلفة والمعالجات التي لا تنتمي إلى صلب الأسلوب الهوليوودي في طرح المواضيع وأساليب سردها.
> أفضل ممثلة مساندة: يو - جونغ يون
- فازت يون عن «ميناري» كما تقدّم وكل من غلن كلوز وأوليفيا كولمن (عن دورها في «الأب») وأماندا سايفيلد («مانك) وماريا باكالوڤا («بورات 2») اكتفين بالتصفيق.
> أفضل ممثل مساند: دانيال كالييويا.
- كما توقعنا، صاحب الأداء الأكثر حدّة والأقوى نبرة ونجاح تجسيد هو من خرج فائزاً بهذه المسابقة. وكان لا بد من ذلك وللأسباب التي مهدنا لها في تحقيقنا السابق (نشر يوم الأحد الماضي).
> أفضل فيلم عالمي: «دورة أخرى»
- لا مجال لمعرفة كم فاز «الرجل الذي باع ظهره» (أو «جلده» كون الفيلم حمل اختلافاً ما بين عنوانيه العربي والإنجليزي) لكن المرجّح هو ما توقعناه بالنسبة للفيلم الفائز: أكثر تواصلاً وجاذبية من الأفلام الأخرى.
> أفضل فيلم تسجيلي: «أستاذي العنكبوت»
- من بين ما رجّحنا فوزه فعلاً متجاوزاً أفلاماً طرحت قضايا سياسية مثل «جمعي» و«العميل المندس».
> أفضل رسوم متحركة طويل: «صول»
- فوزه كان متوقعاً على نحو حاسم بين كل الاستطلاعات التي سبقت توزيع الجوائز. وكان أتم دورة كاملة من النجاحات بدأت قبل الأوسكار.
> أفضل سيناريو مقتبس: «الأب»
- اعتقدنا «نومادلاند» لكن التصويت ذهب لفيلم «الأب» للفرنسي فلوريان زَلر (كتبه مع البرياني كريستوفر هامبتون).
> أفضل سيناريو أصلي: «امرأة شابة واعدة»:
- فوز هذا الفيلم الوحيد بين خمسة ترشيحات حصل عليها في فئات أخرى. وكانت كاتبته - مخرجته نالت جائزة جمعية كتاب السيناريو الأميركية وذكرنا أن هذا الفوز سيتكرر وقد تكرر.


مقالات ذات صلة

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

شؤون إقليمية الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

يتناول الفيلم تأثير فساد نتنياهو على قراراته السياسية والاستراتيجية، بما في ذلك من تخريب عملية السلام، والمساس بحقوق الإنسان للشعب الفلسطيني.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
يوميات الشرق المخرج الإيراني أصغر فرهادي الحائز جائزتَي أوسكار عامَي 2012 و2017 (إدارة مهرجان عمّان السينمائي الدولي)

أصغر فرهادي... عن أسرار المهنة ومجد الأوسكار من تحت سماء عمّان

المخرج الإيراني الحائز جائزتَي أوسكار، أصغر فرهادي، يحلّ ضيفاً على مهرجان عمّان السينمائي، ويبوح بتفاصيل كثيرة عن رحلته السينمائية الحافلة.

كريستين حبيب (عمّان)
يوميات الشرق تمثال «الأوسكار» يظهر خارج مسرح في لوس أنجليس (أرشيفية - أ.ب)

«الأوسكار» تهدف لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار

أطلقت أكاديمية فنون السينما وعلومها الجمعة حملة واسعة لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار.

«الشرق الأوسط» (لوس انجليس)
يوميات الشرق الممثل الشهير ويل سميث وزوجته جادا (رويترز)

«صفعة الأوسكار» تلاحقهما... مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية تُغلق أبوابها

من المقرر إغلاق مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية بعدما شهدت انخفاضاً في التبرعات فيما يظهر أنه أحدث تداعيات «صفعة الأوسكار» الشهيرة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق أبطال المنصات (مارتن سكورسيزي وبرادلي كوبر) يغادران «أوسكار» 2024 بوفاضٍ خالٍ

هل تخلّت «الأوسكار» عن أفلام «نتفليكس» وأخواتها؟

مع أنها حظيت بـ32 ترشيحاً إلى «أوسكار» 2024 فإن أفلام منصات البث العالمية مثل «نتفليكس» و«أبل» عادت أدراجها من دون جوائز... فما هي الأسباب؟

كريستين حبيب (بيروت)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».