الاكتشافات والمخالفات تُضاعف مهام مفتشي آثار مصر

اكتشاف معبد أسفل أحد المنازل في القاهرة (الشرق الأوسط)
اكتشاف معبد أسفل أحد المنازل في القاهرة (الشرق الأوسط)
TT

الاكتشافات والمخالفات تُضاعف مهام مفتشي آثار مصر

اكتشاف معبد أسفل أحد المنازل في القاهرة (الشرق الأوسط)
اكتشاف معبد أسفل أحد المنازل في القاهرة (الشرق الأوسط)

مع التوسع الملحوظ في الاكتشافات الأثرية الجديدة التي شهدتها مصر خلال السنوات الأخيرة، والتغيرات المناخية والتعديات، تضاعفت مهام «مفتش الآثار» وازدادت أهمية مهنته من مجرد وظيفة إدارية إلى مهنة علمية يتولاها آثاريون متخصصون من خريجي كليات الآثار، إذ يتضمن عملهم العديد من المهام للحفاظ على الثروة الأثرية ومراقبة كل تفاصيل المناطق التي يشرفون عليها، خصوصاً أنهم يتمتعون بـ«الضبطية القضائية»، التي تمكنهم من تحرير محاضر شرطية وتوقيف المخالفين، فضلاً عن متابعة الاكتشافات الأثرية الجديدة وأعمال الحفر في مناطقهم.
وتختلف التحديات التي يواجهها مفتش الآثار حسب المنطقة المسؤول عنها، ففي المناطق السكنية يخوض مواجهات يومية مع السكان لمنع الاعتداءات المختلفة على الآثار، التي تتنوع بين السرقات، خصوصاً في البنايات الأثرية المغلقة، وإلقاء القمامة، أو التعدي على المسافة الآمنة للمحيط الخارجي (حرم الأثر) من المقاهي والمتاجر، ويستخدم سلطة (الضبطية القضائية) في تحرير المحاضر بالمخالفات واستدعاء شرطة السياحة والآثار، كما تزيد المساجد التاريخية من التحديات، إذ إن إدارتها تابعة لوزارة الأوقاف، فيما تشرف عليها وزارة السياحة والآثار بحكم أثريتها، لذلك فهو مسؤول عن سلامتها الداخلية والخارجية، وهو ما يضعه في مواجهات يومية أيضاً مع العاملين بالمساجد.
يقضي مفتش الآثار إسلام يوسف، يومه متجولاً بمنطقة سوق السلاح بالدرب الأحمر (وسط القاهرة)، لمتابعة مسؤوليته عن 14 بناية أثرية بالمنطقة، تضم عدداً من المساجد والزوايا والأسبلة التاريخية، أبرزها مسجد أولجاي اليوسفي (جامع السايس)، وسبيل رقية دودو، وسبيل الأمير خليل، وزاوية قطلوبغا الفرجي، ومسجد التيبرمق، وواجهة حمام بشتاك.
يقول يوسف لـ«الشرق الأوسط» إن «بعض المخالفات تحدث بشكل شبه يومي، لذلك من الضروري متابعتها بشكل متواصل، ومن بين هذه المخالفات المرتبطة بالطبيعة السكانية، مثل الاعتداء على حرم الأثر، فبعض المقاهي تضع مقاعد الزبائن ملاصقة لحائط الأثر، وبعض المتاجر تضع معداتها على جدرانه، وذات مرة ركب أحد أصحاب المتاجر التي تقع أمام أحد الآثار، كاميرات لمراقبة متجره ووضعها على جدران البناية الأثرية، والبعض يركن سيارته ملاصقة لجدار الأثر، وهو أمر ممنوع، كما يقوم عمال المساجد بوضع لوحات لآيات قرآنية على الجدران، ومع تكرار ذلك اضطررت لإزالتها بنفسي، كما تحدث أحياناً سرقات خاصة للبنايات المغلقة».
وشهدت وظيفة «مفتش الآثار» تطورات علمية مهمة منذ تأسيس مصلحة الآثار المصرية عام 1858، حيث تحولت من مجرد وظيفة إدارية إلى مهنة علمية ازدهرت مع إنشاء كليات الآثار المتخصصة، وفقاً للدكتور جمال عبد الرحيم، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، الذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «مهنة مفتش الآثار تطورت لتصبح علمية أكثر منها إدارية، ويشارك أصحابها في دورات تدريبية مستمرة، ومعظمهم يستكملون دراساتهم العليا للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه، وقد أسهمت الاكتشافات الأثرية الجديدة في تعزيز دور مفتش الآثار وزيادة مسؤولياته».
وفي منطقة المطرية (شرق القاهرة) يواجه محمد المزين، مفتش آثار، تحديات من نوع آخر، بسبب الكثافة السكانية للمنطقة التي تعجّ بالقطع الأثرية في باطن الأرض التي يواصل البعض فيها عمليات الحفر غير المشروعة للبحث عن الآثار، ويقول المزين لـ«الشرق الأوسط» إن «معظم منازل المنطقة يوجد تحتها آثار، لذلك فإن التحدي الأكبر يتمثل في قيام بعض المواطنين بالحفر داخل منازلهم للبحث عن الآثار، ولأنها منطقة شعبية مكتظة بالسكان، فإنها تشهد هدم وبناء المنازل من جديد، ويجب أن يحصل من يريد إعادة بناء منزله على موافقتي، ثم أشرف على عملية الهدم والحفر لاستخراج الآثار الموجودة ونسجلها وننقلها إن وجدت».
> الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، استقبل أول من أمس، سفير دولة الإمارات في القاهرة حمد سعيد الشامسي، وذلك في مقر مشيخة الأزهر، وخلال اللقاء رحب شيخ الأزهر بالسفير، متمنياً له التوفيق والسداد خلال فترة خدمته بالقاهرة، مؤكداً على متانة العلاقات بين الأزهر والإمارات، وأن التعاون المشترك قد أسهم بشكل كبير في مواجهة الفكر المتطرف ومد جسور الحوار بين الشرق والغرب. من جانبه، أعرب السفير عن سعادته بلقاء شيخ الأزهر، مؤكداً على تقدير الإمارات للأزهر والدكتور الطيب.
> الهاشمي جعبوب، وزير العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي بالجزائر، استقبل أول من أمس، سفير البرتغال لدى الجزائر لويس دي البوكيركي فيلوسو، حيث تبادل الطرفان سبل وآليات تعزيز وترقية التعاون الثنائي في مجالات الاهتمام المشترك، إلى جانب تبادل وجهات النظر، وبحث آليات إعادة بعث أشغال اللجنة القطاعية الثنائية المشتركة. وأعرب الجانبان عن استعدادهما لتعميق التعاون وترقية الحوار الثنائي بين البلدين من خلال تبادل الخبرات والتجارب في المجالات ذات الصلة بالعمل والتشغيل والضمان الاجتماعي.
> عادل مصطفى كامل، سفير العراق لدى إسبانيا، قَدّم أول من أمس، أوراق اعتماده إلى الأمين العام لمنظمة السياحة العالمية زوراب بولوليكاشفيلي، ممثلاً دائماً لجمهورية العراق لدى المنظمة. ووجّه السفير دعوة إلى الأمين العام لزيارة العراق والتعاون الميداني كخطوة أساسية في مشروع النهوض بقطاع السياحة، لا سيما أن العراق تاريخ وحضارة تعد أولى الحضارات العالمية ولديه مئات من المواقع الأثرية. فيما أبدى «بولوليكاشفيلي» استعداده لتحقيق الزيارة والذهاب إلى العراق بمشاريع وأفكار يتم الترتيب والتحضير لها قبل الزيارة.
> أحمد نايف الدليمي، سفير دولة العراق لدى مصر، استقبله أول من أمس، محمود المتيني رئيس جامعة عين شمس، حيث بحث الجانبان سبل توطيد أواصر التعاون المشترك في المجال البحثي والأكاديمي، وكذلك تقديم كل الدعم للطلاب العراقيين المنتسبين لجامعة عين شمس، مؤكدين عمق الروابط التاريخية والحضارية بين البلدين الشقيقين، وشهد اللقاء كل من نائب رئيس جامعة عين شمس لشؤون التعليم والطلاب، والمدير التنفيذي لقطاع العلاقات الدولية والتعاون الأكاديمي، ومدير إدارة الوافدين بالجامعة، ولفيف من الطلاب العراقيين الدارسين بالجامعة.
> ياسمين فؤاد، وزيرة البيئة المصرية، التقت أول من أمس، سفير اليابان بالقاهرة ماساكي نوكي، لبحث جهود وزارة البيئة في الحد من استخدام الأكياس البلاستيكية أحادية الاستخدام، وأعربت الوزيرة عن تقديرها للتعاون المثمر مع وكالة اليابان للتعاون الدولي (جايكا) منذ 20 عاما في مجال البيئة، مشيرة إلى توقيع مشروع تعزيز ممارسات الاقتصاد الدائري في قطاع البلاستيك أحادي الاستخدام بدعم من المعونة اليابانية وتقوم بتنفيذه منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية «يونيدو» لمدة 3 سنوات.
> فوزية بنت عبد الله زينل، رئيسة مجلس النواب البحريني، التقت أول من أمس، غانم بن فضل البوعينين، وزير شؤون مجلسي الشورى والنواب، حيث أكدت على أهمية الارتقاء بالتعاون والتنسيق المشترك، لمواصلة تحقيق الإنجازات الوطنية، كما تم بحث عدد من المواضيع المشتركة، لافتة إلى أن التعاون الفاعل والتنسيق المستمر مع الحكومة من ركائز العمل الوطني لخدمة الوطن والمواطنين، تنفيذاً لرؤى وتطلعات ملك البلاد حمد بن عيسى آل خليفة في ظل المسيرة التنموية الشاملة.
> مليكة بن دودة، وزيرة الثقافة والفنون الجزائرية، قامت أول من أمس، بزيارة عمل إلى ولاية خنشلة، قامت خلالها بمعاينة الموقع الأثري (غرفة جنائزية) الذي اكتشف حديثا بعين الطويلة، وأشرفت كذلك على تدشين بعض المشاريع التابعة لقطاع الثقافة بالولاية، وكشفت الوزيرة عن إشراك خبرات أجنبية وطلبة الجامعات للكشف على المواقع الأثرية الجديدة، كما أعلنت عن الشروع في إقامة سياج لحماية الموقع من الاعتداءات.
> سيريل جان نون، سفير جمهورية ألمانيا الاتحادية في القاهرة، استقبله أول من أمس، أشرف عطية محافظ أسوان، وأكد المحافظ على عمق ومتانة العلاقات التاريخية والودية بين مصر وألمانيا، والتي تشهد تطوراً في الفترة الحالية على كافة المستويات، خاصة أن ألمانيا شريك وداعم في نجاح مصر الحديثة. من جانبه، قدم السفير الشكر للمحافظ على حفاوة الاستقبال، قائلاً: «إنه لمن دواعي سروري دائماً القدوم إلى مدينة أسوان الجميلة، ذلك المكان الذي يلتقي فيه التاريخ والطبيعة والثقافة».


مقالات ذات صلة

الوجبة الأخيرة القاتلة: أسرار حياة ونفوق تمساح مصري محنّط

يوميات الشرق المومياء تعود إلى فترة تتراوح بين 2000 و3000 سنة حينما كان تحنيط الحيوانات في مصر القديمة في ذروته (جامعة مانشستر)

الوجبة الأخيرة القاتلة: أسرار حياة ونفوق تمساح مصري محنّط

كشف الباحثون، أخيراً، رؤى جديدة ومثيرة حول حياة ونفوق تمساح مصري قديم محنّط، مسلطين الضوء على وجبته الأخيرة وتفاصيل أخرى مذهلة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا إحدى القطع الأثرية التي عرضت بمزادات خارجية (الدكتور عبد الرحيم ريحان)

مصر: تحرك برلماني لمواجهة بيع الآثار «أونلاين»

عادت قضية الاتجار في الآثار المصرية إلى الواجهة من جديد، بعد تحرك برلماني لمواجهة بيع الآثار «أونلاين» عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

محمد الكفراوي (القاهرة )
سفر وسياحة تلسكوب برج القاهرة يمنحك رؤية بانورامية للقاهرة (الهيئة العامة للاستعلامات)

من أعلى نقطة... إطلالات بانورامية على القاهرة

تتمتع القاهرة بمزيج فريد من التاريخ العريق والحياة العصرية النابضة، ما يجذب إليها ملايين الزوار من حول العالم، الذين يبحثون ويفتشون عن سحرها كل من منظوره الخاص.

محمد عجم (القاهرة )
يوميات الشرق يقول أحد العلماء إنه حل لغز «لعنة توت عنخ آمون» بعد أكثر من 100 عام (رويترز)

بعد 100 عام... دراسة تقدم تفسيراً لـ«لعنة مقبرة توت عنخ آمون»

مستويات الإشعاع السامة المنبعثة من اليورانيوم والنفايات السامة ظلت موجودة داخل المقبرة منذ أن تم إغلاقها قبل أكثر من 3000 عام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق أيقونات البشارة في متحف شرم الشيخ بمصر (وزارة السياحة والآثار المصرية)

معرض مصري للأيقونات القبطية يوثّق أحداث «عيد البشارة»

بجوار الركن البيزنطي في قاعة الحضارات بمتحف شرم الشيخ (شرق مصر)، نظمت إدارة المتحف معرضاً للأيقونات القبطية.

محمد الكفراوي (القاهرة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)