المسرح البريطاني... الصانع الأول لنجاح نجوم موسم الجوائز

التدريب بدا لفترة طويلة طقساً من طقوس العبور إلى مجال التمثيل

TT

المسرح البريطاني... الصانع الأول لنجاح نجوم موسم الجوائز

كيف كانت ستكون جوائز «غولدن غلوب» هذا العام من دون المسرح الإنجليزي؟ الإجابة: إنها كانت ستتقلص إلى حد كبير. حيث إنه - كما يتضح من خلال النظر إلى الفائزين جون بوييغا ودانيال كالويا (اللذان حصلا على جائزتي «أفضل ممثل مساعد في دور تلفزيوني» و«أفضل ممثل مساعد في فيلم»)، والمرشحين؛ مثل أوليفيا كولمان وكاري موليغان - قد جاءت مجموعة من المواهب الفائزة والمرشحة للفوز؛ مباشرة من مسرح لندن إلى الأعمال الفنية الأفضل في هوليوود.
كما تلقى كثير من الفائزين البريطانيين الآخرين في الحفل؛ الذي أقيم ليلة الأحد، تدريباتهم الأولى على المسرح نفسه. ورغم أننا قد نعرف الآن إيما كورين بوصفها أحدث شخصية جريئة بشكل كاف لتجسيد شخصية الأميرة ديانا، فإن الفائزة، البالغة من العمر 25 عاماً، بجائزة «أفضل ممثلة في مسلسل درامي» قد حصلت على كثير من الاعتمادات الدرامية أثناء دراستها في كامبريدج، كما تخرج النجم الذي شاركها العمل في مسلسل «Crown»، جوش أوكونور، وهو أحد الفائزين أيضاً، في «مدرسة مسرح بريستول أولد فيك» قبل أن يحول انتباهه إلى شاشة التلفزيون. وكان أوكونور يتوقع عودة رفيعة المستوى إلى مسرح لندن، العام الماضي، في إنتاج من قبل «المسرح الوطني» لرواية «روميو وجولييت»، ولكن بسبب وباء فيروس «كورونا»، أعيد تصور العمل من أجل العرض في التلفزيون مع طاقم عمل مليء بالنجوم، ومن المقرر أن يبث في بريطانيا والولايات المتحدة الشهر المقبل. وقد يكون غياب ميكايلا كويل قد استحوذ على الاهتمام في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب» لهذا العام، وذلك بعد أن جرى تجاهل عرض «HBO» الخاص بها «I May Destroy You» من قبل «جمعية الصحافة الأجنبية في هوليوود»، لكن رواد المسرح في لندن قد اكتشفوا موهبة كويل، خريجة «مدرسة جيلدهول»، من خلال المسرح الوطني، في أول عمل من تمثيل مجموعة نسائية بالكامل بعنوان «Blurred Lines» ثم في مونولوجها الخاص «Chewing Gum Dreams»، وهو مشروع كانت قد بدأت العمل فيه عندما كانت طالبة، وقد اختُصر هذا العنوان، وجرى توسيع مفهوم العمل في برنامج بعنوان «Chewing Gum»، وهو أول برنامج تلفزيوني تقدمه كويل، وقد وجدت موهبتها الطاغية، التي شوهدت لأول مرة من قبل مشاهدي «مسرح لندن»، الجمهور الأكبر الذي تستحقه الآن.
وفي الواقع، فإنه من خلال البحث عن تاريخ معظم أسماء نجوم التلفزيون والسينما البريطانيين، فإننا سنجد أنهم قد تدربوا في البداية على خشبة المسرح، كما يشعر معظمهم بالسعادة للعودة إلى العمل على المسرح مرة أخرى، ويفعلون ذلك بانتظام، مثل النجم السينمائي رالف فينيس، الذي كان شجاعاً واقتحم «مسرح لندن» العام الماضي خلال الفترة القصيرة التي كانت المسارح مفتوحة فيها أثناء الوباء، وذلك من خلال تقديم مسرحية ديفيد هير «التغلب على الشيطان»، التي ظهر فيها فينيس في دور كاتب مسرحي.
وتخرج فينيس، مثله مثل كثير من الممثلين المعروفين في بريطانيا، في «الأكاديمية الملكية للفنون المسرحية» المرموقة، وهناك اعتقاد سائد على نطاق واسع، على الأقل في بريطانيا، بأن المسرح يعطي الممثل نوعاً من التدريب يهيئه لمهنة تتطلب التنوع والمرونة (ناهيك بالتقنية)، وكلها أشياء مفيدة بالتأكيد على شاشتي التلفزيون والسينما وكذلك على المسرح، ولا يمكن لأحد أن ينكر أن التدريب المسرحي في لندن قد بدا لفترة طويلة طقساً من طقوس العبور إلى مجال التمثيل، مما يضفي الشرعية على أولئك الذين يخوضون تجربة العمل على المسرح الصعبة.
وجزء من متعة أنك ناقد مسرحي في بريطانيا هو تتبع رحلة الممثل من أنه ممثل محلي مفضل إلى نجم عالمي، وهو المسار الذي يحدث أحياناً في وقت لاحق من الحياة، فعلى سبيل المثال، كان إيان ماكيلين وجودي دينش معروفين لدى محبي المسرح في لندن قبل وقت طويل من عملهما على شاشة السينما في أعمال ضخمة مثل «لورد أوف ذا رينغز» و«إكس مين»، كما اكتسبا اهتماماً عالمياً هائلاً من خلال العمل في سلسلة أفلام «جيمس بوند».
لكن الطبيعة المتسارعة للشهرة في الوقت الحاضر هي أن الممثلين المسرحيين الإنجليز غالباً ما ينطلقون إلى هوليوود في العشرينات والثلاثينيات من أعمارهم، فقد كان كالويا على خشبة المسرح في «المسرح الملكي» هنا في مسرحية من تأليف روي ويليامز بعنوان «Sucker Punch» في 2010. ومنذ ذلك الحين، تلقى كالويا ترشيحاً لجائزة الأوسكار عن فيلم «Get Out» ويبدو أنه مرشح محتمل للترشيح الثاني هذا العام على خلفية فوزه الأخير في «غولدن غلوب» عن لعبه شخصية «فريد هامبتون» في «Judas and the Black Messiah». وأشعر بالسعادة الغامرة حينما أفكر في بعض الأعمال الفنية وما حدث للممثلين المشاركين فيها منذ ذلك الحين، فمن كان يتوقع أثناء العرض الأول بلندن في 2004 لمسرحية إدوارد ألبي «The Goat، or Who is Sylvia»، أن ممثلاً شاباً مفعماً بالحيوية في فريق التمثيل اسمه إيدي ريدماين سيحصل على جوائز «غولدن غلوب» و«أوسكار» بعد ما يزيد قليلاً على عقد من الزمن للعبه دور ستيفن هوكينغ في «The Theory of Everything».
ولكن هل يمكن أن يهدد الوباء هذه العملية التكافلية الموجودة بين السينما والمسرح؟ لا ليس لوقت طويل، خصوصاً إذا أعيد فتح المسرح هنا من مايو (أيار) المقبل فصاعداً، كما يأمل الجميع.
ولا يقتصر الأمر على ممثلي التلفزيون والسينما الإنجليزيين فقط في هذا الاتصال بمسرح هذا البلد، ولكن أيضاً بالمواهب الموجودة خارج الشاشة، فقد حقق الكاتب بيتر مورغان نجاحاً كبيراً في مسرح «ويست إند» و«برودواي» مع مسرحية «The Audience»، وهي مسرحية تدور حول الاجتماعات الأسبوعية للملكة إليزابيث الثانية مع رئيس الوزراء، قبل أن يحقق نجاحاً هائلاً في «The Crown” على شاشة «Netflix». كما نجح إميرالد فينيل، مرشح «غولدن غلوب» لإخراج فيلم «Promising Young Woman»، قبل فترة طويلة في مسرح «ويست إند» كاتباً للمسرحية الموسيقية «سندريلا»، وقد تبدو هذه المشاريع عوالم منفصلة تماماً عما يقدمونه اليوم، لكن قدرة المواهب الإنجليزية على التكيف لا توحي بذلك.
وفي الوقت الحالي، فإنني أنصح بمراقبة طاقم الممثلين بالكامل عندما يُسمح لنا بالعودة إلى حضور المسرحيات مرة أخرى، فأنت لا تعرف مطلقاً المكان الذي قد تظهر فيه المواهب المسرحية البارزة بعد ذلك، لكن يمكن لسكان لندن على الأقل أن يشعروا بالسعادة والرضا بسبب رؤية هذه المواهب في عروض حية ولأول مرة قبل صعودها سلم الشهرة.

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

شؤون إقليمية الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

يتناول الفيلم تأثير فساد نتنياهو على قراراته السياسية والاستراتيجية، بما في ذلك من تخريب عملية السلام، والمساس بحقوق الإنسان للشعب الفلسطيني.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
يوميات الشرق المخرج الإيراني أصغر فرهادي الحائز جائزتَي أوسكار عامَي 2012 و2017 (إدارة مهرجان عمّان السينمائي الدولي)

أصغر فرهادي... عن أسرار المهنة ومجد الأوسكار من تحت سماء عمّان

المخرج الإيراني الحائز جائزتَي أوسكار، أصغر فرهادي، يحلّ ضيفاً على مهرجان عمّان السينمائي، ويبوح بتفاصيل كثيرة عن رحلته السينمائية الحافلة.

كريستين حبيب (عمّان)
يوميات الشرق تمثال «الأوسكار» يظهر خارج مسرح في لوس أنجليس (أرشيفية - أ.ب)

«الأوسكار» تهدف لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار

أطلقت أكاديمية فنون السينما وعلومها الجمعة حملة واسعة لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار.

«الشرق الأوسط» (لوس انجليس)
يوميات الشرق الممثل الشهير ويل سميث وزوجته جادا (رويترز)

«صفعة الأوسكار» تلاحقهما... مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية تُغلق أبوابها

من المقرر إغلاق مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية بعدما شهدت انخفاضاً في التبرعات فيما يظهر أنه أحدث تداعيات «صفعة الأوسكار» الشهيرة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق أبطال المنصات (مارتن سكورسيزي وبرادلي كوبر) يغادران «أوسكار» 2024 بوفاضٍ خالٍ

هل تخلّت «الأوسكار» عن أفلام «نتفليكس» وأخواتها؟

مع أنها حظيت بـ32 ترشيحاً إلى «أوسكار» 2024 فإن أفلام منصات البث العالمية مثل «نتفليكس» و«أبل» عادت أدراجها من دون جوائز... فما هي الأسباب؟

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)