ماضي الحب والحرب يتصدر بجدارة مهرجان برلين

بداية واعدة في اليوم الأول منه‫ ‬

جوانا حاجي توما وخليل جريج
جوانا حاجي توما وخليل جريج
TT

ماضي الحب والحرب يتصدر بجدارة مهرجان برلين

جوانا حاجي توما وخليل جريج
جوانا حاجي توما وخليل جريج

أفلام اليوم الأول من الدورة 71 من مهرجان برلين السينمائي، الذي باشر أعماله في الأول من هذا الشهر، تذكير جيد بما كان الحال عليه في الدورات السابقة. أفلام جيدة في المسابقة وخارجها وبعض المتوسط في النجاح الفني، إنما المهم في مضمونه أو في أسلوب عمله.
لا شيء يختلف مطلقاً باستثناء أن هذه الأفلام كلها تفتقد صالاتها المعتادة. ما يشاهده النقاد والصحافيون من دورة هذا العام هو الأفلام معروضة كـ«لينكات» تطرق على أحدها فيطلع لك الفيلم لتراه.
المسألة تبدو بسيطة، لكن مهما كان حجم الشاشة التي في البيت، فإنها لا تُساوي حجم وقيمة الشاشة العريضة في أي من الصالات التي كانت هذه الأفلام تُعرض فيها حتى العام الماضي.
وحين يأتي الأمر إلى تقنيات العرض، فإن المُتاح هو درجات دنيا من إتقان عملية العرض. ما يصلك هو الجيل الثاني أو الثالث بعد تطويع الفيلم للإنترنت. التفاصيل واضحة في المشاهد النهارية. والليلية فعليك أن تضبط جهاز المونيتور المتصل بالكومبيوتر لكي ترى تلك التفاصيل. أما العرض على الكومبيوتر نفسه فيمثل نحو 70 في المائة فقط من القيمة التقنية التي صاحبت صنع الفيلم وتجهيزه.
مهرجان برلين في العام الماضي ارتأى تحدي بداية انتشار «كورونا»، وتمت بالفعل إقامته بالصورة التي يجب أن يُقام بها، والتي اعتاد عليها: أفلام + شاشة كبيرة + جمهور. ما تبقى هذا العام هو الأفلام فقط. حتى عدد الأيام التي استغرقتها الدورات الماضية قُلصت الآن إلى خمسة.
حتى في تلك الدورة الفعلية الأخيرة، عندما كان الوباء قد بدأ بالانتشار وعدد مستخدمي الكمامات ما زال محدوداً للغاية، بلغ عدد الذين قضوا أياماً في الفنادق في فترة المهرجان (الأسبوع الأخير من فبراير/شباط) 34 مليوناً و500 ألف ضيف، حسب إحصائية «جمعية فنادق ومطاعم برلين». بعد انتهاء المهرجان نزل الإقبال 77 درجة في المائة وطوال باقي أشهر سنة 2020 لم يزد عدد الوافدين للمدينة 12 مليون زائر.
لكن ما يشفع للمهرجان، لجانب إنه ليس من نشر الوباء، هو أنه رفض أن يطوي جناحيه، ويعتبر أن سنة 2021 كما لو أنها لم تكن. واختار الاستمرار بدوراته. أكثر من 170 فيلماً محشوراً في خمسة أيام ليس بالأمر الهين.

ذكريات حب
في عداد اليوم الأول تمت مشاهدة خمسة أفلام، أولها «دفاتر المرايا» (عنوانه التجاري المعتمد هو «صندوق الذكريات») للبنانيين جوانا حاجي توما وخليل جريج. دراما عن الحاضر والماضي حين يجدان نفسيهما مضطرين للعيش معاً داخل واقع وذكريات شخص واحد. حاد في صورته ومتقن في صوته وجيد الاختيار بصرياً فيما يعرضه من مشاهد، وكيف، ويميل إلى إطلاق طاقة جديدة لم يعمد لها من قبل المخرجين المتزوجين اللذين أمّا السينما منذ أكثر من 25 سنة.
«دفاتر المرايا» يبدأ في مونتريال، كندا. ثلاث نساء (الجدة، الأم، الابنة) متحابات في مطلع الفيلم. الجدة (كليمانس صباغ) والأم (ريم تركي) مرتبطتان بالهجرة القسرية من لبنان أثناء الحرب الأهلية. الفتاة لا تعرف الكثير عن تلك الحرب ولا عن أمها خلال الفترة. عندما يصل صندوق الأسرار إلى المنزل يحدث هزة في العلاقات بين الثلاثة، تقرر الجدة خلالها ترك منزل ابنتها عائدة إلى بيتها في المدينة ذاتها.
في مشهد مبكر يصل الصندوق بالبريد وعليه عنوان المرسل من فرنسا. إنها صديقة للأم اسمها ليزا التي هاجرت وأهلها إلى فرنسا عندما اشتدت وطأة الحرب الأهلية. ليزا بعثت بالصندوق، الذي يحمل رسائل وأفلاماً وأشرطة تسجيل وصوراً ووثائق تخصها. بعد كل هذه السنوات يعود الصندوق إليها. ليزا ماتت بحادثة سيارة وعائلتها لم تر بداً من إرسال الصندوق إلى الأم مايا في مونتريال.
ابنتها أليكس فضولية. هي لا تعرف شيئاً عن الحرب ولا عن ماضي الأم فتسرق محتويات الصندوق وتطلع عليها وما تراه وتسمعه هو ما نراه ونسمعه عن أمها مايا خلال تلك الحرب. هي أحبت، في وطيس المعارك، شاباً من طائفة أخرى اسمه رجا (حسان عقيل) حين كانت فتاة صبية (تؤديها في تلك الفترة منال عيسى). أهلها بالطبع حذروها لكنها، وبالطبع أيضاً، لم تكترث. هذا إلى أن صُدمت بانتماء رجا إلى فصيل مقاتل.
قبل هذا الانتماء وبعده، الفيلم هو قصة ذكريات منسابة من فترة كان يجب أن تكون طبيعية تمر بها كل فتاة وشاب في مقتبل العمر. ذكريات حب لم يكتمل. غاب رجا طويلاً فاعتقد الجميع بأنه مات؛ لكنه في مراسيم جنازة والد ميا وجدته كان حاضراً. وبحضوره سد الفراغ الذي تبع غيابه في حياتها ولو أن ميا وأمها قررتا مغادرة لبنان.

حب وحرب
هناك أفلام لبنانية عديدة تناولت الحرب الأهلية. في الواقع معظم ما أُنتج من أفلام لبنانية، روائية أو غير روائية، كان عن تلك الحرب أو تبعاتها الحاضرة. لكن «دفاتر مايا» مختلف بالطريقة التي اختارها الزوجان لمعالجة حكاية رومانسية تتداخل فيها وقائع اليوم وصفحات الهروب من الأمس من ثم اللقاء المتجدد به عبر مشاهد تنتقل بنا إلى ذلك الماضي. بعض ما نراه، حسب ما أدلت به المخرجة حاجي توما، نابع من ذكرياتها، لكن التوليفة التي تعمدت وزوجها إليها لا تترك المجال للقول بأن هذا الفيلم هو سيرة حياة أحد، بما فيها سيرة حياتها هي.
يعمد المخرجان لتفعيل طاقة كبيرة لعملهما. في الأساس عملهما مكتوب جيداً ومشغول فيما بعد على نحو صادق ومخلص في رغبة الفيلم التمتع بكل ما يستطيع التمتع به من ثراء المشاهد والأحاسيس المعبر عنها بالصور وليس فقط بالكلمات. هناك ما هو مبتكر في صياغة بعض المشاهد (مايا ورجا يركض كل منهما بلقطتين منفصلتين)Split Screen) ) تجاه بعضهما البعض ولا يصلان. خلفهما في اللقطتين بيروت مهدمة ومنهوبة الحاضر والمستقبل.
بيروت هي ثقل مهم في هذا الفيلم - الذاكرة. من خلال ذكريات أو دفاتر مايا تطالعنا المدينة وما شهدته من معارك. تتحرك مشاهد الماضي من الصور الثابتة. الشخصيات تتحدث بعد التحديق بها حين تطالع أليكس أو والدتها بالصور المُتاحة. والمشاهد شديدة الارتباط بحيوية الحياة قبل وفي مطلع سنوات الحياة. هناك موسيقى وشباب ورقص وحيوية عيش. هذا كله ينضوي تباعاً عندما تشتد القذائف. يموت الأب. يموت الشقيق وتجد العائلة نفسها عارية أمام الخطر كشأن كل الأبرياء في تلك الآونة.
يتحاشى المخرجان انتقاد أي فريق. لا يمكن فعل ذلك والأمل بفيلم يتجاوز المحن أو يرمي نظرة ممعنة عليها. رؤية، وبالتالي معالجة خليل جريج وجوانا حاجي توما مزدوجة: في حين أنهما يريدان إبلاغ قصة حب على خلفية حرب مكروهة، لا يسعيان مطلقاً للتساهل بأمر الحلول الفنية التي يتطرقان إليها. لجانب المشاهد المبتكرة آنفاً، هناك سلاسة الانتقال والربط بين الماضي والحاضر. وهناك تآلف بين مقاسات التصوير المختلفة (35 مم و16 مم بالإضافة إلى ما يبدو أنه صُور كوثائق بنظام سوبر 8).
كفيلم مسابقة في مهرجان أول، سيبقى الفيلم طويلاً في بال لجنة التحكيم بلا ريب. سيعود أعضاء اللجنة إليه في مناقشاتهم وسيجدون أنه من الصعب تجاهله حين التصويت.


مقالات ذات صلة

وفاة الممثل البريطاني راي ستيفنسون نجم «ثور» و«ستار وورز»

يوميات الشرق الممثل البريطاني راي ستيفنسون (أ.ب)

وفاة الممثل البريطاني راي ستيفنسون نجم «ثور» و«ستار وورز»

توفي الممثل البريطاني راي ستيفنسون الذي شارك في أفلام كبرى  مثل «ثور» و«ستار وورز» عن عمر يناهز 58 عامًا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «إسماعيلية رايح جاي» يشعل «الغيرة الفنية» بين محمد فؤاد وهنيدي

«إسماعيلية رايح جاي» يشعل «الغيرة الفنية» بين محمد فؤاد وهنيدي

أثارت تصريحات الفنان المصري محمد فؤاد في برنامج «العرافة» الذي تقدمه الإعلامية بسمة وهبة، اهتمام الجمهور المصري، خلال الساعات الماضية، وتصدرت التصريحات محرك البحث «غوغل» بسبب رده على زميله الفنان محمد هنيدي الذي قدم رفقته منذ أكثر من 25 عاماً فيلم «إسماعيلية رايح جاي». كشف فؤاد خلال الحلقة أنه كان يكتب إفيهات محمد هنيدي لكي يضحك المشاهدين، قائلاً: «أنا كنت بكتب الإفيهات الخاصة بمحمد هنيدي بإيدي عشان يضحّك الناس، أنا مش بغير من حد، ولا يوجد ما أغير منه، واللي يغير من صحابه عنده نقص، والموضوع كرهني في (إسماعيلية رايح جاي) لأنه خلق حالة من الكراهية». واستكمل فؤاد هجومه قائلاً: «كنت أوقظه من النوم

محمود الرفاعي (القاهرة)
سينما جاك ليمون (يسار) ومارشيللو ماستروياني في «ماكاروني»

سنوات السينما

Macaroni ضحك رقيق وحزن عميق جيد ★★★ هذا الفيلم الذي حققه الإيطالي إيتوري سكولا سنة 1985 نموذج من الكوميديات الناضجة التي اشتهرت بها السينما الإيطالية طويلاً. سكولا كان واحداً من أهم مخرجي الأفلام الكوميدية ذات المواضيع الإنسانية، لجانب أمثال بيترو جيرمي وستينو وألبرتو لاتوادا. يبدأ الفيلم بكاميرا تتبع شخصاً وصل إلى مطار نابولي صباح أحد الأيام. تبدو المدينة بليدة والسماء فوقها ملبّدة. لا شيء يغري، ولا روبرت القادم من الولايات المتحدة (جاك ليمون في واحد من أفضل أدواره) من النوع الذي يكترث للأماكن التي تطأها قدماه.

يوميات الشرق الممثل أليك بالدوين يظهر بعد الحادثة في نيو مكسيكو (أ.ف.ب)

توجيه تهمة القتل غير العمد لبالدوين ومسؤولة الأسلحة بفيلم «راست»

أفادت وثائق قضائية بأن الممثل أليك بالدوين والمسؤولة عن الأسلحة في فيلم «راست» هانا جوتيريز ريد اتُهما، أمس (الثلاثاء)، بالقتل غير العمد، على خلفية إطلاق الرصاص الذي راحت ضحيته المصورة السينمائية هالينا هتشينز، أثناء تصوير الفيلم بنيو مكسيكو في 2021، وفقاً لوكالة «رويترز». كانت ماري كارماك ألتوايز قد وجهت التهم بعد شهور من التكهنات حول ما إن كانت ستجد دليلاً على أن بالدوين أبدى تجاهلاً جنائياً للسلامة عندما أطلق من مسدس كان يتدرب عليه رصاصة حية قتلت هتشينز. واتهم كل من بالدوين وجوتيريز ريد بتهمتين بالقتل غير العمد. والتهمة الأخطر، التي قد تصل عقوبتها إلى السجن خمس سنوات، تتطلب من المدعين إقناع

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
سينما سينما رغم الأزمة‬

سينما رغم الأزمة‬

> أن يُقام مهرجان سينمائي في بيروت رغم الوضع الصعب الذي نعرفه جميعاً، فهذا دليل على رفض الإذعان للظروف الاقتصادية القاسية التي يمر بها البلد. هو أيضاً فعل ثقافي يقوم به جزء من المجتمع غير الراضخ للأحوال السياسية التي تعصف بالبلد. > المهرجان هو «اللقاء الثاني»، الذي يختص بعرض أفلام كلاسيكية قديمة يجمعها من سينمات العالم العربي من دون تحديد تواريخ معيّنة.


100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)