دبلوماسية تحتاجها الجامعة العربية في مرحلة استثنائية

سألني صديق دبلوماسي كان سفيراً لبلده في القاهرة: هل لديك مبررات لقيام مصر بترشيح السيد أحمد أبو الغيط، أمين عام جامعة الدول العربية لفترة ثانية؟
فأجبته بسؤال: ومن في رأيك يستطيع العبور بالجامعة العربية من ضباب هذه المرحلة؟
لم أنتظر إجابته وواصلت كلامي معه: التوقيت فارق، والتحديات كبرى، وحالة توحش غير مسبوقة من جيران العرب، والأدخنة كثيفة حول المنطقة، ومصادرها متنوعة، وجماعات ضغط تعيد الإعلان عن نفسها من جديد، وتنظيمات إرهابية تحاول إعادة تموضعها داخل العواصم العربية، والأيام المقبلة استثنائية من عمر الجامعة، والعبور بها يحتاج إلى مواصفات دبلوماسية ومهارات سياسية خاصة... أحمد أبو الغيط نموذج مثالي لمواصلة المهمة.
ثقة القاهرة بهذا الترشيح، تأتي في سياق حرصها على جميع العواصم العربية. أبو الغيط قادم من قاموس الحكمة، ومشواره العملي «وديعة» في بنوك الدبلوماسية، و«فوائدها» يمكن استثمارها على مختلف الأصعدة، ولا يعرف لليأس طريقاً، وفي أحلك الظروف التي مرت بها المنطقة، كان يرى أن شعاع أمل قادم لصالح هذه الأمة، وابن مدرسة تؤمن بضرورة العروبة كمهمة سياسية واستراتيجية، وناجح بامتياز في تحويل التحديات إلى فرص، وأحد عتاة التفاوض على نار هادئة، واستطاع توحيد الرؤية بين الأغلبية العظمى للعواصم العربية، ويسكن عقله وقلبه انحياز كامل ورؤية عميقة لأهمية الجيوش العربية، وحتمية صون الأمن القومي العربي، وفي وقت مبكر من عمره كان شاهداً على كواليس وأسرار الحرب والسلام، فصارت لديه خبرة المايسترو لتحقيق مكاسب للجميع.
قام خلال السنوات الخمس الماضية بعمل تحديث جامعة الدول العربية، واللحظة الراهنة تتطلب دبلوماسياً بمواصفات خاصة يمتاز بالمهنية. أبو الغيط تميز بعلاقات جيدة مع كل الدول العربية، وينتمي لمدرسة الدبلوماسية المصرية العريقة، التي تمزج بين الدبلوماسية الثنائية والمتعددة الأطراف، ورجل له ميراث قوي في الدبلوماسية الدولية، وأصقلتها خدمته في عواصم صناعة القرار في الغرب، وزاد صقلها بالعمل في دهاليز الأمم المتحدة، وله آراء ومواقف قالها علانية أمام الجميع، وخصوصاً منذ أحداث ما يسمى الربيع العربي عام 2011، إذ إنه قرأ مبكراً، بل وحذر من مغبات هذه الفوضى وتداعياتها، وعبر في «شهادته» بوضوح عن خسائر دول الإقليم العربي بشرياً، واقتصادياً، واجتماعياً ودبلوماسياً، ولديه حمية وطنية على الأشقاء العرب وأمنهم القومي، حين يتعلق الأمر بالتدخلات الإقليمية، كالتدخلات التركية والإيرانية في الشأن العربي. من يقرأ خطاب أبو الغيط خلال مسيرته، لا سيما الفترات الصعبة الماضية، قطعاً سيتأكد له ثقته الكاملة بفكرة الحفاظ على الدولة الوطنية العربية، فهو مقاتل شرس إذا ما تعلق الأمر بوحدة الدول العربية وسلامتها. ترشيح القاهرة لا يعكس فقط كفاءة ومهنية رجل دبلوماسي مثل أبو الغيط، وإنما يؤكد مدى الحرص الشديد والعميق من القاهرة، للحفاظ على مؤسسة جامعة الدول العربية باعتبارها كياناً يعبر عن السياسة العربية داخل الإقليم وخارجه، ولتأكيد أن العرب يستطيعون الحفاظ على مؤسسة هي الأقدم في العالم، فهي أقدم من الأمم المتحدة بستة أشهر، وأقدم من الاتحاد الأوروبي بست سنوات، وأقدم من الاتحاد الأفريقي بسبع وخمسين سنة، ومن ثم فإن الحفاظ عليها، والدفع بشخصيات قوية لها مبررات تاريخية، صار واجباً وطنياً وعروبياً.
وأرى أن أبو الغيط واحد من هذه الشخصيات المتمرسة في العمل السياسي والدبلوماسي الطويل، عبر رحلة شهدت تعقيدات بالغة، ربما هددت في بعض الأحيان وجود الجامعة العربية كمنظمة تربط أواصر العالم العربي، قيل ما قيل عن أداء هذه الجامعة، منذ أن تناوب على رئاستها ثمانية أمناء، بدءاً من عبد الرحمن عزام، وصولاً للأمين الحالي أبو الغيط، لكن تظل الشهادة التاريخية في سجلات الجامعة تشهد أن السنوات الخمس الماضية هي الأصعب في مسيرة العمل العربي، وبالتالي نستطيع القول إن من نجح في العبور بسفينة الجامعة العربية والحفاظ عليها في أحلك الظروف، من المؤكد أنه يملك فرصاً أكبر للنجاح في الفترات المقبلة، فأبو الغيط يملك رصيداً كبيراً من العلاقات السياسية والدبلوماسية والمهنية مع مختلف المدارس الدبلوماسية العربية، بضفتيها في المشرق والمغرب، وهذا يؤشر بأن الجامعة العربية سوف تعكس كل الاهتمامات والشواغل العربية. من يغوص في فلسفة وعمق ومعنى العمل الدبلوماسي يكتشف أن أبو الغيط لديه قناعة كاملة بأن التحديات والأزمات التي تواجه العالم العربي في المرحلة الراهنة، التي تتفاعل معها الجامعة العربية، تختلف عن سائر الأزمات التي مرت به من قبل. فالتغيرات الجارية، على الصعيدين الدولي والإقليمي، جعلت التحدي الأكبر ليس الاستعمار الخارجي، بل التناحر الداخلي والحروب الأهلية، مما أنتج أزمات وقفت العديد من المنظمات والقوى الدولية أمامها عاجزة. ثم أتت تدخلات من خارج المنطقة العربية لتفاقم من هذه النزاعات، بزرع بذور الشقاق والفتن، كي تعمق الأزمة وتطيل أمدها، فتحقق بذلك أطماع هذه القوى، وبخاصة من بعض جيران العالم العربي في الأراضي والثروات العربية.
المتغيرات المتلاحقة والسريعة تقول إن العرب لن يكونوا إلا بالوحدة العربية، وتقارب المواقف والعمل بضمير قومي جماعي لمواجهة المخططات التي تحاك للمنطقة من مصادر عديدة سواء على المدى المنظور أم المدى البعيد والاستراتيجي، ودائماً ما أتذكر حديثه لي، بأن الجامعة العربية ظلت عبر تاريخها «بيتاً للعرب»، وبقيت أداة تمكنهم من مواصلة العمل الجماعي، من أجل تحقيق أهدافهم المشتركة. واليوم في ظل التحديات التي تواجهنا، لا بد لنا من وقفة مع النفس، لمواجهة أسئلة مهمة تطرحها علينا تغيرات واقعنا المعاصر، لعل أبرزها يتعلق بكيفية إسهام هذه المنظمة في رسم معالم مستقبل أفضل لهذه الأمة، وسط التحديات التي تحيط بنا، وتفرض نفسها علينا.