يقام حالياً في «مركز جميل للفنون»، مؤسسة الفن المعاصر في دبي، معرض «هل تتذكرون ما تحرقون؟»، وهو المعرض المنفرد الأول للفنان الكردي هيوا ك، في آسيا والشرق الأوسط، والذي يلقي الضوء على أكثر من عشر سنوات من أعمال الفنان الذي يستحضر في العديد من أعمال المعرض مسقط رأسه، مدينة السليمانية في كردستان العراق، وتجاربه في الفرار لاجئاً، ومن ثم العودة بعد سنوات طوال.
الحديث مع الفنان هيوا ك، يتشعب ويطرق أبواباً كثيرة ويثير شؤوناً وشجوناً لدى الفنان. وما بين الوطن الذي اضطر الفنان إلى مغادرته في التسعينات، وما بين السياسة التي حكمت عالمه وأثرت على عمله، ينطلق حوارنا.
المعرض هو الأول للفنان في المنطقة العربية بعد نجاحات حققها في أوروبا، وهو ما يمدني بسؤالي الأول عن إحساسه بمعرضه العربي الأول. يجيب «أنا مرتاح للعرض هنا لأن أعمالي كلها مرتبطة بالمكان والسياسة»، ويشير إلى أنه شارك من قبل في عرض موسيقي في عمان بالأردن «إحساس جميل أن ألتقي أناساً قريبين من ثقافتنا، وشيء يسعدني أن أتلقى التقدير من منطقة أنتمي إليها».
أسأله إن كان عرض أعماله في العراق من قبل، ولكن نبرة الحسرة تلون إجابته «دائماً آخر بلد تقدرك هو بلدك!»
أعمال هيوا ك عراقية وكردية صميمة، من المادة الخام إلى الموضوعات.
كما يهتم الفنان بالعمل الفني يهتم بالموسيقى أيضاً؛ فهو درس الموسيقى في أوروبا وجذبه فن الفلامنكو ورأى فيه امتداداً لثقافته وتعبيراً عن التنقل بين البلدان. يتحدث عن علاقة خاصة مع هذا الفن، «موسيقى الفلامنكو مثل شجرة صغيرة نقلتها الريح من كردستان وأوصلتها إلى إسبانيا، حيث مدت جذورها». يعود لتاريخ الفلامنكو الذي يربطه بالموسيقي الأندلسي زرياب، «زرياب ترك العراق ولجأ للأندلس حيث أضاف مقام (كرد) لآلة العود، وأسّس أول مدرسة موسيقية». ويضيف «تأريخ الفلامنكو يعود لزرياب، البعض يقول موصلياً وآخر يقول بغدادياً، والأكراد يقولون اسمه زوراب (كردي). عندما ترك العراق بعد تهديده بالقتل أخذ العود وذهب إلى قرطبة وأسس أول مدرسة موسيقية، ومن هذه المدرسة أعتقد وغيري كثيرون يعتقدون أن أعمال زرياب كانت بداية الفلامنكو. كل أعمالي بها إشارة إلى ذلك، بأن لدينا مساهمة في الغرب». بشكل ما يرى الفلامنكو وخلفيتها الثرية لها علاقة بالهجرة، ويشرح لي أكثر «موسيقى الفلامنكو خليط موسيقي، تأخذ من أفريقيا، ومن الغجر الذين هاجروا من الهند ومروا ببلادنا خلال عصور مضت وأخذوا الموسيقى معهم، وأيضاً تأخذ من الموسيقى الإسبانية الفلكلورية. هذا الوقت كان هناك جو ديمقراطي في قرطبة، كان كل شخص يستطيع التعبير عن أدبه وفنه، وهذه الحالة ساعدت على انتشار الفلامنكو».
الهجرة والنزوح شكلت هيوا ك الإنسان والفنان، يروي أنه غادر وطنه في التسعينات «أتذكر أني وأصدقاء قررنا مغادرة البلاد، وأتذكر سماع أن 28 شخصاً كانوا يحاولون الفرار قتلوا على الحدود، وقتها قلت (إذا نطلع نطلع وإذا متنا أحسن... كنا جيلاً ضائعاً)».
أقول له «قرأت تعبيراً لك بأن كردستان مثل البيتزا المقطعة إلى أربعة أقسام». يقول «كردستان مثل قرص البيتزا، 40 مليون شخص ليس لدينا دولة ونعيش كأقليات في دول. ولكن وضعنا أيضاً به احتمالات كثيرة، فكردستان مثل الوادي والدول المجاورة لها مثل الجبال؛ فكل الثقافة والتقاليد والأكلات كلها تنحدر عندنا، كشخص كردي أنت تتحدث بلغات كثيرة وعندك مزج لثقافات كثيرة، أنا فخور بكوني كردياً».
من الأعمال المعروضة مجسم تفاعلي على هيئة جرس نحاسي ضخم، يحمل نقوشاً آشورية، ومنها الثور المجنح. للجرس قصة وأبعاد مختلفة وطبقات مختلفة من المعاني. يأخذني الفنان معه في رحلة تنفيذ العمل الذي عرضه في بينالي فينيسيا للفنون عام 2016. فكرة صنع الناقوس كانت البداية؛ ولصنعه لجأ إلى شخص يعمل في صهر الأسلحة الأميركية المهملة في كردستان، يجمعها من الحدود مع إيران وتركيا، يجتمع لديه أنواع الأسلحة المختلفة والألغام ليصهرها في قوالب يبيعها بعد ذلك للصين وإيران، «كنت متأثراً بالمعرفة التي تكونت لديه، كان يمثل أرشيفاً كاملاً عن الحرب وعن المنطقة؛ لأنه يعرف الكثير عن كل قطعة سلاح مصدرها، وأين تستخدم، وفي أي حرب استخدمت وتأثيرها على البشر».
ولكن فكرة الناقوس نفسها لها أبعاد أخرى، فحسب ما يقول لي وجد عبر أبحاث أن حكام أوروبا في العصور الوسطى خلال الحروب كانوا يلجأون لصهر نواقيس الكنائس لصنع المدافع.
المعلومة دعته للبحث مجدداً عن الورش التي يمكنه صنع ناقوسه النحاسي، وبالفعل وجد واحدة في إيطاليا عمرها 700، وأثارته معلومة أن تاريخ الورشة وسر الصنعة فيها يعود لحرفي إيطالي كان يعمل في ترسانة الأسلحة (آرسنالة) في فينيسيا ويعمل في صنع المدافع واضطر إلى الهرب من فينيسيا بسبب مشكلة سياسية وانتقل إلى ميلانو، حيث استغل معرفته في صنع النواقيس. من الموحي أن ناقوس هيوا ك عرض على أرض آرسناله في بينالي البندقية.
تبدو قصة صناعة ناقوس بمثل حلقات متشابكة، وهو ما يسهم في تكوين طبقات ثرية من المعاني. يرى أن في صنعة الناقوس النحاسي من بقايا أسلحة غربية أمراً ذا دلالة خاصة «كان مهماً بالنسبة لي أن أصنع الناقوس وأعرضه في أوروبا، الغرب يصنعون أسلحة ويصدّرونها لدولنا، بهذه الطريقة عندما نصهر سلاحاً ونعيده لأوروبا لنصنع منها ناقوساً، نذكرهم. بطريقة ساخرة، أريد أن يعرف الناس أن من صنع حروبنا هو الغرب».
عمل آخر في العرض يجذبني للحديث عنه واسمه «دمار مشترك»، ويتكون من بساط مطبوع عليه صورة جوية لمدينة بغداد. العمل نفذه بتكليف من «مركز جميل للفنون»، لكنه يومئ لعمل سابق للفنان اسمه «نظرة من أعلى». يقول «أول مرة نفذت العمل كانت في مدينة مانهايم الألمانية، ولديهم أكبر معمل للمواد الكيمائية»، يربط بين ذلك وبين الأسلحة الكيمائية التي استخدمها صدام حسين ضد حلبجة وكانت ألمانية الصنع، «طبعت على سجادة كبيرة صورة جوية للمدينة الألمانية التقطها طيار نازي في عام 1943». وتمت دعوة الجمهور للجلوس على السجادة ومشاهدة الفيلم المصاحب، «ذكّرناهم بمدينتهم التي دمرت في ذلك الوقت، لكنها الآن تشارك في تدمير بلاد أخرى. وفي عملي الحالي هنا أتحدث عن مدينة من العراق ولكن بالفيديو نرى مدينة كاستل التي دمرت في الحرب العالمية الثانية، والآن لديها مصنع كبير للأسلحة يصدر منها للعراق».
* معرض «هل تتذكرون ما تحرقون؟» يستمر في «مركز جميل للفنون» بدبي إلى 24 يوليو
(تموز) 2021.