دون ديليللو... رواية جديدة أشبه بـ«الكارثة»

أنجزت قبل أسابيع من ظهور وباء «كوفيد ـ 19»

دون ديليللو... رواية جديدة أشبه بـ«الكارثة»
TT

دون ديليللو... رواية جديدة أشبه بـ«الكارثة»

دون ديليللو... رواية جديدة أشبه بـ«الكارثة»

في أحد أيام العقد الأول من الألفية الجديدة، جاء زميل في قسم مراجعات الكتب في «نيويورك تايمز»، يدعى دي. جيه. آر. بروكنر، لكنه يعرف بيننا جميعاً باسم دون، إلى مكتبي الصغير. كان دون طويل القوام للغاية وظهره منحنياً بعض الشيء، بجانب تميزه بذراعين وساقين طويلتين وضخمتين، وكان على قائمة خصوم نيكسون. وكان جسده يرتجف بوضوح وأشار إلى يميني. وقال لي: «إذا ما اضطررت لقراءة 2.000 كلمة أخرى من مراجعة كتاب جون أوبديك، سألقي بنفسي من هذه النافذة». وتفوه بألفاظ بذيئة كثيرة لا مجال لذكرها هنا.
في المقابل، نجد أن دون ديليللو، على النقيض من أوبديك، لم يغمرنا بإنتاجه الأدبي المفرط. وتعتبر روايته الرشيقة الجديدة «الصمت» الـ17 عشر في مسيرته الأدبية منذ إطلاقه روايته الأولى «أميركانا» منذ قرابة 50 عاماً ماضية. ومع ذلك، راودني تجاهه شعور مشابه لما راود زملائي بخصوص أوبديك: عدم الفضول إزاء قراءة قطعة بحثية أخرى حول أعماله.
ولا أقصد من وراء ذلك أن أعمال ديليللو غير جديرة ببحثها وتفحصها، فهو قبل كل شيء كاتبنا الأول عن مشاعر البارانويا والخوف. إنه رجل نجح في سبر أغوار الحالة المزاجية السائدة في عصره، الأمر الذي يعد عنصراً حيوياً في صعود أي كاتب وبلوغه ذروة النجاح. في الواقع، إنها لمهمة رائعة يتمناها أي شخص أن يتولى مراجعة أعماله، وهو شخص يتسابق النقاد للفوز بهذه المهمة. ويسعى كل ناقد بدأب لنيل شرف مراجعة أحد أعماله تماماً مثلما يحلم كل ممثل إلى الاضطلاع بدور هاملت. وداخل ذهني، ما أزال احتفظ بالكثير من المراجعات الطموحة التي اطلعت عليها.
ومن أجل ذلك، لا أرغب في قراءة المزيد من مثل هذه المراجعات، وسأحاول ألا أكتب واحدة بنفسي أنا أيضاً.
وإذا ما انتقلنا إلى رواية ديليللو الجديدة، سنجد أنها أقرب إلى كارثة تحمل في طياتها نغمات مروعة. في الحقيقة أراها شبيهة بروايات ستيفين كينغ. وتدور أحداث الرواية حول طائرة متجهة من باريس إلى نيوارك في نيوجيرسي، وتتحطم على الأرض. وتحمل هذه الطائرة اثنتين من الشخصيات الرئيسية في الرواية، واللتين تنجوان من الحادث. وفجأة، تنقطع جميع شبكات الطاقة بمختلف أرجاء العالم. وهنا، تشتعل في ذهن القارئ التساؤلات: هل يقف وراء ذلك كائنات فضائية؟ أو الصينيون؟ أو الشخصية المجهولة المعروفة باسم «الجوكر»؟ أو «كيو أنون»؟
في الواقع، ديليللو الذي رسم ملامح «حادثة كيماوية سامة محمولة جواً» في روايته «الضوضاء البيضاء» (وايت نويز) (1985)، لديه باع طويل في رسم سيناريوهات من هذا القبيل. ومع انقطاع الكهرباء، يقول رجل ما فيما يتماشى مع فكرة عامة ظهرت في تقريباً جميع كتب ديليللو: «حالة نصف الظلام، إنها في مكان ما في العقل الجمعي. ولحظة التوقف، والشعور بأنك عايشت مثل هذا الأمر من قبل. هذا النمط من الانهيار الطبيعي أو الغزو الأجنبي. الشعور بالتحوط الذي نرثه عن أجدادنا أو أسلاف أسلافنا أو ما ورائهم. الناس في قبضة خطر داهم».
تدور أحداث رواية «الصمت» في المستقبل، في يوم «سوبر باول صنداي» عام 2022. ويتوقع ديليللو أن يشهد ذلك اليوم مواجهة ما بين «تايتانز» وسيهوكس». ويخطط اثنان من الأزواج الأثرياء تجمعهما علاقة صداقة قديمة التجمع معاً لمشاهدة المباراة على تلفزيون يتميز بشاشة بالغة الضخامة في شقة في مانهاتن.
النبأ السار بخصوص رواية «الصمت» أنها شديدة الإثارة، ومع بلوغه الـ83 ما يزال ديليللو محتفظاً بذات القدر من الاهتمام والحرص إزاء بناء الجمل والتراكيب مثلما كان دوماً. ومثل الجميع، أشعر بالانجذاب تجاه قصص الطائرات المحطمة ونهاية العالم. وعلى مدار الجزء الأكبر من الوقت، نجح ديليللو في الاستحواذ على اهتمامي، ولم أشعر بالندم ولو للحظة واحدة على الشروع في قراءة هذه الرواية.
أما النبأ السيئ هنا فهو أن الرواية لا تخلو من التظاهر والتكلف الذي تحول إلى سمة مميزة للأعمال الأخيرة لديليللو. الحقيقة أنه خلال أول فصلين، تبدو رواية «الصمت» عملاً أدبياً يدور حول كارثة. وبالنظر إلى أن عدد صفحاتها لا يتجاوز 117 صفحة فقط، يسيطر على القارئ شعور بأنها انتهت قبل حتى أن تبدأ.
في روايته «زيرو كيه»، الصادرة عام 2016. كتب ديليللو: «نصف العالم يعيد تجديد المطبخ، بينما النصف الآخر يتضور جوعاً». هنا، تنتمي الشخصيات إلى النصف الذي يعيد تجديد المطبخ من العالم. ويستغل ديليللو المباراة كأداة لتناول واحدة من الموضوعات المألوفة: نزوات الاستهلاك العام.
تجري فعاليات المباراة داخل ما أشارت إليه إحدى الشخصيات بأنه «نيزل ديكونجستنت ميموريال كوليسيوم» (مدرج النصب التذكاري لاحتقان الأنف). وتقول ديان، التي تعمل طبيبة، عن زوجها: «ماكس لا يتوقف عن المشاهدة. لقد تحول إلى مستهلك ليست لديه نية في شراء شيء. وبإمكانه مشاهدة 100 إعلان خلال الساعات الثلاثة أو الأربعة القادمة».
تنتظر ديان وماكس وصول جيم وتيسا القادمين من باريس. إلا أن الطائرة التي تقلهما تفقد طاقتها في الجو في منتصف الرحلة، على نحو يشبه ما حدث لطائرة ويليام هيرت على نحو مثير للفزع في أعقاب تحطم قمر صناعي يعمل بالطاقة النووية في رواية «حتى نهاية العالم» (أنتيل ذي إند أوف ذي وورلد) لويم ويندرز.
وأثار تعليق ديليللو عن الطائرة وهي في منتصف رحلتها جملة كنت قد قرأتها في كتاب «المسكون» للكاتبة إليف باتومان: «السفر جواً يشبه الموت: فهو يأخذ كل شيء منك». ينجو جيم وتيسا من تحطم الطائرة بعد أن تعرضا لإصابات بسيطة. وينجحا في شق طريقهما عبر الشوارع التي يخيم عليها الظلام، على نحو يبدو غير منطقي بعض الشيء، حتى يصلا إلى حفلة الـ«سوبر باول».
جدير بالذكر هنا أن كتابة رواية «الصمت» أنجزت قبل ظهور وباء فيروس «كوفيد - 19»، ومع هذا فإن أجواءها النفسية تبدو ملائمة للحظة الراهنة. إننا مثلما كتب ديليللو: «نرافق بعضنا البعض عبر هذه الحالة من الأرق الجماعي في فترة لا يمكن تصورها».
والملاحظ أن غياب المعرفة يفسح الطريق أمام حالة من البارانويا والخوف الشديد ـ سمات لطالما بثها ديليللو في أعماله الخيالية.
أما الفكرة الكبرى وراء هذه الرواية فتعتمد على عبارة شهيرة لإينشتاين: «لا أدري بأي أسلحة سيجري خوض الحرب العالمية الثالثة، لكن المؤكد أن الحرب العالمية الرابعة ستكون بالعصي والحجارة».
بوجه عام، يمكن القول بأن رواية «الصمت» تنتمي للأعمال الأدنى مستوى لديليللو. ومع أن الأجيال القادمة ستكون رحيمة في حكمها عليه، فإنها في الغالب لن تتعامل مع هذه الرواية على محمل الجد.
في ثنايا الرواية، يوحي ديليللو بأن الوجود الإنساني ملعون في جوهره هذا، وأن: «الحياة يمكن أن تصبح على قدر بالغ من الإثارة لدرجة تنسينا خوفنا منها».
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

أمين الريحاني
أمين الريحاني
TT

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

أمين الريحاني
أمين الريحاني

لئن عبّر أمين الريحاني، لا سيّما في مطالع شبابه، عن ميول طبيعيّة وتأمّليّة ذات مصدر رومنطيقيّ، فإنّ ما يبقى ويرسخ من أدبه، ومن تكوينه كأديب وكإنسان، شيء مختلف.

فبالمقارنة مع جبران خليل جبران الذي يصغره بسبع سنوات، والذي شاركه تجربة الهجرة المبكرة إلى الولايات المتّحدة، نجدنا حيال افتراق بارز: فمع جبران، هناك موقف ذو خلفيّة روسويّة تمجّد الطبيعة وتذمّ المجتمع وتهجوه، ومع الريحاني، هناك تورّطٌ في الواقع وفي العالم الحيّ وشؤونه، كما لو أنّ الريحاني الناضج قد انفصل عن الريحاني الشابّ. وتورّطٌ كهذا هو ما قاده إلى الصحافة وإلى أدب الرحلات كما أثار فيه فضول الاكتشاف والتعرّف، بحيث جاء كتابه «ملوك العرب» الذي نحتفل بمئويّته، بوصفه الأثر الأهمّ في دلالته على التوجّه المذكور.

وإذا استخدمنا القاموس المهنيّ في الصحافة، قلنا إنّ الريحاني كان كاتب «تحقيق» من طراز رفيع. والتحقيق أشدّ أبواب الصحافة توسيعاً لمواضيع التناول واحتضاناً للأصوات على خلافها، وهذا فضلاً عمّا يتطلّبه من ثقافة ومتابعة واسعتين لدى المحقِّق.

وكما في كلّ عمل تحقيقيّ محترم، احتلّ كلّ فرد يلتقيه الريحاني مكاناً وأهميّة في ما يكتب. ولئن بدا بعض الأفراد عرضة للنقد، كما في حالات وأوضاع بعينها، فإنّ الريحاني الذي كان ينقد لم يكن يشهّر. هكذا استطاعت نصوصه أن تقدّم إسهامات معرفيّة رفيعة، يمكن أن نسمّيها بلغة اليوم سوسيولوجيّة وأنثروبولوجيّة، في المسائل التي تناولتها.

وهذا ما ترافق مع اشتغال على اللغة العربيّة وعلى تحديثها. فهو واحد ممّن أعطوا دفعة قويّة لتلك الوجهة التي بدأت في جبل لبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي كانت الإرساليّات الأجنبيّة والترجمات التي أنجزتها عنصراً تأسيسيّاً فيه وفي الحضّ عليه.

وبهذه المعاني جميعاً، وخصوصاً من خلال الكتابة الصحافيّة والتحقيقيّة، كسر الريحاني صورة كانت سائدة للأديب وللمثقّف بوصفه «عبقريّاً» غريب الأطوار، غير مفهوم، يقول ما لا يقوله سواه ويهتمّ بما لا يهتمّ به غيره.

فهو في تقريبه الأدب من الصحافة والصحافة من الأدب كان يحدّث الأدب ويضفي على الصحافة عمقاً أكبر. وبهذا جميعاً رأينا انشغالاته تشبه انشغالات بعض الأدباء الصحافيّين الذين عرفهم القرن العشرون، كالأميركيّين جون ريد وإرنست همنغواي ومارثا غيلهورن، والروسيّ اسحق بابل، والبولنديّ ريسّارد كابوشنسكي.

وفي إحاطته الصحافيّة هذه، وكتابُ «ملوك العرب» شاهد قويّ على ذلك، تحدّث عن كلّ ما رأى وعن كلّ ما احتكّ به على نحو أو آخر. فهو كتب عن الخرافات وعن العادات، عن الملل والنحل، عن تاريخ المناطق والفِرق والعائلات والأديان والطوائف لدى كلّ من الحاكم والمحكوم، وإلى القبائل والعشائر والبطون والأفخاذ، كتب عن الأدباء والكتّاب والشعراء، وعن الكلمات وأصولها بالفصيح منها والعاميّ، وعن الطبيعة بأعشابها وحشائشها وصخورها وبواديها، وعن المآكل وطرق طبخها.

وقدّم صورة عن عالمه الذي وصل به إلى تعريفنا بالهندوس والزرادشتيّين والمتصوّفين، وبلهجات المناطق وقراباتها، وبالتاريخ وعلم الآثار، وشؤون التربية والتعليم، والمدن والقرى والدساكر، وبالحروب والمناوشات والمعارك، لا سيّما حين تحدّث عن العراق في العشرينات، وبالسفن والمراكب والصيد البحريّ وجمع اللؤلؤ وتجارته، وبالمهن والأشغال كذلك.

ولئن كان الريحاني يكتب فصولاً من تاريخ تلك الظاهرات والممارسات، فقد بدا حريصاً على التعامل مع التاريخ بغير طرق الماضي الشفويّة، فـ «التاريخ غير السجع. يجب أن يكون للتاريخ عينان وعقل ووجدان، ولا بأس إذا كان له شيء من البداهة والتصوّر. أمّا القلب فلا حاجة له فيه، ولا يجوز».

وإلى «ملوك العرب»، كان لشغفه بالناس والأمكنة معاً أن أنتج «تاريخ نجد الحديث وملحقاته» و«قلب العراق» و«قلب لبنان» وأعمالاً أخرى، وهذا فضلاً عن اهتمامات فكريّة وثقافيّة بالعناوين التي شغلت زمنه، ولا تزال تشغل زمننا، كالثورة الفرنسيّة وروسيا البلشفية وقضيّة فلسطين ومسائل القوميّة وسواها. وكان من علامات وعيه الكونيّ اهتمامه بالصراع البريطانيّ – الفرنسيّ على المنطقة، وبعلاقات الدول ودور مصالحها في تقرير سياساتها.

فهو كائن كوزموبوليتيّ، يعرف العالم ويجيد فهمه والعيش فيه وفي ثقافاته والتجوال على تخومها. فقد استدخل القيم والأفكار الغربيّة في الثقافة العربيّة، وكتب بالانجليزيّة وربّما كان أوّل عربيّ يفعل هذا، وتأثّر بالشاعر والت ويتمان واهتمّ بتحديث التعبير الشعريّ التقليديّ. لكنّنا مثلما نقع في نصّه وفي هوامشه على المسرحيّ إبسن والمؤرّخ غيبون والمستشرق هوغارث، فإنّنا نقع على القزويني وابن الأثير وابن خلدون والشعراء العرب الأقدمين، وطبعاً على أبي العلاء المعرّي الذي ترجم الريحاني بعض أعماله إلى الإنجليزيّة. ولكنّنا أيضاً نتعرّف إلى متابعته للشعراء المعاصرين كمعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وسواهما.

صحيح أنّه عبّر عن بعض آراء زمنه التي لم تعد مستساغة في زمننا، لكنّه لم يخطىء في الأساسيّات، فرأى مثلاً في العبوديّة والنخاسة «تجارة معيبة»، واعتبر أنّ «البليّة، كلّ البليّة، هذا الجهل المسلّح، هذا الإجرام باسم القوميّة، هذه اللصوصيّة باسم الاستقلال».

وكمثل تعدّده الثقافيّ كان متعدّد الانتماءات والهويّات، لا يتظاهر بكتمان أيّ منها. فهو مسيحيّ ولبنانيّ وعربيّ ومعنيّ على نحو وثيق بالثقافة الغربيّة وأسئلتها، وقبل كلّ شيء آخر، هو ذو نزوع إنسانويّ يجعله «الرجل النهضويّ» النموذجيّ.

وفي أغلب الظنّ كان لتكوينه هذا، المصحوب بفضول إلى المعرفة وإلى استقصاء الحقائق من طريق طرح الأسئلة وزيارة المناطق، أن جلب عليه تهمة الجاسوس. ذاك أنّ مَن يختلف ويسأل ويستفهم ويتلصّص ويتنقّل لم يكن شخصاً مألوفاً في بداية القرن الماضي في عالم عربيّ كان يومذاك متقوقعاً على نفسه ومكتفياً بذاته.

والعالم العربيّ هذا كان شغلاً شاغلاً للريحاني. فهو كتب أيّام العرب ووقائعهم في عشرينات القرن الماضي، وبدا في «ملوك العرب»، كما في كتب سواه، يحمل لهذا العالم برنامجاً للتحديث والتقدّم لا يبرأ من علمويّات ذاك الزمن ومن ميله إلى التحقيب الصارم وإلى توزيع الشهادات في التقدّم والتأخّر، وكذلك من إصداره أحكام قيمة ومعادلات مغلقة وملزمة. فنحن «في زمان سيّده المال وحاكمه الاقتصاد ومديره الأوّل العلم، وليس عندنا من الثلاثة ما يؤهّلنا اليوم لوظيفة صغيرة في معمل هذا الزمان الأكبر».

والريحاني كان كارهاً للتخلّف، جعله اهتمامه بتقدّم العرب أشدّ إصراراً على نقد التخلّف المذكور. فحين تحدّث عن أقاليم اعتبرها متأخّرة عهدذاك، كتب التالي: كأنّك هناك «تعود فجأة إلى القرن الثالث للهجرة. لا مدارس ولا جرائد ولا أدوية ولا أطبّاء ولا مستشفيات... إنّ الإمام لَكلُّ شيء، هو المعلّم والطبيب والمحامي والكاهن. هو الأب الأكبر».

وهو إذ دافع عن استقلال العرب وحذّر من لعب الإنجليز عليهم وتلاعبهم بهم ضدّ بعضهم، أرفق موقفه بالتوكيد على اكتساب شروط نيل الاستقلال أو الارتفاع إلى سويّته. وهو لم يُخفِ التناقضات العربيّة – العربيّة، ولا قال «كلّنا أخوة»، ولا اتّهم المستشرقين بأنّهم مَن يثير البغضاء في ما بيننا، مدركاً مصاعب الوحدة بين العرب، علماً بحماسته لها، ومحاولاً البحث عن تدرّج فيها يرافقه توسيع المساحات المشتركة.

والحال أنّ فكرة التدرّج كانت عضويّة في فكره، فهو إذ أراد التخلّص من الاستعمار، حثّ الاستعمار، في هذه الغضون، على أشكال أقلّ جلافة في السيطرة وأشدّ اكتراثاً بمصالح السكّان، وحين كان يتناول العلاقة بالدول الغربيّة، وخاصّة بريطانيا المتمدّدة عهد ذاك في الخليج، كان يؤكّد على ضرورة البحث عن مصالح جامعة، من غيرَ أن يكون غافلاً عن المطامع.

وهذا، في عمومه، بدا له ضروريّاً في عشرينات القرن الماضي، بعد الحرب العالميّة الأولى وأهوالها، وبعد «مبادئ وودرو ويلسون» وتأسيس «عصبة الأمم»، وما تبدّى للريحاني ولسواه من المثقّفين عالماً جديداً يولد وينبغي أن يكون للعرب فيه موقع ومكانة.

ورغم كثرة الجوانب والأوجه التي يتناول فيها الحكّام العرب في عشرينات القرن الماضي، فإنّ ما يستوقفني هنا هو ما قد تجوز تسميته بنزع الأسطرة والسحر عن السياسة والسياسيّ. ففي تلك الحقبة، ولم يكن هناك تلفزيون، ولا كانت الصور الفوتوغرافيّة شائعة، رأيناه يتوقّف عند المواصفات التي لم يكن الكثيرون يتناولونها في الحاكم. فهو يصفه بجسمه وملبسه وحركات يديه، محاولاً أن يستقي من وصفه بعض المعاني والدلالات الأوسع. فالسلطان، ثمّ الملك، عبد العزيز «هدم بكلمة من كلماته حواجز الرسميّات فجعل نفسه، تنازلاً، في مقام الصنو والرفيق»، كما أنّ «الرجل فيه أكبر من السلطان». وهو أيضاً «طويل القامة مفتول الساعد، شديد العصب، متناسق الأعضاء، أسمر اللون، أسود الشعر، ذو لحية خفيفة مستديرة... يلبس في الصيف أثواباً من الكتّان بيضاء وفي الشتاء قنابيز من الجوخ تحت عباءة بُنّيّة». وإذ يتناول فيصل الأوّل، ملك العراق، يقول: «كنت أرى في أنامله دليل الاضطراب، إذ كان يُخرج الخاتم من بنصره فيلعب به كأنّه سبحة ثمّ يعيده إليه».

فهو كان مهموماً بتبديد الغموض الذي يحيط بالسياسيّ وبصانع القرار، ويجعلهما مَرئيّين وجزءاً من عالم البشر الأحياء. فالحاكم يُقدَّم، عند الريحاني، بوصفه إنساناً ذا ملامح وذا جسد وعادات وطباع، وهو إلى ذلك ليس كائناً غرائبيّاً عصيّاً على الفهم، عديم الصلة بعناصر ملموسة أكانت علاقاتٍ أهليّة واجتماعيّة، أو تراتُباً سلطويّاً ينمّ عن جماعات المجتمع وعصبيّاتها وقوّتها.

وهذا قبل عقود على موجتين عرفتهما المنطقة في إضفاء المبالغة والهالة على الزعيم: الموجة الأولى التي تمثّلت في زعامات الانقلاب العسكريّ ممّن اعتُبروا أيدي تنفّذ أوامر التاريخ، فأطلّوا على الجماهير من شرفة المجد والغموض. أمّا الموجة الثانية فتلك التي عبّر عنها بقوّة أكبر كثيراً سياسيّون زعموا أنّ لهم مراجعَ في الغيب فاختبأوا وراء غموض وسحر مصنوعين، كما لو أنّهم سرّ أو لغز لا يُفكّ ولا يُفهم.

وبهذه المعاني جميعاً، فإنّ قيمة كتاب «ملوك العرب» الأولى، كما أراها، كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة، وهذا رغم انقضاء قرن على الكتاب. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنّه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

- كلمة ألقيت في الندوة التي أقامتها «دارة الملك عبد العزيز» في الرياض تكريماً لأمين الريحاني وللذكرى المئويّة لكتابه «ملوك العرب»